مقالات

على قائمة الانتظار

عقيلة آل حريز

zoooom_6@hotmail.com

حين تزداد مساحات الخيارات في حياة الناس يمكننا أن نقول بأنهم أصبحوا يتمتعون بحرية ما ليفعلوا، وهذه الحرية تخولهم لأن يشحذوا طاقاتهم ويوجهوا أهدافهم نحو ما يريدون، وبذلك فإن لهم رؤية خاصة يسعون وراءها، لكن ماذا إن كانت هذه الخيارات خيارات شكلية، صورية، الغرض منها هو تخديري لا تحريري ؟!

حديثي عن الخيارات سألخصه هنا في قضية هامة بل أجدها تعكس صورة واضحة لكل ما يحدث في المجتمع، وعن حاجة ملحة أصبح من المتعذر علينا تجاهلها بعد كل ما يحصل... لن أتحدث هنا عن مشكلة التوظيف في سلك التدريس الحكومي، فهي مشكلة عامة تشمل كل الخريجين وأقسامهم على اختلافها وهي في الأخير عائدة لسوء التنسيق وعدم أهليته القيادية في هذا الشأن.

بل أجد أن المشكلة تكمن في عدم وجود تنسيق وتخطيط لهذه الخيارات المتاحة بشكل صوري !، فالطالب يتحسر حين يبدأ باختيار تخصصه الجامعي ليجد أن خياراته التي أتيحت له مهمشة، محجمة، ممنوعة من أن تكون فاعلة في المجتمع وغير قابلة للتحول... أي أنه يكتشف في الأخير أنه أضاع سنوات من عمره في عبث لا جدوى منه.. وهذا واقع الحال للأسف..!

وان كان هذا الطالب من المحظوظين وحالفه الحظ، سيجد له وظيفة أخرى تبحر في مجال مختلف تدر عليه رزقاً، كالسائقين، وحارسي الأمن، وعمال النظافة والصيانة في الفنادق والشركات،والطاهين والباعة المتجولين في الأسواق.

 إن العمل بحد ذاته ليس فيه ما يشين طالما جاء برزق حلال وكف صاحبه عن طرق أبواب الحرام، لكن المشين في الأمر أن كل هؤلاء خريجي جامعات ومعاهد مختلفة وأصحاب تخصصات لم يجدوا من يستقبل تخصصاتهم أو يقدرها، والأدهى والأمر من كل هذا أنهم في تزايد مستمر عاماً بعد عام، وما هو أسوأ من الكل أن دخلهم في مستوى متدني للغاية !

 فعلى سبيل المثال لا الحصر خريجي أقسام العلوم الإنسانية والاجتماعية وهم على كثرتهم فإن قلة منهم يمارسون دورهم الفعال في المجتمع، ورغم الحاجة الملحة والضرورية لهم فنحن نجد أن طالب علم الاجتماع عندما يتخرج من الجامعة لا يمكننا أن نقول بأنه أصبح أخصائي اجتماعي، فحتى هذه اللحظة هو لم يصبح بعد، إلا إذا مارس دوره المهني وتخصص فيه،و هذا أيضا يحتاج لمرحلة جديدة من الممارسة المهنية ودورات إضافية وممارسات عملية، علّه يستطيع التخلص من النظريات الجامدة والأفكار المستوردة التي تعلمها والتي لا تصلح بحال من الأحوال لأن تطبق على مجتمعاتنا، وهي حسبما نعرف عنها بأنها مجتمعات لها خصوصية ما ولها طريقة معينة في علاج مشاكلها.

نعم، لا مانع من الاطلاع عليها أو الأخذ بشيء منها، لكن هذا لا يعني أنها تصلح كليا للتطبيق الحرفي... ومن جانب آخر في سلك الانتظار الطويل الذي يقف فيه الخريج وتزداد أعداد قائمته تضخماً عاما بعد عام، نجده ينسى كل ما تعلمه وما لصق بذاكرته من نظريات.. ولا يمكننا لومه على ذلك فهو لم يطبق شيء فعلي حتى الآن على مدى سنوات "طويلة"... وحاله هنا أشبه بحال خريج الطب الذي لم يبدأ بمباشرة العمل فنسي كل ما تلقاه.. فعقله تجمد، تفكيره توقف، إبداعه مات وانطفئ نشاطه على باب انعدام أمل الممارسة الذي لم يأتي بعد..

وبعيدا عن فلسفة المناهج الجامدة والأقسام المهمشة غير الفاعلة، نحن نجد أن مشاكل مجتمعنا تزداد عمقاً واتساعاً كل يوم عن سابقه، لذا يحتاج لعناية و وعي خاص، فللأسف بعض الأقسام التي حمل أصحابها من خلالها رغبة ملحة للالتحاق بها ودراستها بعمق، صدمتهم فيما بعد بما احتوته على أرض الممكن والمتاح من خيبات لا تحصى سواء في أثناء الدراسة أو بعد تخرجهم منها، فلم يعد لها طرح مناسب ولا استقبال أو حفاوة وأهمية، وغيرها الكثير..... لا اعني في سلك التدريس فحسب، فلن يجدينا نفعا رصف الحروف تباعا في عقول الطلاب بدون آلية تعليم متطورة، هذا إن وجدوا لهم أرضاً يطئوها في مجال التدريس إن لم تكن هذه البقعة في منفى بعيد لا عودة منه..!!

لكني أتساءل هنا عن الواقع، عن حاجة ما ملحة في المجتمع لأن تكون هناك مؤسسات اجتماعية رسمية ومكثفة لمراكز خاصة تحتضن كل المشاكل وتتخصص فيها على حسب نوعية المشكلة نفسها – هذا على سبيل المثال لا الحصر -، وإن وجدت هذه المؤسسات فهي للأسف قليلة ونادرة جداً، أو أنها شكلية من باب نحن نهتم بالأمر... !!

أتساءل.. أليس من المفترض في أي مجتمع وجود عيادات صحية مكثفة تعالج أمراض الجسد وتبذل له العلاج السليم، لتساهم في التخلص من الأمراض وخلق بيئة صحية نقية ومناسبة؟!، وإذاً.. أليس من الضروري معها تواجد عيادات صحة اجتماعية تحاول علاج بعض ما تطال من مشاكل تبدو متضخمة عن الحد المعقول وتحتاج لتكثيف مضاعف للجهود وللرؤية الواعية المستنيرة التي يمكنها استيعابها.

 ما الفرق إذا بين أمراض الجسد وأمراض المجتمع خاصة ما إذا أكدت لنا الإحصاءات بأن نسبة كبيرة منها هو مسبب للأول، أليس من الضروري أن يعيش الأفراد أصحاء في مجتمع نظيف ينعم بالاستقرار والراحة، ماذا إن لم نجد كل هذا ولا بدائل عنه، في حين أنه يوجد لدينا حلول أخرى من كوادر وطاقات يمكنها المساهمة بالعلاج، لكنها للأسف الشديد مهمشة لأنها بكماء مقيدة من الفعل لا تحسن شيء.. أظن أن استمرار الوضع بهذا الحال سيُفسد علينا هواءنا وأنفسنا وأسرتنا ومهننا وكذلك صحتنا في آخر المطاف.. ولن نجني من رسم الخطط وفتح الجامعات وتخصيص ميزانيات التعليم ووضع المناهج سوى الشقاء المضاعف.

ماذا عن حاجة أسرة تعاني من مشاكل ما تؤثر على الأبناء ودراستهم، وعن ازدحام خانق وسطها يحرمها من مستوى معيشي على أقل تقدير معقول إن لم يكن مرفه، وعن مراهقين يحاولون إثبات وجودهم وسطها أو يحاولون العبث خارج المنزل للتعويض عن عاطفة ما تنقصهم.. ماذا عن سوء التوافق المهني الذي يجعل الفرد يقضي نصف نهاره بمرارة مجبراً عليها في عمله،سواء مع زملائه ومديره أو مع أداء سيئ في مهنته يؤدي به لترك العمل، وماذا عن سوء التوافق الأسري أو الزوجي.. ماذا عن أب لا يمكنه إيجاد طريقة سلمية للتفاهم والحوار الجاد مع أسرته ؟، وماذا عن زوجة تشعر بعدم الاهتمام والإهمال من زوجها ففقدت على أثره طرق التواصل مع زوجها ومع أولادها فلم ترغب بممارسة دورها كأم وزوجة.. فمن لهؤلاء جميعاً ليستمع لمشاكلهم ويحتويها، ويساعدهم على تجاوزها بنجاح فيعودوا بعدها لدورهم الذي يمارسوه في المجتمع كسابق عهدهم.

 ماذا عن ثقافة الحوار مع الأبناء وحثهم للحديث بكل صراحة عن كل ما تعرضوا له من مشاكل واجهتهم خارج المنزل مع الغرباء بلا تردد أو خوف من العقاب ؟ وماذا عن هؤلاء الذين تعرضوا للاغتصاب والتهديد والسرقة في المجتمع، وعن الذين خرجوا من السجن حديثاً ولم يجدوا توافق ما مع محيطهم فعادوا إليه بجرائم أبشع وأفظع، ماذا عن حقوق الطفولة و قضايا التربية ومشاكل المراهقين، ومجالات الكبت والتنفيس التي لم تُناقش بعد،ولم يأتي دورها ليفعل بشكل جدي وحقيقي ؟، ماذا عن قضايا الانحراف والقضايا المدخلة علينا حديثاً في المجتمع والتغيرات التي تواجه الأسر والطلبة والمعلمين والموظفين ولا يمكن متابعتها بصورة جيدة بسبب تلاحق القضايا الكثيرة ؟.

 إن من المخجل حقاً عدم وجود تخصيص لمرشد طلابي متخصص في مدارسنا حتى الآن، فبعض المدارس حرمت من هذه التقنية لأن الأمر ترفيهي فحسب !، وبعضها الآخر انتهج تفريغ أحد معلميها من مهنته ليشغلها رغم كثرة الخريجين في هذه النواحي... ما أغرب الأمور في منطقهم !!. 

إذاً... أين يمكننا أن نحمل كل قضايانا البسيطة والمعقدة لنجد راحة ما ؟، هل نحملها إلى أبواب المحاكم وهي لا تحسن غير إصدار القوانين الرسمية بعد وقوع المحظور طبعاً ؟!، أم إلى عيادات ومستشفيات الصحة النفسية وهي رغم ندرتها لا تستطيع خدمة كل القضايا إلا من جانب الحالة نفسها، أم نأخذها كعادتنا إلى أبواب الجمعيات الأهلية التي باتت تصرخ باختناق من كثرة الزحام حولها دون أن تتمكن من تحقيق نتيجة مطلوبة ؟، أم من الأفضل أن نتركها تسبح في فضاء واسع طلق بلا حدود تحدها فتزداد حياتنا شقاء بها، وتزداد حلبة الصراع اتساعاً ليشمل كل شيء معها... من لقضايا المجتمع وهمومه إن لم يقم المختصون بدورهم فيه ؟؟!!

حقيقة إن أردنا أن نتقدم وننقد ما تبقى لنا من مسمى الاستقرار في المجتمع فلنحسن استغلال ما لدينا من كوادر وطاقات هي أقرب ما تكون متعطشة للعمل وللتعلم، وتطبيق نظريات وآراء خاصة بها تنتظر أن يفتح لها المجال لتقول ما لديها عملياً، على الأقل هي لن تشترط العمل التعليمي طالما أصبح هو مصدر حساسية للمسئولين كلما طُرحت وظائف جديدة و قليلة طبعاً !!، وهذا أفضل من أن نقيد أنفسنا بجنون التقليد والتعليم العابث الذي يخلو من فهم أو تطبيق أو حتى يمكن أن يرسم دور حقيقي على أرض الواقع، بدل أن نساهم في خلق مجموعة موارد بشرية جديدة تكدس كل عام من الخريجين لتضاف لقائمة الانتظار الطويلة التي لن يحين دورها مطلقاً، ولست أظن أنه سيحين خاصة مع ما نلمسه من مؤشرات واقعية !... بعض أفراد هذه القوائم قد خرج ليغني خارج السرب فبحث عن تخصص آخر سينفق في دراسته سنوات أخرى من حصيلة عمره وليس هو بطبيعة الحال متأكداً من صحة تجاوب مجتمعه مع تخصصه الجديد !!..

ترى بعد كل هذا، هل يمكننا أن نقول بأن فرص الاختيار في الدراسة والعمل كانت متاحة لنا فعلاً في المجتمع، أم أن الوضع كان يجبرنا على السير نحو هذا الاتجاه، حقيقة.. لستُ أظن أن هذه الفرص كانت متاحة للجميع... لأنها تخضع للعشوائية والصدفة وتوافر المقاعد، وليس للدراسة والتخطيط وحاجة المجتمع وضرورة التوزيع العادل للموارد البشرية، هذا كله ليس من عندي فهو بحسب ما يقوله لسان الحال وبحسب ما توحي به لائحة قوائم الانتظار الطويلة الطويلة جداً؟؟!!

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com