مقالات

غزل المدن

خلدون جاويد

khaldoun3@hotmail.com

 * باص 23 اسكان غربي بغداد

 يقف كل صباح تحت مظلة الباص... الباص 23

(باب المعظم – اسكان) ذلك الذي يأتي محملاً بأشذاء الصباح من السور والطوب وحيث مدرسته في البارودية أيام زمان. يمر بالأنداء والظلال الرخية، بدكاكين القيمر والكاهي، يتحمل بأقداح الشاي، بأريج الحامض، ودارسين الحمامات، ويتحشد بعبق الخبز الطالع من أزقة الأكمكخانه، يأتي بحنين الرصافي الواقف قبالة الجسر، وينساب مضمخا بالشعر حيث سوق السراي معبد الكلمة الخالدة، من هناك وعلى طبق (الخوص) يصفف ضفيرة الدنيا الذهبية تاجاً لرأس خولة الجميل، اشرطة ً فضية حِيكتْ بأصابع المتنبي، اقراطا تتضوع بعطر الجواهري، حناءً من دم السياب، التياعا هاشميا لتقبيل السحنة بشفاه سماوات مغرورقة، اغاني وهلاهل من شعراء الطف، بوسات من احمد الصافي النجفي، قرآنا بسلسلة ماسية يحط بين نهديها المؤرنبين، أقلام حمرة ووهج مصابيح وعطورا وحمالات نهد من شارع النهر.... قداسة من دم بهيجة الجسر.

 الباص 23 يتبارك بالماء المهفهف بالنسمة واندياح النوارس الزاعقة على دجلة، يدور على ساحة الشهداء باليمن والرضا معتذراعن مسيس عجلاته.... فالأحمر الليلاند يأتي بمن ٍ وسلوى للمنذورين انتظارا تحت المظلات والواقفين بخشوع وصبر.

- متى يأتي؟.... لا وقت محدد له؟

- ربما هو الآن يجتاح الشواكة الموردة باللهفة... ينافح بالأنين الطويل... يلهج بأعلى لغات الدنيا صمتاً!

 آه ٍ لو يقوى... لو يقوى لسلّم لي كما يفعل المصلون في خاتمة الصلاة على اليمين ليخص الشيخ معروف بهزالي وكبوتي ودنو أمري. اواه.... هل تعلمين... لقد جسّني الغزالي، وبكى على ذلي السهروردي وتاقت براثا الى ضم حزني... وموسى بن جعفر يممني شطره، وجادت علي ّ المقبرة التركية بالياس والماء الساخن والكافور، والانجليزية شهدت انطواء كفني وأُم ّ ُالعظام وسّدتني.

 23 يحييّ على الكتف اليسرى ليعنيني بطول المقام،،، بإندراس سومر فيّ... فها هو المتحف الام في الارضوملي مهاد جراحي المرمرية، وخرزه الجامدة دود على انكيدو وجهي.... وكلكامش!! كلكامش لا أمل له بذؤآبة من شعر خولة.... واتونابشتم سد ّ على وجهي الباب الى المعنى، والكمثرى اكلتها الأفعى... عشتار العشق تئن بروحي. بابل اطلال ٌ لامستقبل لي.

 23 يتثاقل بخواتم الخورنق وسدير، بجرار الفيحاء، بقلائد اميرات الحضر، ها هو يتناسغ بالسعف والزهر والآس ممتلأً بأريج المتنزه، متنزه السكك حيث بكور الهدأة والخلوة، حيث يلملم الظل والأثل والماء، ويسرق خد الجوري ولمى القرنفل، يكلل واجهته بالرازقي واليلدز والختمة... يجرجر خلفه اللبلاب وورد الساعة وحلق الأسد.

هاهو يشتعل بأصداء زفة ويحترق بايقاع دبك ملحمي.

هاهو يتوضأ مطرقا لآذان جامع حي دراغ ويتلاهث مسرعا الى محراب كالمذبح، يميس بالتين راحة حلقوم لفمها، وبالزيتون غصنا على جبينها، وبالعنب أقراطا ً من ماس للاذنين وبالتوت الأحمر لونا لشفاهها وبالنبق بركة ليديها.

 ها هو يمر بحي الزعيم المغتال، وحي المعري المظلوم، واسكان الشهداء المكلومين، ها هو يعبئ رئته بالسحر مرة وبالشعر اخرى وبالحنين الدامع.

 هناك وحيث يقف 23 ليمكث في واجهة زقاق ضيق، تطل خولة مسرعة بأقدام الغزالة القيثارة! المحناة بطوفان اول نجيع على الأرض، بدم هابيل، بخلخال من صنع سنمار المهندس، بخواتم بصراوية، بزركشات حدباء باهية، بعطر من غابات بعقوبة، مسرعة بظلال البادية الحارة، تصعد بحدائق بابل المعلقة، وتقتعد كرسي الزقورة، تنطق بلسان من عسل كربلائي، تبعث الصوت برنين بيات وأوشار. ولحظتها يموت هو ميتة جامعة مانعة....

 يسيل 23 مثل يخت سومري يعج بالعزيف وهي الشرود مليكة لاتنطق.

 آه... من أجل من نكّست في الحيدرخانة رأسي؟ وتهافت كالذليل في السراي؟ ونذرت في شارع النهر روحي وقتلت على الجسر؟ وتعفرت في المقابر وتحملت بالورد الجارح والقادح من أجل من؟

آه ما أصغرني وأضواني ولمن أقف عند رأسها في زحمة الباص كل يوم مثل تمثال من تل حرمل... اتفسخ بمائة مليون سنة ضوئية ولا أنطق، لا أنطق أنا الآخر! أمام عرش المليكة شفتي قطعة مرمر، ولساني يتحجر!.

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com