مقالات

ومض التسامي وعودة الروح

خلدون جاويد

khaldoun3@hotmail.com

  يكمن التصوف في حالتين : استغراق روحي في الطبيعة وسر الخلق او اعتياض عن خيبة في المثل السائدة في مجتمع طبقي يسحب البررة والتقاة الى عوالم الحلم ونبذ الدنيا . وفي هذا الصدد ، هناك من يقول :"ان التصوف هو دعامة المتعالي وسنده عندما يتهاوى الأمل في كل ماهو مجتمعي . "ويخلص جان شو فيلي الى القول:

"وعندما يتسارع البشر الى طلب اللذة والسيطرة عليها ، بدون سمو ولاتعال ، وعندما يتكالبون على طلب الربح ، ويلهثون جريا وراء السلطة فانه ، خلافا لذلك ، يوجه المتعالي قوى الرغبة كلها الى التحرر من تلك الأنواع الثلاثة من الطغيان أي يوجهها الى العفة ، والعدالة والحرية . والحب الذي يلهم السمو المتعالي ويؤسسه لايمكن أن يكون الاّ منحة ، وابداعا وترقيا ، واذا كانت الصوفية انما نشأت في الاسلام، فهي صادفت منه أو ايقظت أنبل ميولات الضمير الانساني ونالت بعدا كليا عالميا . ".

 يقول جبران خليل جبران في قصيدة نوعية له طويلة بعنوان المواكب يعزز فيها فكرة المجاورة والاقتراب من الملكوت السامي عبر الترفع عن الرغد والكدر . وهنا في هذا النص الشعري يرتقي عموم الموقف الى درجة أبهى من مجرد التصوف والاعتزال والتعبد والانكفاء جوابا على شحة وعسر الحال الدنيوي . ان النص لايبالي بالرغد والوفرة والسعادة وربما حتى العدالة الدنيوية . ان الحس الجبراني دعوة الى مرتقيات تنيف على ما ذهب اليه جان شو فيلي من حيث ان الطغيان مدعاة للجَنَف ِ الصوفي والى الرد على الماديات بالروحانيات والتهافت على الصراع الدنيوي بالانزواء الاخروي ، بل لقد ذهب جبران شعرا الى شواهق زادت على موجبات تصوف الغزالي الذي اعتزل الدنيا وماكان له فيها من رخاء . ان النص الجبراني يجاور الظل بلا دوافع ، بل بحنين نقي الى حب الربوبية . ( المواكب ) :

 

وما الحياة سوى نوم ٍ تراوده

أحلام ُ مَن ْ بمراد النفس يأتمر ُ

والسر في النفس حزن النفس يستره

فان توالى فبالأفراح يستتر ُ

والسر في العيش رغد العيش يحجبه

فان ازيل تولى حجبه الكدر ُ

فان ترفعت عن رغد ٍ وعن كدر ٍ

جاورت ظل الذي حارت ْ به الفِكَر ُ

 

ان النص هذا منفتح على دلالات كثيرة وتأويلات عميقة ، لكن الذي يهمنا استقاؤه منه ، هو ان النشاط الانساني في الحياة بما اشتمل عليه من يقظة ومنام ومن افراح او احزان أو اية فعاليات اخرى انما هو حالة ٌ دنيا لحركة الانسان في الحيز الزمني أو الاطار الحياتي . وان ما هو أساسي ، كما يفيدنا النص في وضوح معناه ومغزاه ، هو التحليق عن كل مايجري من ممارسات وانشطة الى حيث عوالم النفس او الروح . هناك فحسب وفي ذلك الجوار المنيف يجد الانسان قيمته ونيافته عندما يدرك سر النفس وروعة العوالم إياها.

 فالمعادلة الجبرانية لا تنطلق من الانزواء كرد فعل او اللجوء جراء خيبة بل انها حسنة الطوية نقية التعلق ، وهذه الجمالية النادرة تسبغ على المحبة صفاءها ، وهي تعلّم المحبة الروحانية في عوالمها الملكوتية التي لاغرض لها في العشق الأ العشق وقد نقل عن محيي الدين بن العربي انه قال : " كل ٌ يريدك لنفسه وأنا اريدك لك ! ". وكم من عبرة في نورانية مؤتلقة لايستفيد منها هؤلاء الراكضون خلف التعيّش والرشوة والمنصبية والتحزبية والطائفية . ان محبة البشر والرحمة هو الوجة الآخر للايمان وطهرانية الروح . ان هؤلاء الأحفاد يهدمون المعابد وهم جميعا يؤمنون بالله فأي اله يعبدون ؟ انهم يتعرقون في الصلوات الخمسة حبا وزهدا وصوفية ً لكنهم يسكنون في بيوت من دم ويقتعدون القبور عروشا وينتهلون من دموع ابناء شعبهم ما استطاعوا الى القتل سبيلا به يتيتم الاطفال وتثكل النساء وترتدي الارض والسماء ثياب الحداد . فكيف هم وطنيون ؟ وكيف يكون دينهم جميلا وهم قتلة ؟ وعن أي دين يدافعون ؟

 ان جبران خليل جبران يدعو الى الترفع عن الرغد وسلطة المال وشهوة الحكم ، وعن الكدر والحزن والفجيعة وعدم الاستجابة لها او صنعها وتسليطها على الناس . وانك تقارب الطهرانية الأوثق كلما التزمت وحزمت امرك بالخروج على طاعة الاحتراب الحزبوي .

 ما اروع شعر جبران وهو يدعو الى اعلاء الذات فوق مباذل الدنيا والتحليق الى الروحاني ؟ من في غضارته لو ننتهل منه محبة الأرض والسماء ونغدق على شعبنا الجريح بعطايا الشعر والفلسفة ، وقيم اروع تراث فكري ، وتاريخ اسنى واولى حضارة ، تلك التي عرفت القانون والعلم والملاحم . يقينا ان قتل بعضنا البعض لايمت بصلة الى عراقيتنا الطافحة بالنبل والطيبة العريقتين . ان وقفة ثبات واحدة لشعب عانى الويلات ، وتساميه على الكدر الملم به ، هو المنجى الوحيد لعراق عودة الروح برفيف السلام وأجنحة المحبة . وأين كل ذلك وقد اختلطت المهود بالتوابيت والولادات بالموت والطيبون بالقتلة ! ولم يعد يدرى بأي ٍ من رصاص الاخوة الأعداء نقتل ؟ ! . وقد قال الشاعر قديما ً :

 

وسوى الروم خلفَ ظهركَ روم ٌ

فعلى أيِّ جانبّيْك َ تميل ُ .

 

اننا بأمل مجيئ غودو ، وإطلالة جبران التسامي وعودة الروح العراقية . وذلك هو السهل الممتنع الذي لامناص من كتابته الاّ بريشة الدم والدموع !.

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com