مقالات

لك مني يا صدام .. قفص كله ألوان

كوثر الكفيشي / عضوة في منظمة بنت الرافدين / بابل

kawtharamer@yahoo.com

بالأمس امطرت سماء العراق مطرا خفيفا وجميلا مما جعله يعزف لحناً هادئاً وغنجاً على أوتار قلبي، فاهتزت مشاعري وتراقصت أناملي وتراكضت أقدامي للبحث عن الورق والدواة والريشة البيضاء لألون أو أدون ما أشاهده على صفحات هذه السماء، أجل هذه كانت عادتي التي لم استطع أن أغيرها في الماضي لأغيرها اليوم وأنا قد تجاوزت العشرين، كانت هذه عادتي وأنا في سوريا فكيف سأغيرها وأنا اليوم افترش والتحف عراقي الحبيب، فسرت على عادتي وحملت عدتي وجهزت أقلامي وكراريسي وجلست على كرسي قرب شباك غرفتي، انتظرت اللحظات غير أن هذه اللحظات أعقبتها الساعات، أجل مضت الساعات ولم أر تلك الألوان التي كانت تفترش السماء بعد أن يدق المطر ناقوس الإنتهاء، انتظرت تلك النسمات العليلة التي كانت تتبع المطر كما تتبع الحاشية ملكها القيصر، انتظرت روائح تلك العطور التي كانت ترسلها الزهور كما ترسل الزغاريد من بيت العريس والعروس، انتظرت وانتظرت غير أني بقيت وحيدة مع أحلامي ودفاتري كما بقيت بائعة الكبريت وحيدة مع أحلامها وأعواد كبريتها، انتظرت وانتظرت غير أني لم أحصد من جمال وطني إلا الآه والحسرة فكنت كالأمير باريس الذي لم يحصد من حبه لهلين الطروادية وجنونه لها إلا الموت لنفسه، ولأهله ولحبيبته الحسرة.

بعد كل هذا ضقت ذرعا بشباك بيتي الصغير فتحولت إلى شباك تلفازي الكبير، وضعته امامي ورحت استلهم منه وادون كل أفكاري فكان لي كمسرحية هملت التي الهمت بطلنا وأيقظته وأعطته جواب سؤاله المحتار يا ترى من قتل والدي؟

وأنا من هنا تساءلت بدوري يا ترى من قتل عراقي؟ يا ترى من دمر بلادي؟ يا ترى من شتت أهلي وأحبائي؟

وبينما كنت في دوامة هذه الأسئلة اللامتناهية دار نظري وتركز حول أقلامي؟ أقلامي التي كنت قد طلقتها بعد ما طلقتني الآمال والأحلام منذ أن داست قدماي العراق! أقلامي التي كنت قد فارقتها لمدة قررت أن أجلبها من بيت أبيها ـ أي المحفظة ـ لأضعها في حوزتي لتدوين أفكاري بموجب الإقامة الجبرية.

لأكتب وأدون وأرسم في نفس اللحظة! لا تسألني كيف؟! غير أني سأستخدم ألواني كلها وسأملي أوراقي كلها بين الرسم والتدوين والتلوين.

أولا سأكتب بالأحمر لأعبر عن الدم الأحمر، ذلك اللون الذي لا يسيل على الأرض إلا من قبل الذبائح أصبح الآن يراق على كل شبر من العراق على يد أمراء الذبح ذلك الون الذي إذا اصطبغت به الأنامل اشمئزت منه النفوس الحرائر، غير أن هنالك من يتبجح ويتفاخر ألا وهم أمراء الذبح.

ذلك اللون الذي يدعو إلى التوقف والتبصر في كل الأمور حتى ضمن ألوان إشارة المرور أمراء الذبح يعتبرونه أجمل الأوسمة والشارات لكي يعلقونها على الصدور. وأنا أيضا سأعتبره لونا جميلا لأخط به خطا طويلا لأرسم به شيئا جميلا ومن بعد هذا سأقول لك .... إلمن ...؟!

ثانيا سأكتب بالأسود لأعبر عن الدخان الأسود، ذلك السواد الذي لا توجد فتاة أو امرأة أو عجوز إلا وقد توشحت به، ذلك السواد الذي ما ظل دار إلا وقد التفت حيطانه وجدرانه بلفافة طويلة أو قصيرة منه، ذلك السواد الذي ما نجت منه إلا أشلاء بسيطة من أجساد بعض العراقيين والتي تتساءل اليوم يا ترى هل سيطالني ذلك السواد اليوم أو بعد اليوم.

ها هم الجميع يفرون من اللون الأسود كما كانت آلهة الرومان تفر من جبروت هرقل الأسد، غير أني سأعتبره لونا جميلا لأخط به خطا طويلا لأرسم به شيئا جميلا ومن بعد هذا سأقول لك ... إلمن ...؟!

ثالثا سأكتب باللون السكري ـ البيج ـ لأعبر عن الجيش الأمريكي، ذلك السكري الذي لا ترتدية إلا العروس وتخجل منه العجوز، أصبح رمزا للشؤم والشرور، ذلك السكري الذي كانت تصطبغ به الجدران أصبحت تولول وتصرخ يا أهل العراق يا أهل النخوة والأحرار غيروا لوني لأنه أصبح يشبه الأمريكان. ذلك اللون الذي كنت أحب أن تصطبغ حقائبي به أصبحت أخشى من حمله خشية أن أنسب إلى لابسه.

غير أني سأعتبره لونا جميلا لأخط به خطا طويلا لأرسم به شيئا جميلا ومن بعد هذا سأقول لك ... إلمن ...؟!

رابعا سأكتب باللون الأبيض لأعبر عن الكفن الأبيض، ذلك اللون الآخاذ التي ترتديه الفتاة  في ليلة الزفاف أصبح يرتديه الشباب عند الخروج والإياب، ذلك اللون الدي هو رمز للفرح أصبح الآن كما هو في اليابان يقمط القلوب ويضرب على الدموع ليأمرها بالهطول من العيون. ذلك اللون الذي كنت قد خبأته لفرحي بدأت أقتطع كل يوم جزء منه لأنسج به كفني.

غير أني سأعتبره لونا جميلا ـ الآن ـ لأخط به خطا طويلا لأرسم به شيئا جميلا ومن بعد هذ سأقول لك ... إلمن...؟!

سأكتب وسأكتب الخامسا والسادسا إلى أن أنهي كل ألواني ولأصرخ بعد الإنتهاء بكل ما ملكت قواي ..لا ..لا ..للإعدام يا صدام..ها أنت قد صرخت بالأمس رافضا الإعدام.. وأنا اليوم سألبي لك مطلبك يا صدام..فلم الإعدام إن كنت قد أعددت لك قفصا مزخرفا بالألوان!!

لم الإعدام إن كنت قد أعددت لك المنزل الذي حلمتُ أنا أن تلبث به أنت في الختام!

لم الإعدام إن كان إلى جوارك كل تلك الألوان؟ ماذا تريد أكثر من ذلك قفصا مزخرفا بكل الألوان؟ كل تلك الألوان قد ارتداها أهل العراق ليس لذنب بل كله بما كسبته يداك فلم لا تتسلى معها الآن؟

ألوان لم يخترها أهل العراق بل فرضتها عليهم أنت أيها الخائن الغدار!

هل عرفتم الآن لماذا أحببت تلك الألوان؟ وعدتكم لأخط بتلك الألوان خطا طويلا لأرسم به شيئا جميلا، لأرسم به قفصا أنيقا يليق بـ ( ) فيا له من منظر جميل!!

هكذا يا صدام لم الموت والإعدام إن كنت قد رسمت لك قفصا بكل تلك الألوان لأريك كل تلك الآلام الذي عاشه شعبك ... أهل العراق...

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com