مقالات

نازك الملائكة تقارع الموت والحرب والشرور

خلدون جاويد

khaldoun3@hotmail.com

ان الموت، ياللبداهة!، خاتمة ٌ للحياة على الأرض. وان التساؤل المرير حول ظاهرته الكونية هو حجر الزاوية في هذه المكابدات المتصلة بعدم ديمومة الأشياء. مكابدات لاتعنى في معاينتها لظاهرة الفعل العنفي (القتل) منذ قابيل وهابيل، بل تعنى بالموت كمحطة أخيرة للحياة. فالموت هنا نهاية الطريق. وهو اللقطة الأخيرة!. كم هذا مفجع لوحده؟ ذلك هو السؤآل!.

ان هناك من الشعراء من أسهم باضافة حسية مرموقة فعلى سبيل المثال،الشاعرة الكبيرة (نازك الملائكة)، التي دعتنا الى درء الحرب والقتل متسائلة: أما يكفي الانسان مأساة بموته الطبيعي أن نسلط عليه الحراب؟ وفي قصيدتها الطويلة

(اغنية الانسان) أقيام رائعة لهذه المعاني والتوجعات الحسية الخالصة والانسانية النبيلة. وما دمنا نعنى بالموت فعلا تراجيديا طبيعيا فحسبنا تناولا لقصيدة (انشودة الموت):

 

لحظة الموت لحظة ليس من

رهبتها في وجودنا المر حامي

وسيأتي اليوم الذي نحن فيه

ذكريات في خاطر الأيام ِ

كل رسم ٍ قد غيرته الليالي

كل قلب ٍ قد عاد صخرا ً أصما

دفنت عمرها السنين كأن لم

نملأ الأرض بالأناشيد يوما

ليس الاّ صوت العواصف فوق

المدفن الصامت الرهيب الستور

وحفيف النخيل في رعشة الريح

ونوح الأمواج بين الصخور

ياجموع الأحياء في الأرض هيهات

يعود الماضي الجميل اليكم

فاغنموا ليلكم وغنوا فمن يدري؟

لعل الصباح يقضي عليكم.

 

ولعل العودة الى ماكتبته الشاعرة عن شعرها في مقدمتها لديوانها هو المصدر الأفضل لتوثيق اصالة التجربة الفلسفية ورقياها على التجربة الشخصية للموت العادي في قصائد سواها من الشعراء.

تتحدث نازك الملائكة عن قصيدة اسمتها " مأساة الحياة " والتي ستظهر في سنوات تالية بعنوان

(اغنية الانسان). تقول الشاعرة: " مأساة الحياة " هو عنوان يدل على تشاؤمي المطلق وشعوري بأن الحياة كلها ألم وإبهام وتعقيد. وقد اتخذت للقصيدة شعارا يكشف عن فلسفتي فيها هو هذه الكلمات للفيلسوف الألماني شوبنهاور: ".. لست ادري لماذا نرفع الستار عن حياة جديدة كلما اسدل على هزيمة وموت. لست ادري لماذا نخدع انفسنا بهذه الزوبعة التي تثور حول لاشئ؟ حتّام َ نصبر على الألم الذي لاينتهي؟ متى نتدرع بالشجاعة الكافية فنعترف بأن حب الحياة اكذوبة وان اعظم نعيم للناس جميعا هو الموت؟ ]. والواقع ان تشاؤمي قد فاق تشاؤم شوبنهاور نفسه، لأنه – كما يبدو – كان يعتقد ان الموت نعيم لأنه يختم عذاب الانسان. أما أنا فلم تكن عندي كارثة أقسى من الموت. كان الموت يلوح لي مأساة الحياة الكبرى، وذلك هو الشعور الذي حملته من اقصى اقاصي صباي الى سن متأخرة. ".

 ان الحياة على قصرها، مثخنة بالآلام والجراح والفقدان، وعلى سبيل المثال، ان شاعرا عراقيا، مضاعا ومضيّعا قد راح يتشبث بالموت حلا وخلاصا هو الشاعر بدر شاكر السياب، يقول الاستاذ ناجي علوش في مقدمته لديوان السياب: " لقد تضائل كل شيء في عينيه، الاّ شبح الموت الذي أخذ يكبر ويكبر. الموت الذي خطف وفيقة واخترم بودلير، وجعل جيكور خرائب.الموت الحقيقة الوحيدة في الوجود. وكان – والألم ينهش جسده – يحس بدبيب الموت في أوصاله، فيطلق من اعماقه احتجاجا مخنوقا ولكنه عنيف: " احس انني أذوب... أتعب ُ.. " الى أن يقول: -

" رصاصة الرحمة يااله ". ان الموت هنا سيابيّ ُ المراد ذاتيّهُ.. شوبنهاوري يؤثر النعيم والراحة الأبدية، انه يتفجع لآلام وأمراض ألمت به فغدا الموت خلاصا. وأما موت نازك الملائكة التي تعالجه وتقارعه في قصائدها فهو المداخلة الفلسفية النقية في التعامل مع الموت باعتباره المواجهة الوجودية ووجعها الروحي والفكري والفلسفي وليس النفعي كما عند السياب وعلى الخصوص في قصيدة (في غابة الظلام):

 

" أليس يكفي أيها الاله

ان الغناء غاية الحياه

فتصبغ الحياة بالقتام؟

تحيلني، بلا ردى، حطام:

سفينة كسيرة تطفو على المياه؟

مات الردى، اريد أن أنام

بين قبور أهلي َ المبعثرة

وراء ليل المقبرة

رصاصة الرحمة يااله!. ".

 

كم من معنى لم يكتب لحالات وفاة عادية ألمت بملايين الناس وقد راحوا يتمتمون بالبسملة والحوقلة من أجل لحظة موت يسيرة. مثلما تمنى السياب الرحمة، وعدا جمالية التعبير في " رصاصة الرحمة يااله " فالقصيدة خلوٌ من وهج وتوق ومناجاة لماهية الموت أو مأساويته. وشتان بين نازك والسياب في هذا الصدد. ان قصيدة اغنية الانسان للشاعرة نازك الملائكة، مشبعة بالهواجس الفلسفية والطافحة بالبحث عن معنى الوجود وظاهرة الولادة والموت، والبحث عن السعادة وماهيتها وعموم مواضيع الفلسفة الاخرى، تتناول نازك بمشاعرها الفياضة قضية الحرب التي تحنو على مأساتها بالحزن الشفيف وهي الشاعرة الحساسة التي تتمنى من اعماقها زوال هذه الظاهرة لما تسببه من آلام للبشرية. ولو قورنت زاوية النظر الى الموت من بعديه الوجوديين مع موت السياب الشخصي للمسنا الفرق في تناول طرائق الشعور واعتمال الذهن والهمس بالمفردة في نسج من تأوهات ومناجاة مع الدهر عن احوال الدنيا وما تؤول اليها النهايات من حزن وألم تماما مثلما عبر الشاعر صلاح عبد الصبور: " اجلس في ركني الجامد كالكوب الفارغ ". هناك فراغ وجمود وجدب خلف صخب الحياة الشخصية المتجسدة بلا متناهي أعداد من البشر. (اغنية الانسان):

 

كيف يادهر تنطفي بين كفيك

الأماني وتخمد الأحلام ُ

كيف تذوي القلوب وهي ضياء،

ويعيش الظلام وهو ظلام ُ

أين أين الذين غنوا على الأرض

طويلا واستبشروا وأحبوا

لاصدى من غناهم ُ لا لهيب ٌ

من احاسيسهم يثور ويخبو

ليس منهم الاّ القبور حزينات

تبقت على ضفاف الحياة ِ

جف نبع الحياة فيهم فلاذوا

في سكون ٍ بعلم الاموات ِ

 

 وللشاعرة نازك الملائكة رأي ازاء ظاهرة الحرب باعتبارها تدخلا مضادا للفرح الكوني المتجسد في الاغنية والجمال. انها اسكات لنبض العروق ودفن للحن. ولاتنتج الحرب الاّ انقاضا ً من بقايا البشر ومن الحطام المركون. ان الشعر على يد الشاعرة نازك ليعمل على تقبيح وجه الشرور المتجسدة في الحروب التي تميت الانسان قبلما يموت ميتته الطبيعية. وهي بذلك تقف موقفا رصينا ضد دعاة الحرب ومصاصي دماء الشعوب وتجار السلاح والمرضى والساديين والدكتاتوريين. أي ان الفلسفة تتدخل وهي منحازة في زوايا نظرها، وتناضل بوصفها موقفا. واستنادا الى فلسفة القرآن الكريم فانه " من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا ". وهناك بلا شك دعاة للحرب وموردين لأسلحتها ومنتفعين منها. الاّ ان الفلسفة الانسانية وقصيدة المحبة والاخوة بين البشر وعلى لسان الشاعرة الملائكة لتؤكد على ان الحياة جديرة بالجمال والتغني،

(اغنية الانسان):

 

الاغاني التي تلامس خد الليل

ملساء صافيات الشفاه

نام فيها لغز الجمال وأغفت

فتنة الحب والشباب اللآهي

جف عرق الحياة فيها وعادت

ذكريات مطموسة الألحان ِ

في زوايا الأنقاض قد سردتها

الأعمدُ الباليات للجدران

وتلول الأنقاض تروي الأقاصيص

لسمع الظلام والأشباح

عن فلول الذين عادوا من الحرب

حطاما وحفنة من جراح ِ.

  

ان الصورة الشعرية هنا تلامس قلب الواقع، وهي لاتعكس المفهوم القديم في كون الشعر اعذبه أكذبه. انما الحال هنا ان القصيدة على مابها من شاعرية حالمة، فان بها ايضا ذلك الامتزاج النبيل لما هو عاشق للصفاء والفتنة في وجه الحياة الغضر المتجسد بشبيبته، وهو رافض لتلك الكوارث والانقاض والظلمات التي تخلفها الحروب. انها قصيدة مضمخة بالعبق الشعري لكنها أيضا مسؤولة حاملة لبذار الحياة مدافعة عن السلام. انها قصيدة تعلن الاختيار في موقف وجودي وفلسفي من مفهومي الخير والشر. انها تعلن انحيازها كما هي الفلسفة الانسانية، الى معسكر الحياة المدافع عن الأمن والسعادة. تلك هي أهم الدروس الابداعية للشعر والفلسفة التي عجز القرن العشرون عن السير في هديه، والأمل بما هو قادم من الأعوام والقرون.

 ***************************

 

* مع اقدس آيات المحبة واجمل اماني الجيل الى استاذته الألمعية، تلك التي عشق فيها جماليات الشجن الشعري الشاهق والفكرة الفيلسوفة النبيلة، استاذته في الأدب والحياة الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة.

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com