مقالات

رسالة مناجاة ... الى الشاعر ابي القاسم الشابي

خلدون جاويد

khaldoun3@hotmail.com

 ياأيها الشابي المُؤْنق .. تحية العاشق

أما بعد : اذا لم يكن المرء ليقوى على أية فتوحات ملموسة في عالم المعرفة الماورائية فمن الأحرى به ترقية الذات ، فالجمال في حدوده الأقل هو اسباغ  روح العدالة على الدنيا ، والسلام بين البشر هو المعنى الراقي للماهيات السامية التي يصعب مشاهدتها بالمعاينة الملموسة !

 ياشاعرا في الفلسفة كما انت في عشق الاوطان ، ان دروب العلم الوعرة هي سلم من سلالم الاناقة وان روح التلمذة طريق للحضارة ، وانت يا أبا القاسم تشد من ازرنا في مراقي اللهيب والوجد الى ذرى العناق الكوني وانت القائل كلما تعثرنا في شعاب الصعود :

 

ومن يتهيب صعود الجبال

يعش أبد الدهر بين الحُفر .

 

 ومن لايذهب الى العلم يذهب الى القتل . والحُفر هي قاع المهارشة الدموية والقيعان التي يذبح فيها الأخ أخاه في غابة تحلق فوقها حمائم الشعر والفلسفة وهي تهمي الدموع على بشرية تحترق . 

  ياايها المكابد وجعا للمعاني ! رسالتي اليك لا يحجبها موت ولافضاء زمني او مكاني ، الكلام في الكون متصل ! والمناجاة ضفيرة من نسيج الروح . أبدأ لأقول : أهي نفحاتك الملتاعة ، قد حلقت باللهيب لكثرة ما تطوحت مثل سجين في زنزانة الجسد ؟ ام انها الروح وقد أحدقت بها الجمرات ؟ .

 اناجيك اليوم وأتطوّح مثلك في اسئلة جمة ، ولا من اجابة على غموض مطلق ، لكن ومهما كنا فاننا لم نزل وراء لانهائية من الكونكريت ! فاننا نخربش كلماتنا على جدار الزمن أو مثلما يكتب المحكوم بالاعدام مذكراته . ايها الشابي الرفراف ، لقد قرأت لك تشظياتك ورأيت كيف تحترق في فضاء مريب :

 

مهما تأملت الحياة ،

وجبت مجهلها الرهيبْ

حتى دهشت ، وما أفدت ُ

بدهشتي رأيا مصيبْ

لكنني أجهدت ُ نفسي ،

وهي بادية اللغوبْ

ودفعتها وهي الهزيلة

في مغالبة الكروبْ

في مَهْمَه ٍ متقلب ٍ

تخشى غوائله ، جديبْ

فاذا اصابت من مناهله ِ

شرابا تستطيبْ

أروت جوانحها . وذلك

حسبها كيما تؤوبْ

ومن ارتوى في هذه

الدنيا تسنمها خطيب ؟

او لا فقد ركبت من

الأيام مركبها العصيب

وقضت كما شاء الخلود ،

وفي جوانحها اللهيب .

 

  يا حاملا جذوة الحيرة ومجسات العلم في طبيعة سرية وكون غامض ، طوبى لك ، لتأوهاتك واحساسك الذي تواجه به بلادة الآخرين من الذين يمرقون في الحياة مروق ذيل سائب ... ها نحن معك نتقصى مغزى الروح ودلالتها في الشعر ، وانطواءاتها على ماهو شكوكي غامض وعاجز عن الوصول الى ماهو يقيني ، وذلك لأنها مخلوقة – الروح - وغير قادرة على معرفة كنهها فهي والحال هذه معذبة مغلوب على امرها وهي في نهاية المطاف آيبة لاخلود لها هنا ، بل ملتهبة تحمل في جانحيها التشظي والاحتراق .

نعم يا أبا القاسم الشابي ، لقد رجحت الجانب اللآادري او ربما الجديب من التصورات في قصيدتك ( قبضة من ضباب ) ومن ذا الحكيم الذي لايدور في مدارك ؟ وياليته يأوي الى يقين .

 والتساؤل المرير ، ما الغاية من روح تجيئ من هناك وتسكن في طوقها المادي ومن ثم تتعذب في تساؤلاتها ومناجاتها ؟ انها في واقع الأمر غرابة عميقة ، كان قد اوردها شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء جميل صدقي الزهاوي حين قال :

 

أسائلتي عن غاية الخالق اسكتي

فهذا سؤآل ٌ ماعليه جواب ُ

 

ولكن اذا لم يكن أمر التعرف على مغزانا ومعنانا  بالمجدي ، وانها حلقة مغلقة بل قلعة في اللآمكان واللآزمان ! فلمن نتدارس ونتأمل وندور كالكناري الجريح على قطرات من دمنا ليس الاّ ؟

 انها في واقعها المرير وكما يقول البعض ، سفرة في فضاء العلم لايعرف لها دافع سوى ان للانسان حق تشغيل الماكنة الراقية في جمجمة هي ليست حجرا كما يريد لها المتحجرون والمرعوبون من العلم. انها شهوة التحليق في فضاء الجمال .وان امة لاتحلق في فضاء الأسئلة فانها تبقى في حضيض التكرار .

 هكذا راح الاستاذ محمد جواد مغنية يبحث في عوالم الحسن والبهاء الفلسفي من اجل ان يتعلم ويعلم ، ان في كتابه ( معالم الفلسفة الاسلامية ) دررا في اصداف وهو الأديب الأريب القائل :

" لقد تعددت الاقوال في حقيقة النفس ، حتى بلغت أربعة عشر قولا اسخفها القول بأن نفس الانسان هي الله بالذات ، وأضعفها انها الماء والهواء والنار فقط ، او هذه العناصر الثلاثة مجتمعة ، لأنه لاحياة لمن فقد احدها . وأشهر الأقوال قولان : الأول انها جوهر مجرد من المادة وعوارضها ، أي ليست جسما ولا حالة في جسم ، وانما تتصل به اتصال تدبير وتصرف، وبالموت ينقطع الاتصال ، وعلى هذا الرأي جمهور الفلاسفة الالهيين ، وأكابر الصوفية ، والمحققين من علم الكلام كالطوسي والغزالي والرازي . والقول الثاني : انها جوهر مادي ، ذهب اليه جماعة من المعتزلة ، وكثير من المتكلمين . وقال الحنابلة والكرامية وكثير من اهل الحديث : كل ماليس جسما ولايدرك باحدى الحواس الخمس فهو لاشئ .

 واستدل القائلون بأن النفس جوهر روحاني مجرد قائم بذاته ، واستدلوا بأدلة : " منها ان نفس الانسان تعرف ، وتعرف انها تعرف ، والمعرفة ليست من خواص الجسم ، والاّ اتصفت كل مادة بالإدراك " .

  ان المتشبث بأردان العلم الروحاني او النفسي لابد من ان يمر بالثوابت الاولى اذ وردت كلمة نفس في القرآن الكريم ( 61 ) مرة . والروح ( 14 ) مرة . وقد ثبتت الآية الكريمة : " ويسألونك عن الروح قل الروح من عند ربي وما اوتيتم من العلم الاّ قليلا " .

 ومن خطبة للامام علي ( ع ) في كتاب ( روائع نهج البلاغة ) : " عباد الله ، زنوا انفسكم قبل ان توزنوا ، وحاسبوها قبل ان تحاسبوا ، وتنفسوا قبل ضيق الخناق وانقادوا قبل عنف السياق واعلموا انه من لم يعِن على نفسه حتى يكون له منها واعظ وزاجر لم يكن له من غيرها زاجر ولا واعظ ! ".

 وفي تضاعيف النص الاول اعلاه حالة مستعصية على الفهم ، فالروح غير مدركة بشريا ، وظلت ملك (الخالق ) ، ولن ينالوا من علمه الاّ بما تتيح ارادته . لكن النفس او ( الروح والعقل ) في حمأة داخلية على مد العصور ، تحاول معرفة ذاتها وادراك ماهيتها . ومن جهة اخرى وعلى ارض الواقع فانها وحدها تراقب الصالح والطالح من فعلها. ولها الدور الفاعل من ضبط وكبح مايصدر عنها من لواعج خارجة عن المنطق والفضيلة .

 وعلى هذه الخاصة الجوهرية والحاسمة في اعلاء وترقية النفس تركز الكلام الغزير بلاغيا ً.

  ان الفلسفة هنا بعيدا عن انتماءات الدين السياسي ، تلوذ بالمعاني الشماء لمعنى الحياة كيما تفرش واحتها بأطياف الشمس وعرائس القمر ، لابدماء السيوف والرماح الشاخصة برؤوس الضحايا دفاعا عن مبادئ التطرف والصفقات الأردأ إزاء روحانية الكون ألا وهي : المنصب السياسي والجاه والمال .

 

  

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com