مقالات

قراءة في كتاب

جاسم الحلوائي في رؤيته للحقيقة! (3 ـ 3)

يوسف أبو الفوز

haddad.yousif@hotmail.com

7

مما يحسب للكاتب والكتاب، هو غلبة روح التواضع عن الكاتب في روايته للاحداث، وعدم لجوءه الى تلميع صورته الشخصية ولم يحاول ان يقدم نفسه بشكل مميز عن الاخرين من رفاقه المناضلين، برغم وجود هذا التميز هنا وهناك في محطات ومواقف نضالية. وبرز اهتمامه بتقييم مواقف رفاقه، والاشادة بدورهم ومساهماتهم، فالهروب من سجن خلف السدة في نيسان 1966، واذ كان لقراره بضرورة التنفيذ، الدور الحاسم بنجاح الخطة، فهو لم ينس ان يشير الى " كان مهندس هذا الهروب الناجح وقائده الرفيق عمرعلي الشيخ " ص 119، ويذكر للقراء قائمة باسماء المساهمين كل وحسب دوره ومساهمته. وحين يتحدث عن ظروف القمع الوحشي التي تعرض لها الحزب في عام 1978 على ايدي نظام حزب البعث فهو يشيد كثيرا بموقف الشهيد البطل مزهر هول الراشد " ابو كريم "، الذي اعتقل وتعرض الى تعذيب وحشي، للاعتراف على الصلات الحزبية ومواقع قيادة الحزب، ويشير الكاتب " لولا استشهاد الرفيق ابي كريم لكانت الخسائر افدح " ص 178، وكانت قد حصلت بعض الاعترافات والانهيارات الى قادت من اسم الى اخر لتصل الى الشهيد ابي كريم الذي قطع باستشهاده خيط الانهيارات واوقفها. ولكن الكاتب حين يتحدث عن ظروف مشابهة حصلت معه في عام 1965 ويقول "بعد الضربة التي وجهت للحزب وكبس المطبعة الرئيسية والقاء القبض على الكودار الرئيسية العاملة في هذا لجهاز بعد انهيار احد الكوادر الرئيسة وبسبب ذلك تم اعتقال وكبس بيت توفيق احمد عضو اللجنة المركزية، وكان مركز عمل لجنة التنظيم المركزية، واغتيال الرفيق حميد الدجيلي عضو اللجنة المركزية " ص 112، وحيث تم اعتقال الكاتب ايضا، فأنه يتحدث بتواضع شديد عن صموده البطولي اثناء التعذيب، الذي رسمت له المخيلة الشعبية صورة اسطورية. في تلك الايام لم يسمع الجلادون من المناضل ابي شروق رغم كل قسوة التعذيب الوحشي سوى:" واجب العضو الحزبي صيانة اسرار الحزب "، هذا الموقف الذي قدم للجلادين درسا عن صلابة الشيوعيين، وصار مثالا يحتذى به بين صفوف الشيوعيين العراقيين، ولذلك اشادت به نشرات الحزب الداخلية في تلك الايام .

وفي معرض حديثه عن تفاصيل الاختفاء والعمل السري في محافظة كربلاء في سنة 1956، يتحدث لنا عرضا وبكل بساطة عن مساعدته لشاب امي في تعلم القراءة والكتابة، " وبالمناسبة كان في بيت صكب شاب يصغرني بعدة سنوات اسمه جاسم ايضا وكان أميا ولديه رغبة شديدة في تعلم القراءة وقد ساعدته وتعلم بسرعة، فبعد اشهر معدودة اخذ يقرا الصحف اليومية " ص 49، لكن جاسم الحلوائي لم يتوقف كثيرا عند هذه التجربة للحديث عنها وانما مر عليها ببساطة كحدث عابر مستخدما تعبير " بالمناسبة... "، ليس لسبب ما من وجهة نظري سوى لتواضع الكاتب، رغم انه قدم هنا درسا بليغا لنا في كون المناضل الشيوعي لم ينس دوره التنويري الاجتماعي، وكرس له وقتا وجهدا رغم كل المصاعب وحياة التوتر والملاحقة التي يعيشها .

8

يحمل الكتاب العديد من التفاصيل والتجارب والدروس عن اساليب العمل بين اوساط الجماهير، خصوصا بين الفلاحين البسطاء الذين كسب جاسم الحلوائي ثقتهم، وخاض معهم نضالات مطلبية، حققت النجاحات الباهرة، ومنها انتفاضة فلاحي ثلث الجزرة في منطقة الكوت، والتي يعتقد الكاتب انها حصلت في اواخر1960 او بداية 1961، حيث نجح الفلاحين وبدعم من منظمة الحزب الشيوعي بالانتصار في معركتهم مع الاقطاعي مهدي بلاسم الياسين، رئيس عشيرة المياح، الذي حاول الاستفادة من انحياز حكومة عبد الكريم قاسم لفترة الى جانب الملاكين على حساب الفلاحين، ويعتبر الكاتب ان انتفاضة فلاحي ثلث الجزيرة لم تنل اهتمام المؤرخين فهي ساهمت في الغاء قرار اعادة اراضي الاقطاع اذ لم يصدر بعد ذلك اي قرار باعادةاقطاعية كبيرة الى اي اقطاعي.

ومن المراجعات المهمة التي يقوم بها الكاتب ما يخص عمل الحزب بين المنظمات المهنية، حيث يدين الكاتب بقوة وصراحة اساليب عمل الحزب السابقة ويدعو الى اتباع اساليب جديدة، وهو من القلائل الذين توقفوا عند هذا الامر، وقد سبقه الفقيد الدكتور رحيم عجينة للحديث بهذا الموضوع في مذكراته، يقول جاسم الحلوائي بهذا الخصوص :" وأقولها بدون تردد. إن نزعة الهيمنة على المنظمات الديمقراطية والمهنية والإنفراد بقيادة الجماهير الشعبية لم تكن نزعة طارئة وإنما من صلب أيديولوجية الحزب وإن الحرص على مبدأ وحدانية المنظمة الديمقراطية او المهنية الذي كنا ندافع عنه يصب في هذا الإتجاه. وهذه االنزعة كانت موجودة في المواد الخمسة الأولى من النظام الداخلي القديم، التي كنا نشرحها للعناصر الجديدة قبل ضمها للحزب وقد جرى تعديل تلك المواد في المؤتمرين الثاني والثالث. وبدأ الحزب بالتخلص من هذه الأيديولوجية منذ مؤتمره الخامس " مؤتمر الديمقراطية والتجديد" وثبت في نظامه الداخلي الجديد حرصه على إستقلالية المنظمات النقابية والمهنية والإبداعية وغيرها. وواصل دمقرطة الحزب وبرنامجه وسلوكه مع الآخرين وتبنى التعددية والتداول السلمي للسلطة" ص76

9

لم يخل الكتاب من لمسات انسانية، في الحديث عن هموم شخصية، وتفاصيل حياة انسانية، فالمناضل هو انسان اولا، وهذه اللمحات والتفاصيل ابعدت عن الكتاب روح الجفاف واعطته روحا انسانية وجعلته اقرب الى القارئ. فنحن في يوم 24 اب 1985 نقف الى جانب ام شروق عند باب غرفة العناية الفائقة في احد مستشفيات ايران، بل وننهار معها الى الارض ونلطم معها حين صاحت احد الممرضات" مات"، وننهض معها حين يقولون لها "رجع"، وذلك حين تعرض زوجها المناضل الحلوائي الى السكتة القلبية المفاجئة، التي عرضها لنا الكاتب بسياق فني يختلف عن بقية فصول الكتاب حيث نجد هنا في هذه الصفحات القليلة لمسة من الكتابة القصصية منحت الحدث شيئا من الشفافية، وفيها ايضا محاولة لاضفاء روح فلسفية في مناقشتة لقضية الموت والحياة.

وهنا وهناك يمكن ان تصادفنا في صفحات الكتاب المواقف الانسانية التي حرص الكاتب على ابرازها، اضافة الى تلك اللمسات في وصف بعض الاشخاص وطباعهم، مما تساعد في ابعاد التقريرية عن نصوص الكتاب.

وبسهولة يمكن ان نصادف تلك الاشارات التي تناثرت في عموم صفحات الكتاب، والتي تدعو الى التمسك بالعلم والمنطق ونبذ ما هو غيبي وخرافي، ومنها الاشارة الى الممرضات الايرانيات اللواتي شهدن تعرضه للسكتة القلبية، فاذ راح بعضهن يتبرك به باعتباره نجا من الموت لانه موضع "رعاية الهية "، فأن ممرضة اخرى والتي اخبرته عن جلبهم جهاز الصدمة الكهربائية من قسم اخر" كان يكفي ان يتوقف المصعد لبضعة دقائق حتى ينتهي كل شئ " ص 229 فيقول لنا عنها " يظهر ليس كل الايرانيين تبركون بالناجي من السكتة القلبية، انها تثق بجهاز الصدمة الكهربائية اكثر من اي شئ اخر " ص 229

10

لم يخل الكتاب من روح الطرافة في ايراد الطرائف والمفارقات او ما يمكن تسميته بشر البلية ما يضحك التي تصادف المناضلين في حياتهم النضالية. ففي اول محكمة واول محكومية نالها المناضل جاسم الحلوائي في عام 1955، اذ اعتقل اثر حملة نوري السعيد المعادية للنشاط الوطني، قاد الحظ المناضل كاظم حبيب، وكان حينها طالبا في السنة النهائية من الدراسة الاعدادية، ليكون شريك المناضل جاسم الحلوائي، الذي اضطر لترك مقاعد الدراسة في الصف الخامس بسبب ضغوط عائلية، نقول قاد الحظ المناضل كاظم حبيب ليكون شريك الحلوائي في قفص الاتهام امام حاكم محكمة الجزاء في كربلاء، ويروي لنا المناضل جاسم الحلوائي " اقنعت مسؤولي الحزبي بان نهتف في المحكمة احتجاجا" ص 34، وذلك " في حال صدور حكم من ست شهور فما فوق " ص 34، وفي يوم المحكمة يقول الحلوائي " حكمت علينا المحكمة بالسجن لمدة ستة اشهر مع وقف التنفيذ على ان يطلق سراحنا بكفالة قدرها 100 دينار وبسبب ثقل سمعي، ولرغبتي في تحدي طغيان الحكومة وتعسفها لم يصل الى سمعي سوى " ستة اشهر سجن " فهتفت : تسقط المحاكم الصورية، يسقط الحلف التركي ـ الباكستاني، فالتفت كاظم الي مندهشا، مدركا الالتباس الذي حصل، حاسما موقفه بالتضامن معي رافعا صوته هو الاخر بالهتاف " ص 34، ليامر الحاكم بعد ذلك بالطبع بتنفيذ المحكومية بهما !.

وعند تنفيذ خطة الهروب من سجن خلف السدة عام 1966، التي تطلبت اعدادا محكما وجهدا بالغ الدقة، وحيث تمكن الرفيق عمر الشيخ علي والرفيق جاسم الحلوائي من مغادرة الزنزانة عبر شباك جانبي والاختلاط بزوار مواجهة السجناء، كلفت الرفيقة المناضلة مادلين يعقوب بالتغطية على الحلوائي عند المغادرة مع الزوار، يروي الحلوائي، الذي اعد له للهروب وحسب الخطة زي طالب جامعي"رافقتني مادلين يعقوب متابطة ذراعي اليسرى وكنت احمل طفلة صديقة مادلين،ان مادلين فتاة انيقة تصغرني ببضعة سنوات فكنا نبدو وكاننا فعلا زوجين، اجتزنا اخطرنقطة بسلام، وما ان اجتزنا النقطة الثانية حتى سحبت مادلين يدها من تحت ابطي وركضت امامي تدفع الناس بيديها تشق طريق لي كي اتمكن من السير بسرعة وبدون عوائق، ولم يكن يعوزها سوى الصراخ "

ـ افسحوا المجال لقد نجح بالهروب." ص 118

11

ما الذي لم يروه لنا الكتاب ؟

كقارئ، متحمس للكتاب، ومعجب باسلوبه، كنت اتمنى اشياء اكثر، وسأظل اتمنى ان ينتبه الكاتب الى الملاحظات التي يقدمها القراء الحريصين على هكذا نوع من الكتب، خصوصا وان الكاتب سينال الثقة بموضوعيته الملموسة وعدم انحيازه العاطفي لغير الحقيقة.

فالرفيق جاسم الحلوائي لم يحدثنا بفصل مستقل، عن ظروف انتخابه للجنة المركزية، وتناثرت المعلومات عن هذا الامر هنا وهناك بشكل ربما يصعب لمها، وكان ممكنا الحديث عن ظروف ترشيحه، وردود فعله الشخصية وردود فعل الاخرين، وحضوره اول اجتماع للجنة المركزية وما حول ذلك، وايضا عن تفاصيل خروجه من عضوية اللجنة المركزية وقناعاته وردود فعله وتفاصيل ما جرى، فليس كاف ابدا الحديث عن ذلك ببضعة سطور.

كنت اتمنى من الكاتب ايضا ان يخصص فصلا مستقلا لشخصية القائد الشيوعي عزيز محمد، خصوصا وان الرفيق عزيز محمد قاد الحزب لفترة زمنية طويلة ( 1964 ـ 1993 )، والرفيق جاسم الحلوائي عاش معه وسجن معه وعمل معه في مواقع حزبية نضالية مختلفة، مما يتيح له لو حاول ان يرسم للقارئ صورة ما لهذا القائد الشيوعي، ولشرح اسلوبه القيادي في العمل، وتطوره الفكري، وعلاقاتاه مع مختلف الرفاق في قيادة الحزب، وما يقال عن اسلوبه في القيادة بالامساك بالعصا من الوسط، وعن ايجابيات وسلبياته، الخ، فمن هذه التفاصيل والاحكام يمكن للكادر الحزبي الشاب ان يتعلم ويتثقف، وهي بالتالي ستكون ملك للتاريخ.

والامر كذلك يتعلق باسماء قادة حزبيين اخرين، مثل الشهيد البطل سلام عادل وغيرهم، بحيث ذلك يجعلنا نطمع من الكاتب بأن يضيف فصول جديدة للطبعة القادمة من الكتاب، او ان يكون هناك كتاب مستقل بهذا الخصوص.

ختاما اقول للقراء الاعزاء هذا كتاب يستحق الدراسة والقراءة المتكررة فهو كتاب شيق وغني بمادته واسلوبه، فتحية للكاتب وامنيات بالصحة وعمرا مديدا.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com