مقالات

الحركات ذات الطابع الاشتراكي في المجتمع العربي الإسلامي

 آمنة عامر الكفيشي / جامعة بابل

Alkfishe@yahoo.com

بدأت بذور الفكر الاشتراكي في الإسلام تتضح أكثر مع اتساع الفروق الفاصلة بين الأغنياء والفقراء. ويبدو ذلك في مواقف الخلفاء وإجراءاتهم ضد الأغنياء، إذ لما رأى الخليفة عمر بن الخطاب سوء توزيع الثروة بين المسلمين وما في ذلك من خروج على الإسلام أخذ يحدث المقربين إليه بالتفكير في تشريعات جديدة تمس مصالح الأغنياء. وصرح في أواخر أيامه قائلا: ((لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت من الأغنياء فضول أموالهم فرددتها على الفقراء)). ولا ريب في أن هذا لو طبق لكان ثورة اشتراكية جذرية. فالفضول من الأموال هو ما يزيد على الحاجة.

وجاهر أبو ذر الغفاري باتهام الخليفة عثمان بن عفان وعماله بالخروج على شريعة الإسلام، وراح يدعو الأغنياء إلى الابتعاد عن كنز المال محذرا إياهم من سوء المصير معتمدا في ذلك على الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة. وعندما لم يجد أذنا مصغية من الأغنياء هدد بأنه سيوجه كلامه إلى الفقراء يدعوهم للقيام بالثورة. فها هو ذا يقول((عجبت لمن لم يجد القوت في بيته كيف لا يخرج شاهرا سيفه على الناس)). وأوذي أبو ذر الغفاري في سبيل ذلك إيذاء كبيرا حتى نفي وحرم من عطائه، وكان يمضي أياما بلا طعام.

لقد انعكس التناقض الاجتماعي في المجتمع العربي الإسلامي في بدايته حركات فكرية، ثم تعداها إلى اختلافات في الرأي والتفاسير والاجتهادات وغير ذلك ثم ما لبث أن تحول إلى حركات اجتماعية وسياسية تناضل ضد الأوضاع البائسة التي آلت إليها الطبقات الكادحة واتخذت في بعض الأحيان طابع العصيانات والثورات المسلحة كعصيان الفلاحين في وادي البقاع (759 ـ 760م) وعصيان الفلاحين في فلسطين (840 ـ 842م) والثورة في شمال أفريقيا وثورة بابك الخرمي. وسنحاول أن نعرف الفكر الاشتراكي لدى حركتي البابكيين والقرامطة نظرا لأنهما من أهم الحركات التي عرفها المجتمع العربي الإسلامي.

 

أ ـ البابكيون:

تضمن برنامج البابكيين نزع ملكية الأقلية عن الأراضي (وهي وسيلة الإنتاج الرئيسي وحتى الوحيد تقريبا آنذاك) وتوزيعها بين الفلاحين فضلا عن تحرير المرأة. وكان البابكيون يرون أن عدم المساواة في التوزيع يشكل اغتصابا لحقوق الآخرين. والاغتصاب هو محاولة بعض الناس إرضاء رغباتهم على حساب غيرهم مع أن الطبيعة والعدالة تقتضيان المساواة في التوزيع ولهذا فإنه عند اختلال هذه القاعدة يجب أن يؤخذ من الغني المغتصب ما يزيد على حاجته، ويعطى للمحتاجين حتى يعود الناس إلى المساواة.

 

ب ـ القرامطة:

حركة اجتماعية بنت برنامجها على مبادئ فلسفة علمية ووسعت مطالبها أكثر من الحركات الاجتماعية الأخرى في الإسلام التي سبقتها في الظهور، وإن كانت لا تختلف في الجوهر عن البابكية من حيث تشميل برنامجها الاجتماعي النقطتين الرئيستين وهما: المساواة بين المرأة والرجل (وليس فقط تحرير المرأة)، وتوزيع ملكية الأراضي على المحتاجين.

إن تحليل النظام الذي أقامته حركة القرامطة يعطينا خير صورة عن بذور الفكر الاشتراكي وتطبيقه عند العرب المسلمين.

لقد كانت الظروف في مدينة واسط في العراق ـ المركز الأول للدعوة القرمطية ـ مؤاتية تماما حركة اجتماعية ثورية تنسف البنى القائمة، وتقيم على أنقاضها تنظيما اجتماعيا يحقق العدالة والتي كان ينشدها الفلاحون الاقنان من العرب والنبط والسودان الذين كان أصحاب الآراضي يستقدمونهم لإصلاح أراضيهم واستغلالها بشروط لا تختلف عن نظم الإقطاع التي عرفتها أوربا في القرون الوسطى.

لقد بدأت الدعوة القرمطية بنوع من التآلف والتعاضد والمساعدة المتبادلة فضلا عن تأدية بعض الضرائب إلى ((إمام الزمان)) لتغطية نفقات ((دار الهجرة)) التي بناها حمدان القرمطي مركزا للدعوة. وبعد أن كثر أتباع الحركة انتقلت الدعوة إلى نوع من المشاركة حتى أنهم كانوا يحملون إلى محل واحد كل ما يملكون فيجعلونه مشاعا بينهم، ثم يتولون اقتسامه حتى لم يبق بينهم فقير.

وانتقلت حركة القرامطة من الدعوة إلى حيز التنفيذ، فقد استطاع أبو سعيد الجنابي سنة (900م) الاستيلاء على عاصمة إقليم البحرين، وأقام دولة لها نظامها السياسي والاقتصادي المتميز عن الدول المعاصرة لها والقريب جدا من النظام الاشتراكي. فمن الناحية السياسية كانت السلطة محصورة بيد أصحاب الدرجات العالية في الحركة القرمطية (بمثابة الحزب) حيث أن تنظيم القرامطة كان يعتمد على وجود تسع درجات يمر بها الداخل في الدعوة حسب مؤهلاته وقدراته العقلية ودرجة التزامه وقوة إرادته. لقد كانت السلطات كافة من تشريع وإدارة وتنفيذ محصورة في أقضاء مجلس ((العقدانية)) المؤلف من ستة أفراد يختارهم الشعب من بين أصحاب الدرجات العالية في الدعوة ولكل منهم وكيل يساعده وينوب عنه.

 1ـ إن تنظيم القرامطة (بمثابة حزب) كان يضم خيرة الناس، ممن لهم دراية عالية بالأمور ويتمتعون بصفات أخلاقية رفيعة وكانوا جميعا من عامة الناس.

 2ـ إن تنظيم القرامطة يعبر من خلال برنامجه الواضح عن مصالح جميع الطبقات الشعبية الكادحة من العمال والفلاحين.

 3ـ إن مجلس العقدانية كان مرتبطا دائما بمصلحة الجماهير الشعبية ويسوس البلاد انطلاقا من تأمين هذه المصلحة.

وهكذا كان نظام الحكم في دولة القرامطة شبيها إلى حد كبير بأشكال السلطة الاشتراكية في الوقت الحاضر. إنه نوع من أنواع الديمقراطية الشعبية.

أما من الناحية الاقتصادية فقد ذكرنا أن الحركة القرمطية بدأت بالتعاقد والتعاون والمساعدة المتبادلة، وكان مؤسس الدعوة حمدان قرمط قد رتب نظاما للمشاركة يضمن نجاح الحركة ففرض ضرائب واشتراكات على اتباعه تجبى دوريا لتمويل النفقات المشتركة للدعوة. ويذكر بعض المؤرخين أن حمدان كان يطلب إلى أتباعه تبرعات كبيرة وأحيانا كان يطلب إليهم أن يقدم كل منهم ما يملك، ليعاد اقتسامه بينهم حتى لم يبق بينهم فقير.

 وبعد قيام الدولة واستقرار نظام الحكم فيها بدأ القرامطة يهتمون بتنظيم أمورهم الداخلية والتجارة مع البلدان المجاورة، ومن الأمور البارزة في التنظيم الاقتصادي لدولة القرامطة ما يلي:

 1ـ احتكرت الدولة التجارتين الخارجية والداخلية، وكانت تنفق أرباحهما على المصالح العامة وتحسين أحوال الزراع والعمال.

 2ـ أقامت الدولة مشاريع لتأمين الخدمات الأساسية مجانا للسكان من بينها الطواحين مثلا.

 3ـ لا تتوافر معلومات دقيقة عما إذا كانت الدولة قد أخذت الأراضي بملكيتها تعطيها لمن يريد أن يعمل ويتمتع بخيراتها أم أنها أبقت عليها بأيدي أصحابها. غير أن الدولة القرمطية كانت تبتاع ما هي بحاجة إليه من الأراضي لتوزعه على الفلاحين ممن ليس لهم أراض يزرعونها بأنفسهم. كما كانت للدولة حقول خاصة تستغلها العقدانية بوساطة عمال زراعيين من السود الذين حررتهم، فكانت هذه الحقول أشبه ما تكون بمزارع الدولة القائمة في البلدان الاشتراكية أحيانا.

ومن المعتقد أن الدولة لم تكن لتلجأ إلى نزع ملكية الأراضي من أيدي أصحابها ذلك لأن أكثرها كان مشاعا بين المزارعين ولأن مسألة الأراضي لم تكن مطروحة نظرا لوفرتها وعدم وجود فلاحين لا أراضي لهم.

 4ـ اهتمت الدولة بالحرفيين فكانت تقرضهم ما يحتاجونه من المال حتى يشتغلوا ويكسبوا ثم يردون القرض إلى الحكومة بدون أية فوائد. وهذا الإجراء حمى الحرفيين من التمايز الطبقي وضمن لهم استمرارهم في العمل المنتج دون استغلال من أحد.

 5ـ ضرب مجلس العقدانية نقودا من الرصاص لم تكن متداولة إلا في البحرين حتى لا يتمكن أحد من تهريب الأموال إلى الخارج.

لقد استمرت دولة القرامطة حوالي خمسة قرون وسط بحر محيط بها من الأعداء والمناوئين الذين جعلوا همهم الأساسي القضاء عليها. إن استمرارها هذه المدة الطويلة يشكل دليلا واضحا على أنها كانت قائمة على أسس اقتصادية وسياسية ملائمة. ولا ريب في أن انهيارها يرجع إلى كثرة أعدائها ومناوئيها في الدول المجاورة لها والذين كانوا يعملون على زوالها من جهة، وإلى أنها كانت سابقة لعصرها من جهة ثانية. فقد قامت الحركة القرمطية رد فعل عاطفي على المظالم الاجتماعية التي عانت منها الجماهير في ظل النظام الإقطاعي ولكن دون أن يتوافر مستوى تطور ملائم للقوى المنتجة يضمن استمرار نظام اشتراكي. وبمعنى آخر فقد كانت دولة القرامطة طفرة تاريخية سابقة لعصرها فلم تستطع الاستمرار في الوجود لعدم توفر الظروف الموضوعية المساعدة.

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com