مقالات

استراحة داخل صومعة الفكر

السماوي في ديوانه " نقوش على جذع نخلة "

  سعد البواردي ـ الرياض

 يحيى السماوي " له من اسمه نصيب " .. " يحيى " من الحياة ، و"سماوي " من زرقة السماء الصافية تارة ..ومن تلبّد السماء بالغيوم والعواصف تارة اخرى... شاعر اغتراب منحته غربة الاقتراب من وطنه هاجسا شعريا وشعوريا كان منه خطابه ، وعتابه ، وعذابه ...

 

 لا أدري لماذا اختار جذع النخلة دون عذوقهاالمتدلية بثمرها الجني..إن نقوش الثمر الذي أعطاه في ديوانه أقرب الى ثمر النخلة من جذوعها..

 العراق هو النخلة ..والجذوع هي السلالم الربانية الموصلة الى الثمر ..إنه يبحث عن الرطب الجني الذي اغتالته آلة الغدر وأسلحته ورمت به الى المجهول :

 

هذه الأرضُ التي نعشقُ لا تُنْبِتُ وردَ الياسمينْ

 

للغزاة الطامعين ْ

 

والفراتُ الفحلُ لا يُنجبُ زيتونا ً وتينْ

 

في ظلالِ المارقينْ

 

فاخرجوا من وطني الذبوح ِ شعبا ً

 

وبساتينَ ... وأنهارا ً وطين ْ

 

واتركونا بسلام ٍ آمنينْ

 

 

 إنه في مقطوعته ينشد السلام ممن لا يؤمن بالسلام وإنما بالإستسلام ولكن .. إرادة الوطن تقهر إرادة الغزاة . هكذا علمنا الزمن مهما طالت المعاناة والمأساة...

 

 نحن مهزومون من قبل ابتداء الحرب ِ :

 

نخل ٌ يشحذ التمر َ... حقول ٌ تشحذ ُ القمح َ...

 

وطين ْ

 

سال َ منه الدمُ من بوّابة القصر ِ

 

إلى محراب ِ ربّ العالمين ْ

 

 أشياء بلا أشياء..كانت المقدمة للحصاد المرّ لوطن ٍ ذبيح وشعب جريح ، وأفعوان يقطر نابه سمّا ً:

 

إمنحونا فرصة َ الدّفن ِ لموتانا

 

وأنْ نخرجَ من تحت الركامْ

 

جثثا ً ما بلغتْ عمر َ الفِطامْ

 

فاخرجوا من قبل أنْ ينتفض النخل ً العراقيّ

 

ويستلّ سيوف َ الإنتقامْ

 

 النخل العراقي بأهله انتفض على نيرون والتتار القدامى .. ولسوف يًخرج نيرونه وتتاره الجدد..الحرية لا مساومة عليها ..

 

 في مقطوعته " عصفا ً بهم " أجتزئ منها هذه الأبيات :

 

خسئ الغزاة ُ فما العراق ُ بعاقر ٍ

 

 عقُم الزمان ُ وما يزال وَلودا

 

مرّ الغزاةُ به فخضّبهم دما ً

 

 وأذلّ رايات ٍ لهم وحشودا

 

 

 ولأن العراق عربي لا " عبري " ، فقد كان الهدف والمقصد للطامعين الغزاة :

 

والله ِ ما وطأ الغزاة ُ ترابنا

 

 لو أننا نتهجّد التلمودا

 

 حملة التلمود .. وحملة الصليب المتصهين وجدوا من بعض أهلك يا شاعرنا حصان طروادة

شرعوا له الأبواب كي يلج الدار تحت غطاء العمالة المقنعة .. إنهم باسم أسيادهم يحكمون .. هذا هو أصل الداء .. داء مزمن يفتقر الى دواء ناجع يقتلع جذور العلة ...

 في قصيدته " لا تسأليه الصبر " :

 

لا تسأليه الصبرَ لو جزعا

 

 مما رأى ـ بغداد ُـ أو سمعا

 

فرد ٌ ولكنْ تحت أضلعِهِ

 

 وطن ٌ وشعب ٌ يخفقان ِ معا

 

صاد ٍ يبلل ُ باللظى شفة ً

 

 ويصدّ عن مستعذب ٍ نبَعا

 

 إنها الحالة ..حين يأتي المشهد الباكي أقوى من الدموع ..وأمرّ من الوحشة .. الوطن .. والإغتراب ، والعذاب ..

 حين يكون الوطن من لحم ودم ، وحين تأتي الحبيبة من ماء وضوء وتراب ، يأتي البدد على بدد :

 

فتشت ُ في قلبي فلم أجد

 

 إلآك ِ قنديلا ً يضيئ غدي

 

وفحصت ُ ذاكرتي : أفاتنة ٌ

 

 أخرى ينادم طيفها خلدي ؟

 

ونخلت ُ حنجرتي لعلّ بها

 

 بعض الصدى من هند َ أو دَعَدِ

 

فوجدتها تشدو ليثملها

 

 ما فيك ِ من طيب ٍ ومن غيَد ِ

 

 خيال مغرق في تأملاته وفي توصيفه وتوظيفه لمفردات الحب اللاهث وراء رغبة مجهولة النهاية :

 

ولقد ظمئت ُ وكنتُ في غدُر ٍ

 

 فشربتُ نيراني ولم أرد ِ

 

قنعت ْ بصابكِ غير آسفة ٍ

 

 شفتي فيا صاب الحبيب زِد ِ

 

 هذا المتيّم أعيته الحيلة .. فسياط الهموم تلهب قلبه .. ومدية النكد مغروسة في جوانحه .. إنه يبحث عن موت جفاه أملا ً بعطف يلقاه وهو موسّد في اللحد .. كثير هذا الوجد يا عزيزي .. الحب لا يستحق كل هذا حتى ولو كنت قيسا ً تلهث بين خيام محبوبتك أو مجنونتك... إلآ أذا يكون الحب وطنا .. وإلآ أن تكون أنت ذلك الواقف أمام عتبات التاريخ ترقب الفرات.. وبابل ..والرصافة .. والسماوة ..تناغيها وتناجيها كما لو أنها فاتنات وجود دونها الحسناوات ..في حالة كهذه ، ألتمس لك العذر:

 

هل تسألين الان كيف أنا ؟

 

 أنا في الهوى بدد ٌ على بدد ِ

 

 هوى الأوطان يا شاعرنا أقوى من أن تلوي عنقه كل عواصف الزمن ..وأعاصير الحياة ..إنه الذي يبقى في الذاكرة لمن يحمل ذاكرة.

 شاعرنا يصارع ذاته بين وثاق حب يشدّه الى معصمه كما لو كان قدّر ألآ يملك الفكاك منه .. وبين

قنوط ٍ خيّم فوق أفقه أسلمه الى الإستسلام :

 

يا آسري : أحكمْ ْ عليّ وثاقي

 

 سأضيع لو بادرت في إطلاقي

 

خلِقتْ لبحرك يا جميل سفينتي

 

 فاعصف ْ بها لا خوف من إغراقي

 

وخلِقتَ قنديلا ً يرشّ بضوئه

 

 ليلا ً عصيّ الفجر في أحداقي

 

لا تخش َمن ريح ٍ عليّ وموجة ٍ

 

 فالخوف كلّ الخوف من أشواقي

 

 

 ربما هو الأدرى بمكنونات حبه التي حطمت مجاديف زورقه .. وأسلمت قاربه الى مهب الريح وغضبة الأمواج .. ولو كنت مكانه لكسرت الوثاق وحطمت القيد دون ضياع .. الحب القوي هو الذي ينتصر .. تسوّل الحب كتسوّل المال عنوان هزيمة وضعف ..

 

 " جلالة الدولار" قصيدة هازئة وهازلة رغم أن الدولار عملة محورية تحكم ، وتتحكم .. عملة لها عمالة ، وعملاء .. وعمل على اتساع كوكبنا .. الاقتصاد هو السيد .. والدولار هو الحاكم شئنا أو أبينا :

 

جلالة ُ الدولارْ

 

في ساعة الحساب ِ

 

يبقى وحده الصانع للقرارْ

 

يجمع مَنْ يشاءْ

 

يقسم منْ يشاءْ

 

يطرح منْ يشاء ُ أو

 

يضرب ما يوصي به الأحبارْ

 

 قواعد الحساب الأربعة يملكها الأقوياء وحدهم .. الدولار السيد .. والدينار التابع .. هكذا الحسبة والمحصلة .

 قرابة العشرين عاما كان السماوي طريدا ً عن وطنه .. عاد إليه .. تغنى به .. جفلت أقدامه من جديد ورحل رحلة اغتراب متواصل :

 

 

ألقيتُ بين أحبّتي مرساتي

 

 فالآن تبدأ ـ يا حياة ـ حياتي

 

الآن أبتدئ الصبا ولو انني

 

 جاوزتُ "خمسينا" من السنوات

 

الآن أختتم البكاء بضحكة ٍ

 

 تمتدّ من قلبي الى حَدَقاتي

 

الان ينتقم الحبور من الأسى

 

 ومن اصطباري ظامئا ً كاساتي

 

 

 فرحة لم تدم طويلا .. تكسرت الكاسات على الكاسات .. وانهزم الحبور .. وجفت الضحكة .. وماتت الخفقات .. الطير المهاجر العائد ، أعاد اغترابه من جديد بعد أن أحسّ أن السجن القديم ما زال قائما ولكن بسجّانين جدد .. والنخل الذي عشقه اسودّت عسبانه من دخان النار .. والوجوه التي كان يعشقها تحولت الى هزال .. ورعب .. ومساجين ، ومساكين .. لا شئ يدفعه الى البقاء ..إلآ الأمل في عودة الوطن الى أهله .

 

 لم تنسه عودته الى أرض الإغتراب البعيدة .. لم تنسه ذلك الشوق المتوهّج المتأجج في صدره .. أطلقه رسالة الى مسافر :

 

يا عابرَ الآفاقْ

 

مُرّ على العراق ْ

 

وباسم قلبي قبّلِ " الفالة َ " و " المكوارْ "

 

والعبقَ الطالعَ من بنادق الثوّارْ

 

في الكوت ِ... في ميسان َ

 

في الكوفة ِ ... في الأنبارْ

 

وقلْ لهم :

 

لا شيئ َ غير النارْ

 

يطهّرُ البستان من رجس الخنازير ِ

 

ومن شوك الخنا والعارْ

 

 هكذا عاد ثائرا ً وقد لمس بنفسه كم تحول وطنه الغالي الى معتقل كبير تداس فيه الكرامة .. وتصادر فيه الحرية .. وتسيل فيه الدماء ..

 

 " نقوش على جذع نخلة " عنوان ديوانه .. مقاطع موحية بافكار مختلفة ، أجتزئ منها البعض :

 

ما قيمة التحرير ِ

 

إنْ كان الذي هبّ الى نجدتنا

 

حرّرنا

 

واعتقلَ الوطنْ ؟

 

 لم يهب لنجدتكم يا عزيزي لسواد عيونكم .. هب لاحتوائكم .. ولاحتلالكم .. وفرض مشيئته عليكم تحت مظلة شعار حرية ٍ زائف ، ظاهره فيه الرحمة وباطنه العذاب .. من استعمار داخلي مقيت ، الى استعمار خارجي أكبر مقتا ً :

 

ما شرفُ اليد التي

 

تبعِدُ عن أعناقنا القيدَ

 

وعن عيوننا الوثنْ

 

حين يكون الوطن ُ الثمنْ ؟

 

 لا شرف ..وإنما قرف .. وإفلاس منذ البداية .. وحتى النهاية .. يتابع شاعرنا السماوي تطوافه مع نشرات أخبار متلاحقة ولكنها صاعقة :

 

آخر ُ ما تناقلته نشرة الأخبارْ

 

أنّ العدوّ دك بالمدافع الكوفة َ

 

واستدارَ للأنبارْ

 

وحضرة " الإمام " ما زال على فتواه

 

أنْ نطفئ نار حقدهم بكوثر الحوارْ !!!

 

 آه ٍ من حضرة الإمام .. ومن فتواه .. ومن المخدوعين بكل فتوى تمالئ العدو وتعطي له غطاء الشرعية في القتل والتدمير :

 

كلّ الجراد البشريّ الان في بغدادْ

 

فيا جياع الرافدين اتحدوا

 

ونظفوا الحقل من الجرادْ

 

كي لا يجوع في الغد الابناء والأحفادْ

 

 

 أحرار العراق يتعاملون مع أسراب الجراد البشرية الجائعة كل يوم .. سرب وراء سرب .. المهم لا تكلّ سواعدهم في رشّه بما يستحق.

 

ما أضيق الوطنْ

 

حين يكون واحة ً يمرع فيها القاتل المحتلّ

 

أو سقيفة ً

 

يبايع الأجلاف ُ تحت ظلها

 

طاغية ً وثنْ..

 

 

 يا يحيى .. تذكر معي تلك المقولة " اللهمّ اكفني شرّ أصدقائي .. اما أعدائي فأنا كفيل بهم " .. العملاء .. أو الطابور الذي يتحرك عن بعد بجهاز الكنترول لفتح الأبواب .. واستقبال رجال المخابرات الأجنبية لإشاعة الفوضى ، والتدمير ، وسرقة التاريخ .. إنهم الأخطر على الوطن .. إنهم الأعداء الأعداء .. قاتلهم الله أنّا يؤفكون...

 

 

السرفاتُ دكت القبورَ واستباحت الرفاة ْ

 

أضاقت ِ الأرض ُ فلم تجد لها مساربا ً؟

 

أمْ انها تخاف أنْ ينتفض الأموات ْ

 

تضامناً مع الجماهر التي

 

أرخصت ِ الحياة ْ

 

ذودا ً عن الأرض التي دنّسها الغزاة ْ ؟

 

 

 في ظل الاستعمار لا كرامة لحيّ .. وبالتالي لا كرامة لميت .. الأحياء هم الذين يكرّمون كرامتهم بوقوفهم وصمودهم في وجه الغزاة ..

 

 

طفل ٌ بلا ساقين ْ

 

وطفلة ٌ مشطورة ٌ نصفين ْ

 

وطاعن ٌ دون يد ٍ

 

وامرأة ٌ مقطوعة ٌ النهدين ْ

 

وكوّة ٌ في قبّة الحسين ْ

 

جميعها حصادُ طلقتين ِ من دبّابة ٍ

 

مرّتْ بكربلاءْ

 

تحيّة ً ليوم عاشوراءْ

 

 

 هذا عن كربلاء .. ماذا عن الفلوجة وأخواتها ..عن بغداد ..البصرة ..الكوت ..القائم ..وبقية المدن ؟ الغازي لا يقيم وزنا لطائفة ولا لمذهب .. بل للذهب الأسود .. وللمكان الإستراتيجي لمشروعه الكبير .. أمركة المنطقة وعبرنتها .. وقتل الإنتماء الديني والعربي .

 كنا في زمن نقول : " لا صوت إلآ صوت المعركة " .. واليوم تغير الخطاب .. أصبح " لا صوت إلآ صوت الأمركة "

 

 

يا زمنَ الخوذة ِ والدفنِ الجماعيّ

 

وقانون ِ وحوش ِ الغاب ْ

 

متى .. متى يخترعون طلقة ً

 

تميّز الطفل َ من الجنديّ ؟

 

أو قذيفة ًتميّز الحانة َ والمبغى من المحراب ْ ؟

 

وشنطة التلميذ من حقيبة الإرهاب ْ ؟

 

متى .. متى يغادر ُ الأغراب ْ

 

بستاننا

 

فيستعيد النخل ُ كبرياءه ُ

 

ويستعيد طهره التراب ْ ؟

 

 

 خصومنا يا صديقي يملكون القدرة على صنع سلاح يحددون أهدافه بدقة .. ولكنهم لا يريدون .. القتل الجماعي ، والحصار الجماعي ، والترويع الجماعي هو سلاحهم في فلسطين وفي العراق ..

لا يعنيهم عدد الموتى ولا المصابين ولا الظامئين والجائعين .. كل هذا محسوب في أجندتهم .

 

 

 يلتفت شاعرنا الى بني جلدته .. الى أهله وقومه في تساؤل مرّ :

 

ما بال ُ قومي كرّشتْ خيولهم..

 

أأدمنوا السباتْ ؟

 

مرّتْ عقود ٌ وسياط الذلّ في ظهورهم

 

يقودهم طاغية ٌ حينا ً

 

وحينا ً دمية ُ الغزاة ْ

 

إلآ الذين أسرجوا القنديل في ديجورنا

 

وغادروا الحياة ْ

 

 

 أكاد أقول له نيابة عن ضمير هؤلاء :

 

لقد أسمعت لو ناديت حيّا

 

 ولكن لا حياة لمن تنادي

 

 ومع هذا فالرحم العربي لن يعقم .. وما الناضلون المدافعون عن أوطانهم إلآ بذرة الأمل في حقل الحياة المنتظرة .

 

 أتجاوز بعض مقطوعاته الجميلة .. وقد أذنت الرحلة على نهايتها واكتفي بهذه الأبيات من مقطوعته " خذي بأمري " :

 

ألتذ بالجرح ليأتيني

 

 صوتك بالطيب فيشفيني

 

فطمت ِ عينيّ فلا تفطمي

 

 سمعي فهمسٌ منك يكفيني

 

فيا عفافا ً رتّلتْ بوحه

 

 مئذنة ُ الروح ِ أجيبيني

 

ما للمسافات التي بيننا

 

 تدنيك من قلبي وتقصيني ؟

 

 

 مساحات الحب لا تخضع للجغرافيا ..للطول أو العرض ..إنها مسافة يختصرها نبض قلبين عاشقين يحددها ذلك اقترابا ..أو بعدا ً

 

 وبعد يا شاعر الإغتراب .. أشعر أن غربتك منحتك صدقا ً .. واقترابا ً لوطنك ، أكثر مما لو كنت داخله .. المغترب كالطائر المهاجر ، يغرّد داخل السرب وخارجه ..ولقد غرّدتَ وأمتعت .

 

***

 

عن " المجلة الثقافية "

 

 

" * " نقوش على جذع نخلة ـ ط2 منشورات دار التكوين ـ دمشق

 

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com