مقالات

الشعر انتماء الى السلام والخير والمحبة

خلدون جاويد

khaldoun3@hotmail.com

 الخير والشر مفهومان فلسفيان  يغلفان حياة الكائنات من الأزل والى نهاية ما ! او مالانهاية .  ولأهمية المفهومين يتناولهما الشعر في رؤية تأملية تتسم بالدقة والحساسية منطلقا من  مدارس وتيارات فلسفية مختلفة .

 لنأخذ على سبيل المثال الشاعر الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي وهو يلقي الضوء على مفهوم الشر لوحده باعتباره العامل الحاسم في رسم لوحة العذاب الانساني . لنقرأ قصيدة ( ابليس ) الذي تناولها بلا شك ٍمن ظهير الفكر المثالي وأسبغ عليها وفي تضاعيفها موقفه الرافض للتفاوت الطبقي :

 

أسرفت يا ابليس في الوسواس ِ

فأعوذ منك برب هذا الناس ِ

أغويتني من بعد ما استدرجتني

مستحوذا حتى على أنفاسي

حسّنتَ في عيني الشرور فجئتها

وضممت ارجاسا على ارجاسي

 

الى ان يقول :

 

تلقي العداوة موغرا بين الورى

فتثير أجناسا على اجناس ِ

ولو اعتقدت بهم شعورا في الردى

لتبعتهم تغوي الى الارماس ِ

تذكي الحروب وأنت فيهم سالم

مما يضر بأنفس الاحلاس

أتعست أقواما لتسعد غيرهم

والشر كل الشر في الاتعاس ِ

كوخ حقير ثم قصر شاهق ٌ

ومآتم في جانب الاعراس ِ

لاتستريح وانت عنهم في غنى

حتى توسوس في صدور الناس ِ .

 

 ان الشرور والحروب – هنا وفق استعارة الشاعر للقناع الفني او الشعري - هي من فعل ابليس . لا من فعل رغائب بني البشر في الاستحواذ على المال والغنائم وجراء الحاجة المادية المحركة لها . وقد يكون هذا صحيحا لدى البعض ، اضافة الى قول من يرى ان ابليس هو ذاته الشر في صورة الرغبة الانسانية وهو الذي يوسوس ويدفع الى الاستحواذ والجريمة ! . ولقد قيل في كتاب ( كلمة الامام الصادق ) :

 " ان الشيطان الذي يدير ابن آدم في كل شئ فاذا اعياه جثم له عند المال فأخذ برقبته ". ان الفعل الشرير كما يرى الشاعر الزهاوي يكمن في اتعاس بني البشر لبعضهم . ان اعراسا وأفراحا تقام على اتراح وأوجاع الآخرين . وان قصورا تشاد بتعب وجهد الفقراء من سكنة الأكواخ . وان المشهد غير متوازن لايمت الى الخير بصلة . وهنا ينبع الاستفسار عن الحل العادل لهذا المشهد ! وهنا تؤكد المدرسة الفلسفية المادية على ضرورة نظام المساواة حلا للأزمات الاقتصادية فكيف يكون الناس سواسية كأسنان المشط وأنت ترتع حد التخمة والآخر لايجد قوت يومه . ان التدخل الحاسم باتجاه توزيع الثروة هو الذي يحاصر الأبالسة الذين هم نحن ! او انهم يتحركون في صورتنا ! وابليس ليت شعري ! لو نرد ضمن القناع الأدبي الشعري ، على الزهاوي لشاهدنا ان ابليس لم يضع في جعبته مالا ولا حلالا ولا اقطاعات ولا شركات ولا خزائن ، حصاد ابليس هو الاموال التي بين من يمنع صناعة شرف للانسانية قائم على التساوي والمحبة والخير والسلام ! والسؤآل هل الانسان غير قادر وفق القوانين الانسانية الوضعية ، على حل هذا الاشكال وخاصة ان الاديان والكتب السماوية تدعو الى حب الناس والعدل . أم ان الشرور متاخمة للخيرات وان الطالحات مجاورة للصالحات وان هذا المشهد خالدٌ أبدي ؟ وهنا لايبدو  للعيان ان المشهد يكتفي في صورة التفاوت الطبقي بل يتدنى الى الصراع الكارثي الذي يهوّن عليه قتل الانسان لأخيه الانسان . وياترى بأي اتجاه ستدفع قوى الصلاح والاصلاح بجهودنا ؟ أتوجهها الى قتل الشر في الذات أم قتله في الناس الشررين ؟ ذلك هو الأجيج المتواصل للصراع بين قطبين . صراع يصل الى حد القتل الجماعي في حروب طاحنة .

ان الشعر والفلسفة ليجدان نفسيهما ، جراء طبيعتهما المتوقدة والرحبة ، مع الخير والمحبة ورغم ماعرف عن الشعر من اهتمامات حسية وشاعرية ، فانه على يد الشعراء العظام  ليتدخل وبقوة من أجل اسداء حكمته لبني البشر بالحفاظ على السلام ودرء شرور الحرب : يقول الشاعر أبو القاسم الشابي في قصيدة ( المجد ) :

 

يود الفتى لو خاض عاصفة الردى

وصد الخميس المجر والأسد الوردا

ليدرك أمجاد الحروب ، ولو درى

حقيقتها مارام من بينها مجدا

فما المجد في أن تسكر الأرض بالدما

وتركب في هيجائها فرسا ً نهدا

ولكنه في أن تصد بهمة ٍ

عن العالم المرزوء ، فيض الأسى صدا

 

 ان انسانية الشاعر هنا لتتجلى بضرورة صد الأسى والألم عن العالم المبتلى بالمصائب . فالمجد هو ليس بسفك الدماء والتمتع بأوسمة الانتصارات الزائفة . ان الشابي لاينطلق من الشعر كذات شعرية تمتاز برفضها لشرور الحرب لكن من موقف أخلاقي يدعو الى حب الحياة واحترام انسانية الانسان والتعامل برحمة مع البشر . وهذا الموقف هو أهم نقطة انطلاق لإشاعة الأمان والسلم على وجه المعمورة . وهي نقطة لاتبتعد عن الأديان ظهيرا للرحمة والرفق والمعاملة الحسنة . وقد جاء في الآية الكريمة : " وان جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله ".

 ولقد وقف الشاعر أحمد شوقي ضد شرور الحرب ويعتبرها سفكا للدم في كل آونة. وهذا ماورد في قصيدة" ذكرى استقلال سوريا وذكرى شهدائها".

 

 وكونوا حائطا لاصدع فيه

وصفا لايُرقع بالكسالى

وعيشوا في ظلال السلم كدا ً

فليس السلم عجزا واتكالا

ولكن أبعد اليومين مرمى

وخيرهما لكم نصحا وآلا

وليس الحرب مركب كل يوم ٍ

ولا الدم كل آونة حلالا

 

 الاّ ان الدنيا ذاتها حالة من القتل ، قال الامام الصادق عليه السلام في كتاب (المسيح في

القرآن) : " تمثلت الدنيا لعيسى في صورة امرأة زرقاء . فقال لها : كم تزوجت قالت كثيرا . قال : فكم طلقك ؟ قالت : بل كم قتلت . قال : فويح أزواجك الباقين كيف لايعتبرون بالماضين " .

 ان كلمات الامام الصادق تعبر عن حقيقة الصراع في الحياة وقد جاءت حصيلة للحكمة والتأمل . وهي كذلك لدى الشاعر أحمد شوقي الاّ أن الآية الكريمة والحكمة على يد الامام الصادق وسواه ، والشعراء من الملتزمين ، أي كل هذه العناصر تجنح الى السلم وتتمناه أن يسبغ على البشرية هدأة وسعادة . 

  وتذكرنا الشاعرة نازك الملائكة بالمآسي والأهوال عندما ترسم بيدها الفنانة وروحها السامية الشعور  قصيدة " الحرب العالمية الثانية " وذلك لنستقي العبرة مما سلف من تجارب القتل . وهي ترد بشاعريتها المحصنة بالحكمة وفي أرقى نسيج عقلاني وعاطفي من أبيات حميمية ، ترد بكل قوة على كل نزعات الشرور وحب الهيمنة والامتلاك . وتهيب بنا الى تمثل غنى الحياة لا بالأموال التي يتناحرون من اجلها بل بالثراء الذي تمتلكه الحياة والذي تهبه لنا بكل سخاء ، وعلينا ان نقدر نعمة ذلك ! ان الثراء هو بلا شك ، الضياء والسلام والصداقة كأثمن أنواع الحقائق على الأرض . تقول الشاعرة :

 

وصحا العالم العميق الأسى

وانتهت الحرب بانتصار المنايا

شهدت هذه القبور لها بالنصر

يارحمتا لتلك الضحايا

ثم ماذا ياساكني العالم

المجوّع ماذا من القتال جنينا

هل وصلنا الى النجوم العوالي

ولمسنا اسرارها بيدينا

ضمخوها بالعطر لفوا

بقاياها بزهر الليمون والياسمين

احملوا الميتين في نعش موسيقى

وحب وعطر دمع سخين

واجمعوا الصبية الصغار ليلقوا

اغنيات فجرية الأنغام ِ

وليكن آخر اللحون التي تلقى  

على سمعهم نشيد السلام ِ

فيم هذا الصراع ؟ فيم الدماء

الحمر تجري على الثرى العطشان ِ

والشباب البرئ في زهرة العمر

لماذا يلقى الى النيران ِ

في سبيل الثراء هذا ؟ أليس

الضوء والحب والورود ثراءا

وليالي السلام والأمن هل في

العمر أغلى منها وأحلى ضياءا .

 

 ان الحرب هنا رديف الشر . واننا لن ننال منها وساما ورفعة ونيافة . كلا ولا ادعاء الأفراح والابتهاج بأزهار النصر على جماجم وأشلاء البشرية . ان الرفعة في نظر الشاعرة هنا وكل حكماء العصور من محبي السلام واحترام الانسان هو المعرفة ، والريادة لما هو راق ٍ ومؤنق ٍ ومؤتلق وهو الفتح الفكري والفلسفي :

 

هل وصلنا الى النجوم العوالي

ولمسنا أسرارها بيدينا ؟

 

 ان ضياء الحياة أثمن من صفقات المرابين والتجار في خزائنهم الباردة . خزائن الدم والغدر والموت . والسلام هو الغنى . والى ان يطل ذلك اليوم الذي ندرك فيه تلك البديهية ، سيجري نهر ثالث بالدم والدموع ! . وهذا ليس من فعل الشعوب بل تجار الحروب . ومهما يكن فلابد لوعي العراقيين المعرش بالفكر والفلسفة والشعر والايمان أن يرقى الى تمثل القيم الابداعية والانسانية لشعراء الكون الخيّرين ونوابغ العراق ومنهم الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة انموذجا ساميا وسامقا من ارض الرافدين العاطرة ونبل تاريخها الباهر العظيم.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com