مقالات

المجتمع الانتقالي: نحو توصيف سوسيولوجي للحال العراقي اليوم

 

د. حميد الهاشمي / أكاديمي وباحث انثروبولوجي

ashimi98@hotmail.com

في علم الاجتماع يشير مفهوم المجتمع الانتقالي إلى: تحول المؤسسات الاجتماعية من التقليد الى سلطة المكاتب (البيروقراطية) وخاصة المؤسسات التربوية والقانونية والسياسية والاقتصادية وحصول تطور في القوى العاملة. وتغير وتحول في البناء السكاني واتجاهاته. بمعنى آخر تقل نسبة الولادات بسبب الاهتمام بالناحية الصحية والغذائية، ويحصل التأكيد على سياسة تنظيم ميزانية الأسرة وتنظيم النسل. وكنتيجة لهذه التحولات تظهر جماعات وتكتلات وأحزاب سياسية ونقابات مهنية عديدة ومنظمات أجتماعية تهتم باحترام الفرد وتقديم الخدمات له. ويكون ولاء هذه التنظيمات الاجتماعية كولاء أفراد القبيلة لرئيسهم.

وسنستعير هذا المفهوم لنحوره بما يستحق ان يكون إطارا معرفيا من جانب ما لتوصيف الحال العراقي اليوم بعد التغيرات الدراماتيكية المترتبة على إسقاط نظام صدام واحتلال العراق.

فالمشهد يمكن تجسيمه بالتغيرات التالية:

 

الدهشة- الصدمة:

 انهيار نظام دكتاتوري قمعي شمولي كرس عسكرة المجتمع وعبادة الفرد على يد قوات اجنبية. الأمر الذي يعني انهيار مؤسساته الامنية التي كانت قائمة وتمثل رموزا للرعب والتعذيب واقصاء الآخر ومصادرة الحريات. وبالتالي فان الوضع المترتب على هذا التغيير هو بمثابة الصدمة للجميع تقريبا، الصدمة لعامة الشعب الذي لم يصدق نهاية هذا النظام العتيد الذي طالما حلموا بزواله. لم يكد يصدق الكثير كيف انه يصبح أو يمسي على قول ما يريد قوله بحق النظام وبحق صدام الذي طالما لُقنوا قسرا ذكره وحبه و "قدسيته". لم يصدقوا ان بإمكانهم شتمه والتشفي منه بإهانة صوره وتماثيله المنتشرة في كل مكان. أما السجناء ممن بقوا على قيد الحياة وذويهم الذين حرروهم بعد انهيار النظام فلم يستوعبوا صدمة هذه الحقيقة.

صدمة من نوع آخر ممن لم يكن لديه تصورا كاملا أو شبه كامل عن حقائق اختفاء عشرات أو مئات الآلاف في مقابر جماعية.

 صدمة "الاصطباح" بوجوه القوات الاجنبية أو قوات الاحتلال التي امتزجت المشاعر تجاهها في أوقات كثيرة وأماكن مختلفة من العراق خاصة في الأشهر الأولى، هل هي قوات تحرير أم قوات إحتلال؟ والى متى تبقى هنا؟ وما هي حلولها الأخرى وإستراتيجيتها غير المنظورة؟

والصدمة الأشد هي تلك التي لم يستوعبها البعض من أتباع النظام السابق وأصحاب النفوذ الذين كعادتهم يقاومون أي تغير اجتماعي أو سياسي أو غيره والذي من شأنه ان يطيح بنفوذهم ومكاسبهم. وحتى وان تمنى بعضهم التغيير فإنهم يتمنوا ألا يأتي على مكاسبهم أو لا يمسها !.

لقد تعودت مجتمعات المنطقة والعالم الثالث عامة أن يكون التغيير بطريقة انقلاب عسكري، يقطع رؤوس الفئة الحاكمة، ويقطع لسان من يلهج بذكرها لاحقا، ويكبت كل صوت معارض، ويستعد إلى يومه الذي ربما يكون مماثلا. وبالتالي فان هذا يشكل جانبا من الصدمة أيضا.

 

مشهد المجتمع الانتقالي:

 وقد تجلى مشهد المجتمع الانتقالي في الحال العراقي هنا في مجموعة من الصور الأخرى أبرزها:

حرية تكاد تكون مطلقة في التعبير عن الرأي، من تعبير شخصي باللسان والتظاهر والكتابة على الجدران واللافتات الى اصدار الصحف والتي وصلت إلى أكثر من 200 جريدة ومجلة، وقنوات أرضية وفضائية يقارب عددها الخمسين أو أكثر وربما يزيد الرقم أن ضمنا تلك الموجودة في إقليم كردستان العراق.

حرية تأسيس والانتماء الى الاحزاب والحركات السياسية والتي يتجاوز عددها المائة أيضا الآن. فهناك الأحزاب الدينية والقومية واليسارية وأنصار البيئة وغيرها.

ظهور مؤسسات المجتمع المدني وجماعات الضغط في المجتمع العراقي والتي كانت شبه معدومة في عهد النظام السابق. فمن بين جماعات الضغط، نشأت جمعيات ذات تأثير تاريخي وإنساني كبير مثل "جمعية السجناء الأحرار" التي قامت بجمع الوثائق المتعلقة بسجناء الرأي والمعدومين من قبل النظام السابق، وتولت إدارة شؤونهم وشؤون ذويهم والمطالبة برد الاعتبار لهم من خلال محاكمة رموز النظام وسن التشريعات التي تعوضهم على الأمد القريب والبعيد.

وكذا جمعيات أخرى من قبيل: "جمعية مقطوعي الأذن والأنف واللسان وموشومي الجبين" الذين كانوا ضحايا ذلك النظام، حيث عاقبهم بهذا النوع من العقوبات الغريبة.

كما وظهرت جمعيات تدافع عن حقوق المراة والطفل والبيئة والحيوان وغيرها.

وتنفست الطوائف الدينية والاقليات الصعداء بعد زمن من الكبت والتابوات التي كادت تسلخ هوية الكثير منهم.

ومن الضروري أن لا ننسى أن سمة عدم الثقة بالحكومة وبالآخر، وبالإعلام إلا ما يدغدغ مشاعرهم، والإيمان بنظرية المؤامرة تبقى سمة بارزة من سمات المجتمع الانتقالي هذا.

 

الفوضوية والجريمة المنظمة:

 وكان من الطبيعي أن يترافق مع هذه التغيرات السريعة والعشوائية الكثير من التخبط والفوضوية نتيجة للتزاحم على النفوذ والدور والمكانة وغيرها للقوى السياسية والاجتماعية الجديدة الطامحة. هذا فضلا عن تنامي الجريمة المنظمة والأعمال الإرهابية التي امتزجت بأعمال المقاومة.

لقد ظهرت الجريمة المنظمة بُعيد إطلاق النظام السابق للآلاف من المجرمين وذلك عشية الحرب الأخيرة التي أودت به. وعاد الكثير من هؤلاء بنَفٓس يعرف بمفاهيم علم الإجرام (criminology) ب"المجرم العائد"، الذي يكون عادة انتقاميا، ومستأثرا ومتحينا للفرصة وذو خبرة، و"ميت القلب" كما يقول المثل العراقي، أي انه قد جرب الأمر ولا يخشى عواقبه كثيرا.

ولعل ما زاد الطين بلة هو عدم مبالاة قوات الاحتلال، أن لم تكن قد فتحت أبواب المؤسسات الحكومية عمدا على مصاريعها لتتركها نهبا لهؤلاء ولغيرهم من اللصوص المحترفين وال"هواة" واللصوص "الأبرياء" الذين اعتقدوا أن هذا ملك حلال لهم يحق شرعا أخذه. وهو ناتج تاريخ طويل من انفصام العلاقة بين المواطن والحكومة ومؤسسات الدولة التي أيقن المواطن البسيط أنها لا تنتمي له مطلقا.

وقدمت أفواج "المجاهدين" من دول الجوار حيث أُهمل ضبط الحدود أو غلقها بوجوههم ووجوه جواسيس وأفراد أجهزة مخابرات دول الجوار والمنطقة. "المجاهدون" يبحثون عن ارض ليموتوا عليها. فهم يقاتلون على أساس عقيدي وبطريقة عشوائية أُستغلوا بطريقة إجرامية، وتم توجيههم إلى أهداف طائفية، لا تخدم سوى أجندات أجنبية بضمنها لاشك قوات الاحتلال التي يريحها اقتتال العراقيين فيما بينهم. ومن المحتم أن الجهة الأقوى في تسخير هؤلاء، هي من يهمها إثارة الفوضى والحرب الطائفية، ونعني هنا "دوائر صدام". ودوائر صدام هذه هي التي تحلم بإنقاذه من حبل المشنقة، أو على اقل تقدير نقل محاكمته أو سجنه إلى بلد غربي.

ويعمل هؤلاء من حيث المبدأ على تنفيذ خطة صدام القائلة "ترك العراق ترابا فيما لو اجبر على ترك السلطة" والتي صرح بها مرات عديدة طيلة فترة حكمه السابقة.

فالفوضى العامة والحرب الأهلية ربما تجعل صداما جزء من صفقة "مصالحة" أو تسوية حرب أهلية كما يحلمون. وان في ذلك الكثير من المكاسب الضمنية والشخصية التي يحققها هؤلاء.

 

الفساد الإداري:

أما الفساد الإداري فهو وجه آخر لاختلال القيم، وتخلف الجانب المؤسسي، وضعف الجانب الرقابي والقانوني. وهو أحد أمراض الدول النامية خاصة، والناجمة عن هذه الأسباب وغيرها التي منها تلك المتعلقة بتبلور مفهوم المواطنة والانتماء الذي اشرنا إليه في السطور السابقة.

فأين عوامل الضبط الاجتماعي من جرائم الفساد الإداري؟ وأين دور الكوابح الذاتية والاجتماعية؟ وأين قوة القانون في مثل هذه؟

إن انهيار سلطة الدولة وأجهزتها الأمنية، وغياب القانون الرادع الذي اعتاد عليه الكثير من عوام الناس، وقدوم ايديولوجيات جديدة تعتمد العقيدة وتطلب الموقف الحازم من خلال تكفير الآخر مهما كانت درجة قرابته "إن لم تكن معنا فأنت ضدنا"، وانفراط عقد الثقة بالآخر، وتباين المواقف من التغيير الذي حصل، وطغيان نَفَس التغالب على النفوذ والسلطة والمال هو الذي اضعف حتى مفهوم المواطنة وشتت الولاءات، ورسم خارطة جديدة من الانتماءات وافرز استقطابات لم تكن مألوفة بهذه الحدة في ماضي العراق.

إن هاجس الخوف في ظل غياب مظلة القانون المعززة والمدعومة من قبل الدولة القوية، والاتهامات التي تُقذف جزافا من بعض الفئات أو الأطراف من بين أقوى الأسباب التي عززت هذه الاستقطابات. مثلما أن غياب سلطة القانون تدفع بالمواطن إلى البحث عن قوى بديلة تحميه. ومن هذه القوى عادة التنظيمات الفطرية المتمثلة بالعشيرة والقبيلة، أو التنظيمات الحزبية أو العقيدية المنظمة والمسلحة، وليس بالضرورة إيمانا منه بها. ومثل هذه التنظيمات الأخيرة تهوّل الأمور وتشخص عدوا أو أعداء ولو وهميين، من اجل ضمان تبعية "قطيعية" لها من قبل بسطاء الناس عادة.

 

شبح الحرب الأهلية: 

يخيم شبح الحرب الأهلية على العراق الآن في ظل وجود اختلاف حاد بين القوى الفاعلة. وتتمثل هذه القوى في قوات الاحتلال التي ترتكب أخطاء فادحة أو جرائم بين فترة وأخرى تعري أهدافها التي جاءت من اجلها، وبين القوى الداعية إلى إخراجها بالقوة، بين الحكومة ونفس القوى أو تحديدا تلك القوى الرافضة للعملية السياسية الجارية، ويغيضها جدا أي تقارب بين مكونات الشعب العراقي. ونشير هنا بدقة إلى التنظيمات الإرهابية الوافدة من الخارج وهي تكفيرية لا يهمها مصلحة الشعب العراقي، بل لديها أهداف وأجندات عالمية.

وبين هذه وتلك وفي ظل أزمات تتعلق بالفراغ الأمني في مناطق متوترة في العاصمة وشمالها والمنطقة الغربية، وأزمات حادة تتعلق بالجانب الاقتصادي مثل نقص الخدمات والبطالة، بالإضافة إلى الدور السلبي الذي تمارسه بعض وسائل الإعلام في الدفع نحو الأسوء. إلى جانب غياب قيادات سياسية واجتماعية جريئة تتصدى للأوضاع وتدفع نحو اللحمة الوطنية في مناطق التوتر هذه، فان المواطن البسيط يقع في شَرَك القوى الضالة هذه والتي تدفعه وقودا للفتنة الطائفية وتزرع بذورا مستقبلية لها.

 

بحثا عن حلول:

 إن الحلول تكمن في تشخيص الأسباب دائما، وعليه فمن حلول هذا المأزق هي: تحجيم دور قوات الاحتلال وجلائها عن المدن الآمنة أولا، وعمل تنمية عاجلة فيها تتمثل في بناء محطات كهربائية ومصاف للبترول ومشاريع اقتصادية ضخمة بضمان أمن هذه المناطق وتكاتف قواها الحكومية والأهلية، ليكون كل ذلك بمثابة عزل للمرض السرطاني وحصر له، ولكي لا تعم الأزمة كامل البلد. ولنا في كردستان العراق أسوة حسنة، دون الحاجة إلى إثارة زوبعة الفيدرالية التي يتخوف منها البعض، بل هي عملية حصر للازمة والمرض حتى يتم استئصاله.

وان ذلك سيكون دافعا وعاملا مساعدا لأبناء المناطق المتوترة ليحذو حذوها في توفير أسباب الأمن في مناطقهم، ومن الأفضل إشراك أبناء هذه المناطق في الخطط الأمنية والتنموية، وبحذر حتى نضمن دعما شعبيا لها. إلى ذلك يتم تفعيل مبادرات المصالحة الوطنية، ودعمها محليا وإقليميا ودوليا.

ولا نتوقع حلا ناجزا سريعا يستأصل سرطان الطائفية الذي تبع الصدمة والدهشة والفوضى والتقاتل في وقت قصير، بل قد يطول الأمر إلى بضع سنوات متقلصا تدريجيا بزوال مسبباته.

في حين يفترض في المجتمع الانتقالي وهو يعيش مرحلته هذه أن يتحول نحو النهج العقلاني والعلمي المتحضر، ولو على اقل درجاته في حل تخاصماته وحكم وإدارة نفسه وتقسيم موارده، وترتيب ولاءاته. وعلى كاهل نخبه المثقفة والمتعلمة تقع المسؤولية بالدرجة الأولى. وعلى الأطراف المتخاصمة والرافضة للعملية السياسية أن تدرك أن الحل الديمقراطي هو أفضل الحلول. مثلما على الجميع أن يفكروا مليا بأن لا يجعلوا العراق حقا بلد الفرص الضائعة كما وصفه الكاتب الهولندي (روبرت سويتريك Robert Soeterik.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com