مقالات

النظرية زاهية خضراء والحياة كالحة صفراء!

خلدون جاويد

khaldoun3@hotmail.com

يدين الشاعر العظيم مولانا جلال الدين الرومي في احدى رباعياته،حالة التناقض مابين القول والفعل، ولو قمنا بتأويل الرباعية لما يتناسب مع اوضاع السياسة المحلية والعالمية، فانه لحري ٌ بأي حاد ٍ وقبطان ٍ وقائد ٍ أن يتخذ الموقف الاخلاقي ليس الصحيح فقط وانما الحازم في الدفاع عن الصدق، تلك الكلمة المغدورة ابدا في مسار التحولات السياسية على مر التاريخ :

 

" ان قولك ذهبٌ، لكن فعلك قصديري

ولذلك فانك لاتساوي شيئا عند أحد

الجواد الذي ثمنه أقل من القصدير

لاتراه جديرا بالطريق "

 

 ها نحن نقرأ النظريات المبشرة بالخير ونؤمن بها، لكن تطبيقاتنا لها قائم على درجة فادحة من الانانية والفئوية والحزبوية مما ينزل بكامل ماقرأناه في درك الحضيض. الخروج من النصية الى الحياة يقتضي حقا وفعلا ذهنا ميدانيا يرى مساحة الحياة الشاسعة لكي يتبصر الفسيفساء والأطياف برمتها. حبنا الحق للبشرية جمعاء هو الرهان النبيل والخير على روعة الانتماء السامي للكل، وان كل تجزئة وتمييز لبني البشر على مقاسات اللون والجنس والطبقة هو، في المسار التجريبي للسياسة، مآله التناحر وسفك الدم وهو ديدن الشر المناقض للخير بلا ادنى شك.

 ماعلينا الاّ ان نسمو من الانتماءات الطائفية والدينية الى تقبّل البيئة المغايرة بالكامل، واذا اقتضى ان نواكب الدينيين من اية جهة فما علينا الا ان نعمل الى جانبهم، من زاوية فتح النوافذ على الآخرين لا غلقها. ان غلق نوافذ المحبة الدينية واقتصارها على نوع ما من البشر هو الشر بذاته وهو الغاء للآخر الذي هو نظير لنا في الخلق. وبذا فان النظرة الكونية هي نظرة اممية وامومية تجمع كل الابناء في عالم التعايش والتحابب. وان كل تطرف طائفي هو حقا وفعلا نقيض التفتح الذهني وعدو لمسار الثقافة العالمية الشاسعة.

 وردت مرارا كلمة الخير في النظريات عموما والكتب السماوية. ووردت في القرآن الكريم 129 مرة، وكلها تشكل قاعدة فلسفية تعتمد الإعلاء بالحياة الى مصاف الامن والسلام ودرء الشرور والحروب والعلل. ويرتبط الفعل الانساني لتكريس الخير لما يشمل البشرية جمعاء دنيويا وسيستهدف – وفق الفكر المثالي - مرضاة الله في الآخرة.

 وتنطبق الآية الكريمة على روح المعاني الآنفة الذكر " للذين احسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير... ".

 وقد عبر محمد باقر الصدر في ان الفلسفة الاسلامية تقوم على اسعاد بني الانسان ومرضاة الله. وهذا مايحدد مجاراة الفكر للسلوك وفق منظور فلسفي متكامل ولتوخي الدقة فقد أشار الشهيد : " فالفهم المعنوي للحياة والاحساس الخلقي بها، هما الركيزتان اللتان يقوم على اساسهما المقياس الخلقي الجديد، الذي يضعه الاسلام للانسانية وهو : رضا الله تعالى. ورضا الله – هذا الذي يقيمه الاسلام مقياسا في الحياة – هو الذي يقود السفينة البشرية الى ساحل الحق والخير والعدالة ".

ان هذه المنطلقات النظرية هي التي تحتاج في عالمنا اليوم الى قسرية الالتزام بالحفاظ على حيوات الناس التي يجب ان تصان لا ان تهدر كل يوم فتنزل بالنظرية الى مستوى الجريمة النكراء.

 هنا كأنما النص في واد، والاحتراب اليومي في واد.

 في تضاعيف النص اعلاه رؤية هادفة الى تفعيل الجانب التربوي لدى الانسان وبقصد ان يكون الوازع الذاتي هو القاعدة الصلدة في ضمان انقاذ العالم من شروره. وهنا يذكرنا الشهيد محمد باقر الصدر بما ذهب اليه بيت من الشعر ينطوي على الكثير من الحكمة مفاده " لاتنتهي الأنفس من غيها... مالم يكن منها لها وازع ُ " وفي رواية اخرى رادع ُ. فالذات هي الحجر الصلد الأساس في توظيف الفكر سلوكا وليس التكنولوجيا المتطورة والمفرغة من رؤية حسية. تكنولوجيا لو أخطأت أو زلت أرقامها أو معاييرها أو زلت عقول المشرفين عليها، لأدت بالجنس البشري الى الكوارث.

 انه لمن الواقعي ان نرى، تعقيبا على ادراكاتنا بأهمية الذات ودورها كصمام امان للخير، في ان التقنيات الحديثة في بعض الدول المتقدمة قد اسمهت في اسعاد الفرد وضمان حياته اقتصاديا واجتماعيا وصحيا بما يفوق التصورات بخطل دور التقنيات. ان الرياضيات العلمية قد فاقت بالضمان الدعوات الطيبة لتقديم الصدقة للمحتاج. وهنا فعل قانوني وليس اهابات عاطفية. وكم نحن بحاجة الى اطفاء الصراع بين الفرقاء لكي نضمن الحياة الكريمة لكل طرف من اطرافه. ولكي يُستظل بالعلم والروح تضافرا وتراحما.

 وفي العالم الديني والشعري لابد من ان يشار الى تواشج مسار الشعر مع رؤية الآية الكريمة الآنفة الذكر والخطاب الفلسفي للشهيد محمد باقر الصدر، وأدناه قصيدة الشاعر ايليا أبي ماضي الذي يرى، باسلوبه الشاعري والمعبأ بالحكمة المؤتلقة، جمالية الخير بما هو متوازن ورحوم بين ابناء المجتمع الواحد، جاء في قصيدته (في قلبك الله):

 

إني لأعجب منا كيف تخدعنا

عن الحقائق أمثال ٌ وأشباه ُ

اذا بنى رجل ٌ قصرا وزخرفه

سقنا اليه التهاني وامتدحناه ُ

وما بنى قصره الا ّ ليحجب عن

أبصارنا في زواياه خطاياه ُ

ونمدح المرء من خز ملابسه

وذلك الخز لم تنسجه كفاه

وان أتانا أخو مال ٍ يكاثرنا

بالتبر تيها رجوناه وخفناه ُ

وقد يكون نضار ٌ في خزائنه

دما سفكناه او جهدا بذلناه

لاتحسب المجد ماعيناك ابصرتا

أو ماملكتَ هو السلطان والجاه

المال مولاك ما امسكته طمعا

فانفقه في الخير تصبحْ انت مولاه

مادام قلبك فيه رحمة لأخ ٍ

عان ٍ، فأنت امرؤ ٌ في قلبك الله

 

في النص الساحر الخلاب ضوء كاشف للتناقض وهو يهيب بضرورة تجاوز الزحاف المريع في العدل والجمال.

 وبلا ريب فان القصيدة تضع يدها على نقيصة ألمت بطبيعة الكائن البشري باعتباره قابلا للخطأ والظلم والاستغلال والشر، ولذا يتناول الشاعر البعد الآخر من هذه الخاصة الطبيعية في صلب أو ذاتية الكائن ألا وهي الخير بما يتقاطع مع الخاصة الاولى فيرى الى البعدين من حيث تجاوز بعض من البشر بامتلاكهم للمال على فقراء الحال من سواهم. ان هذا الفارق بين الغنى والفقر هو أهم مسألة بل هو المسألة الحساسة لامتحان النبل البشري. ويحاول ان يسهم الشاعر هذا اضافة الى الدعامتين الأساسيتين الآنفتي الذكر (الآية والخطاب الفلسفي) في أن يُعلي بروحية الغني لكيما يرى الى أخيه الانسان بمنظور الرحمة والتعاون والعدالة والصداقة. ان الشرور بلاشك تتأتى جراء الفائض في الأموال والامتلاك الباذخ في مجتمع يعاني الضائقة والحاجة، وبالتالي قد تنبعث عن هذا ضعف في صلابة الانسان أو احيانا تدنيه الى مستويات الفاقة ومن ثم المعاناة أو الخروج عن الطريق السوي. هذا من جانب، ومن جانب آخر قد ينادي بالثورة على الظالم واستباحة ما لديه من كنز مكنون وثروات مخبأة.

 وختاما، من قال ان الثورة تذهب بثوريتها الى حدود العدالة النسبية بحيث لاتقسو بما يزيد على موازين القانون !. ومن يضمن ان اللوحة تتوازن في حدود بقاء القانون الربحي الرأسمالي ولاينتج طفلا فقيرا إزاءه طفل غاية بالرفاه وهما يعيشان في مجتمع واحد ؟. ومتى نتوازن ونتلاون ونتعادل ونندمج في مسار انساني ليس فيه طبقات ولا احزاب ولا تمايزات وافضليات قومية واقليمية وسواها من الانانيات ؟ تلك هي مسؤليات الغد الخطيرة،تلك اليوتوبيا التي نراها في احلام الحياة!

 قال مولانا جلال الدين الرومي في انموذج حسي وشعري من عالم الرؤى المثالية :

 

" عندما غدت طينة جسم آدم مستعدة

امتزج الجوهر الخالص بالتراب

وعندما كسرت الأفلاك ذلك الجسم الطيني

ذهب التراب الى التراب، والخالص الى الخالص."

 

ومن هم الذين يدركون ماهية الجوهر الخالص ؟ هل هم التجار الاحتكاريون ؟ المرابون ؟ السماسرة، المجرمون، الحكام القتلة، الحزبيون العنيفون حد تصفية الآخر. أم نحن المؤمنون بالنظرية والحالمون بالسعادة، والسائرون على طريق الدم والدموع ؟ بغيتنا ان تزدهي الحياة بقوس قزح من الأفكار فلقد أُجهد القلب من اللون الأصفر الشاحب، بينما الحياة محاصرة بالربيع الذي لامفر منه. والى أن يطل الربيع وشمسه الدافئة سترتعش الطفولة ويشح في ظلمة البيت زيت الفتيل.

 لكن لابد من وميض ولو في نهاية النفق المظلم الطويل.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com