مقالات

الاعتزال موت ذاتي وسقوط حضاري

خلدون جاويد

khaldoun3@hotmail.com

 ان العدالة والحرية هما النتاجان الأساسيان في تطبيقات التاريخ للمثل والشرائع على الأرض، وذلك عبر فعل ملموس مادي معبّر عن الحاجات الروحية. ولرب سائل يستفهم: " أين الفعل في الجهاد الصوفي لأبي يزيد البسطامي – على سبيل المثال - وأين انعكاساته في العدالة وتحرر بني الانسان؟ " هل في المكابدات والذهول ورياضات النفس ريادة مجدية تؤدي الى اسعاد العموم من الناس وتوفر لهم توجها مجديا في مسار الحياة؟ يقول عمر فروخ: " يتفق افلوطين ومتصوفو الاسلام في - رياضة النفس - للاتصال بالله وفي اشتراط الذهول لحدوث ذلك. ويتفقون أيضا في النظرة الشمولية. وربما جاز لنا أن نقول انهم اتفقوا في نظرهم الى الفيض والاشراق والمعرفة والسكر. ولكن هنالك امورا كثيرة لم يتفقوا فيها".

 ان اشتراط الذهول هنا – في جملة نقدية اعتراضية – تنسف كل مشروع الوعي الحضاري، اذ بالوقت الذي نطمح لتحقيق أقيام الشرائع على واقع الناس والارتقاء بهم نحو نور العِلْمين الإلهي والارضي، يقوم المتجرد من الدنيا الى الانزواء والانشغال بذهوله بعيدا عما يجري في الحقيقة والواقع الملموسين!

- مشاكل العصر تطحن الشعب بينما هو في منآى عن هذه ( المباذل )!

- الشارع يحترق في صراع ملتهب وهو في أعلى الجبل، في كهف من العبادة والانقطاع الى الدعاء والتسبيح.

- البطالة والجوع والخوف تسود حياة شعب ما، بينما هو يتخذ من السهد والجوع سلّما للتعبد والمناجاة والكشف والحلول والفناء! وبالتالي لايكترث لمن يجوع ومن يعرى الخ.

 ويقينا ً ان هذا الموقف يذكرنا بنقيضه من حراك اجتماعي وفعل سياسي يكمن سموه ورفعته بضرورة اسعاد بني الانسان وفق رؤية أعظم شاعر عربي معاصر ألا وهو محمد مهدي الجواهري القائل:

 

وما انت بالمعطي التمرد حقه

اذا كنت تخشى ان تجوع وان تعرى

وهل غير هذا ترتجي من مَواطن ٍ

تريد على اوضاعها ثورة ً كبرى

 

 وأما هناك في المنزوى إياه، فقد غمر الفيض المتصوف لوحده، واذا اشرقت فانما تشرق عليه وحده! واذا يعرف فانما معرفته اسرار لايجدر ان يزل معها لسان واذا سكر فقد تعدى الصحو وغطس في محافل النشوة أي غاب! وماذا يرتجى من ذهول وسر وغيبوبة؟ تلك أيضا ً أسئلة على مشارف الصوفية.

 يقول الدكتور عمر فروخ: " ان الله عند ارسطو هو السبب الغائي الذي ينجذب اليه العالم بالضرورة طلبا للكمال، وان جميع ما في العالم من حياة: من نبات أو بهيم أو انسان تتوق الى تحقيق ذاته بسببه، وكل شيء ممكن الوجود متحقق فيه، انه منزه عن كل ألم أو عاطفة وعن كل رغبة أو حاجة – بالمعنى الذي نعرفه بين البشر-، انه كل مايتوق له الفيلسوف الى ان يكون. وهذا مايود الصوفي أن يكون خليقا به "بالجذب" الذي يمكنه من تحقيق ذاته في الله – من الاتصال به – ".

 الاّ أن وسائل الاتصال تظل عاجزة وحائرة. وقد تتخطّف المنون حياة المتصوف في الطريق العسيرة التي يسلكها. وأي مذهب من هذه المذاهب وسواها، لا تقوى ان تنال سوى خواطر وتصورات واما هي فهالكة. قال أبو يزيد البسطامي في أخيلته المفرطة التي تشبه أحيانا التحليق الحلمي: " اول ما صرت الى وحدانيته، فصرت طيرا جسمه من الاحدية، وجناحاه من الديمومة، فلم أزل أطير في هواء الكيفية عشر سنين، حتى صرت الى هواء مثل ذلك مائة الف مرة، فلم أزل أطير الى ان صرت في ميدان الازلية، فرأيت فيها شجرة الاحدية، فنظرت فعلمت ان كل هذا خدعة ".

 وتعزيزا للحالة الحلمية، قد قال عبدالله بن يحيى بن عبد الصمد في استحالة الوصول الحقيقي: " لو كان ثم طريق موصل الى الله لظفر به الواصل، ولاينال بالسلوك والسعايات، ونيله بالسعاية محال ففرض الطريق اليه محال ".

 اما العبادلة: من تجلت الاسماء الحسنى في المخلصين منهم لله، قد قالوا " الطريق مسدود، والسالك مردود، ويعزى هذا القول الى أبي يزيد البسطامي ". وهو اول من استخدم الفناء بالمعنى الصوفي. فاذن لمن يفنى المتصوف في طريق مسدود؟ لمن لايدخر الجهد من اجل الانسانية فيطبق حب الله ورحمته لعباده على التعاملات الاجتماعية وبين الكائنات؟.

 هناك بلا ادنى شك، موت محتمل قبل الموت، مع ان هناك عذابا ولذة وتصورات وطريقا يفترضها البعض مغلقة والبعض الآخر سالكة. لكن تعددت المساعي والغايات، والموت واحد.

 قال الشاعر أحمد شوقي بعد أن أحاط بكثير من عذابات الدنيا ومذاهبها والتذاذاتها. ( ديوان الشوقيات:

 

نعيش ونمضي في عذابٍ ولذة ٍ

من العيش، او في لذة ٍ كعذاب ِ

ذهبنا من الاحلام في كل مذهب ٍ

فلما انتهينا فسرَتْ بذهاب ِ

وكل أخي عيش ٍ وان طال عيشه

ترابٌ لعمر الموت وابن تراب ِ

 

يقول عبد القادر أحمد عطا، لما يستفاد منه فشل المساعي والغايات، وايضا من أجل التأكيد على لاجدوى المشاق وعلى استحالة تصوير الذات الأقدس! " والشيخ الأكبر – يقصد محيي الدين بن العربي – كان اعمق العارفين صعودا بالاجماع. ولكنه حاول أن يترجم مشاهده في منطقة انقطاع جميع الأسباب، والحيرة والعجز عن تصوير الذات الأقدس بأي صور من الصور. فكل ماخطر ببالك فهو هالك والله بخلاف ذلك، هذه هي عقيدة الصوفية وقمة ايمانهم الذي يمكن تصويره، ولم يقم أي دليل على ان الشيخ كان منحرفا عن هذه العقيدة بأي حال من الاحوال ".

 فاذا اجتزأنا هذه العبارة المؤثرة " فكل ماخطر ببالك فهو هالك والله بخلاف ذلك " فاننا في سفرنا الصوفي نواجه الهلاك الحتمي، سواء في اول المطاف أو وسطه أو نهايته، وبعيدا عن كل الذي تخيلناه من صور و( مشاهدات ). وحياتيا فان درجات حكمتنا البشرية لتعجز على مابها من تضلع في العلم وكهولة عارفة وشيخوخة ذات حصيد كبير من التجارب، عن معرفة سر الموت او ايقافه كظاهرة باقية مدى الدهر. يقول الشاعرجميل صدقي الزهاوي في قصيدته ( الدهر لايهرم ):

 

يمر بنا الدهر في جريه

فنهرم والدهر لايهرم ُ

اقول لشيخ بدا ضعفه

وكاد اذا مامشى يجثم ُ

لقد حان حينك فاخضع له

فانت من الموت لاتسلم ُ

قريبا تَنَزّل ُ في حفرة ٍ

من القبر باطنها مظلم ُ

فتبلى لحومك في جوفها

وتبلى جلودك والأعظم ُ

 

 ان الشاعر الزهاوي ليتخذ من الصورة التعبيرية المتمثلة بالشيخ العاجز كانسان ( الجزء )، والهرم كمرحلة اخيرة من الحياة، مغزى مؤثر مفاده ان بني الانسان ( الكل ) آيل لامحالة الى التلاشي في ظلمات القبر الى حيث المصير والسر العظيمين. وهنا يؤكد على ان الدهر، والذي ربما هو غلاف الحياة والموت والسرمدية، باق. وان هذه الظاهرة التي تجعل بني الانسان على هذه الصورة من المرور العابر لهي أدعى الى التفكر السامي بالمعاني الكبيرة للوجود.

 قال الأديب الطيب صالح في معرض اعجابه المنقطع النظير بالمتنبي قولا أثيرا يُعنى بتفسير أحد أجمل بيت شعري للمتنبي لايمل أديبنا من ترديده ألا وهو:

 

من رآها بعينها شاقه القطّان

منها كما تشوق الحمول ُ

 

 يقول الاستاذ الطيب صالح في كتابه ذكريات المواسم:" ان ابا الطيب اراد ان يضع حياة الانسان القصيرة في سياق الابد، لعل الانسان يدرك لو يستطيع، كم هي عابرة حياته، وكم هي تافهة مساعيه وطموحاته. والانسان، لأنه ظلوم جهول، قد يزين له غروره أن عمره القصير هو الأبد، وانه مخلّد في الأرض، وان لا أحد قبله ولا أحد بعده، ينسى ان اناسا اثر اناس جاؤا قبلنا واحسنوا واساؤا، ثم رحلوا، وسوف يجيء بعدنا اناس قد يرون مانحسبه نحن صوابا، انه عين الخطل وغاية الحمق. "

 ان الاحساس الصوفي عند البسطامي في إلقاء الدنيا في اليم والتوجه الى مطلق الغيب، وان شاعرية الشجن الانساني وحسيته الموجوعة بذهاب الدنيا كما هي عند المتنبي، كلاهما ضرورة

معنية بتسجيل توقيعاتها الدامعة ازاء قضية الفناء المسلط ونهاية الانسان وعائديته آخر المطاف. وكل ذلك أيضا يجري، فجائعيا، بمعزل عن انتصارات الصوفية الذاتية او بطلانها الموضوعي. ومن ياترى يقوى على حالة التوازن الفضلى مابين الاقامة والرحيل والمادة والروح؟!

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com