مقالات

يحيى السماوي .. هذا الطائر الجريح المغرد

بقلم الدكتور غازي القصيبي*

منذ سنين طويلة،وأحسبني كنت في المدرسة الثانوية وقتها،قرأت في كتاب مثير من كتب الناقد الساخر مارون عبود عبارة مثيرة نسبها الى أديب فرنسي شهير. سقط أسم الكتاب، وإسم الأديب الفرنسي، من ثقوب الذاكرة وبقيت العبارة " الشعراء الكبار نادرون:بل أنهم أندر من العلماء الكبار". وصف " الكبار" يخيفني، فالشاعر قد يكون كبيراً في الحجم، ولا مبرر للأمثلة !، وقد يكون كبير المقام، والأمثلة كثيرة. كما أن تعريف " الشعراء " قد يكون محل أخذ ورد، بالتعريف الواسع، لا توجد ندرة في الشعراء بين العرب. مؤخرا، أعلن القسم العربي بهيئة الإذاعة البريطانية عن مسابقة للشعر فتقدم اليها مئات الشعراء من أقصى الوطن العربي الى أقصاه. وعدد الأمسيات الشعرية في الأمة العربية لا يكاد يعادله إلا عدد المؤتمرات على هذه الأمة. فلنعدل، إذن عبارة صاحبنا الفرنسي الذي ضاع إسمه ولنقل أن " الشعر الحقيقي نادر ".

من هنا يجئ فرحي كمتذوق يتوهم انه يستطيع التفرقة، عفويا، بين النظم والشعر إذا إلتقيت ببيت رائع، أو مقطع مؤثر، أو قصيدة نابضة. ومن هنا يجئ حرصي على أن يشاركني الفرح أكبر عدد ممكن من الناس.

إليك إذن أيها القارئ العزيز باقة من الشعر، الشعر الحقيقي النادر، من بستان الشاعر العراقي يحيى السماوي.

أنظر كيف تتفجر الغربة شعراً في قوله:

أكاد حتى رفات الميت أحسده

غداة يملك أرض القبر في بـلــدي

وقوله:

وطني؟! يُقال بأن لي وطناً فما

أبصرته.. إلا وقيدي في يــــدي

وأراه أحيانا ينام كطعنـــةٍ

فوق الخرائط.. أو بصوتِ المنشد

قال أبو سهيل: اذهب أيها السماوي فلم يسبقك إلى " طعنة فوق الخرائط " أحد!

وأسمع خوف الشاعر إذا عاد إلى وطنه في يوم لا ريب فيه، بإذن الله، فلم يعرفه أحد:

أتعرف عاشقا قد كان طفلاً غداة مضى.. وجاء به المـشيب؟!

غـداً آتي.. فلا شفة تغني مواويلي.. وتنكرني الـــدروبُ

وتطفـأ ضحكة كحفيف زهرٍ ويومـئُ نازل " هذا غريــبُ "!

وفي الغربة يقدم الشاعر النازح أروع التحيةِ الى الوطن المعطاء الذي أستضافه شقيقا قريبا من شغاف القلب.

يقول عن مكة المكرمة:

حجَـت لها قبل الأنام سماؤها            بحجيج ســجَيل على سُلابهــا

أرض تكاد لفرط عزة رملهـا            يروي عطاشى الماء  وهِجُ سرابها

قال أبو سهيل: ولو يسبقك أحد من شعراء أم القرى ولا من حولها في "حجيج السَجيل "

ويقوا عن أبها الحسناء:

نسلت من الشجر الوريق ضفيرة         ومن الجبال الشاهقات ســريرا

ومــن النجوم قلادة بدويــة          ومن الغيوم الطيبات بخـــورا      

قال أبو سهيل: لا يُقدر الشطر الأول من البيت الأول قدره إلا أهل الخليج الذين يتحدثون، حتى بلغتهم العامية، عن فتاة " تنسل شعرها ".

ماذا عن قلب العاشق في الغربة؟!

يدعي شاعرنا أنه لا يستطيع أن يحب إمرأة ما دام بعيدا عن وطنه، وأنه سيؤجل الحب حتى العودة:

لو كان لي بيتي ولي وطني              لم أتخذ غير الهوى نسبا

إلا أن إدعاء الشاعر يذكرنا بتصريح الأخطل الصغير:

كذب الواشي وخـــاب                من رأى الشاعر تــاب ؟!

وصدق الأخطل الصغير !

هذا هو شاعرنا ينظر إلى إبنة العشرين متحسراً:

وأوَاه كم يؤلم هذا الشجن هنا:

قد اعتنقتِ من الدنيا مباهجهـا            اما  أنا فهموم النـاس أعتــنقُ

لقد شربتُ.. ولكن لا كما شربوا           وقد عشقتُ.. ولكن لا كما عشقوا

وهنا:

فإذا إقتلعت الرمح من جسدي                    غرس الأسى رمحين..والوطن

أفكلما نفضت مركبتــــي                     نفضت عليَّ جراحها المُـدُن ؟!

وبعد:

تحية شكر عميق للأديب الصديق عبد المقصود خوجه الذي نشر للشاعر مجموعة " قلبي على وطني".

وتحية شكر عميق لنادي أبها الأدبي الذي نشر مجموعة الشاعر الأخرى " من أغاني المشرَد "

أما أنت أيها الطائر الجريح فقد أوشكت عيني تدمع وأنا أقرأ:

غداً إذا غفوتَ...من يا ترى             يسقي حقول الورد من بعدي ؟!

لا أدري يا أخي...

لا أدري !

جربت عاج الموسرين..فجربـي          طين الفقير.. وإن جفاه بريـقُ

أغويتني بالحسن.. وهو طريدتي          فطرقتُ.. لكن صدني المطروق

فرقت ما بيني وبيني فاجمــعي          بعضي إلي.. أضرني التفـريق

قال أبو سهيل: لا يلومن كهل أحب إبنة العشرين إلا نفسه !

وإليك هذا المشهد الطريف في الطائرة:

كشفت لترشف قهوة فإذا الدجى                 صبحُ طري الضوء غض المنهل

وجه يفيض عليه نهرُ أنوثــة                 ونسيمُ غاباتٍ.. وشقرة ســنبل

صرخ شاعرنا في المضيف:

بالله يا هذا المضيف.. لحظــة !              زدني ! ولا تبخل عليَ.. فأجمـل !

لا لن أخضَ يدي.. سأشرب "دلة"               إن كنت في فنجانها ستصب لـي

لا أدري ما فعل المضيف، ولا ما فعلت " الدلة " ولكني أعرف أن هذه الأبيات تكاد تكون الابتسامة الوحيدة في "ليل الشجن " كما يقول شاعرنا محمد الفهد العيسى.

 

*    *    *

من كتاب "صوت من الخليج "

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com