مقالات

الصافي النجفي .. الحكم بالإعدام في النجف وغرفة بائسة في دمشق

كتاب يؤرخ لشخصيته المتمردة في العراق وشظف الحياة في المنفى الاختياري

 

رشيد الخيُّون

في حياة الشاعر العراقي أحمد الصافي النجفي (1897- 1977)، كما أرخ لها الشاعر والأكاديمي النجفي أيضاً إبراهيم العاتي، ألوان من المفارقات، بين غربة بدت اختيارية بعد انتفاء مسبباتها الجبرية، وبين شقاء فرضه على نفسه، خشيةً على حرية قد تحرمه منها دولة، وتوفرها له غرفة، ليس بينها وبين القبر من فارق سوى أنها فوق الأرض. لذا رفض أكثر من مرة راتباً جارياً من دولته، أو من أهل اليسار، إلا بعد ضغط السنين، وإلحاح المرض المزمن استجاب لطلب سفير العراق ببيروت ناصر الحاني (أول وزير خارجية بعد انقلاب تموز 1968) أوائل الستينات فقبل راتباً غير مشروط بتطويق حريته أو تحديد أسلوب حياته.
جاء كتاب الدكتور العاتي «أحمد الصَافي النجفي.. غربة الروح ووهج الإبداع»، الصادر عن دار العلم للطباعة والنشر، بيروت 2007، رصداً دقيقاً مكثفاً لحياة وشعر أحد أبرز شعراء العربية المعاصرين، من الذين اختلط شعرهم بحياتهم، وجعلوه بدايتهم ونهايتهم. وقبل هذا، حظا الصافي النجفي بأكثر من ترجمة، فلم تغيبه غربته عن مؤرخي الأدب العراقيين، فحفل سِفر «شعراء الغري» للأديب علي الخاقاني (ت 1979) بترجمة، وان جاءت مقتضبة لكنها وافية في مضمونها. وخلا هذا استند إبراهيم العاتي في تأليفه على ترجمات عدد من الأدباء ومؤلفين عرب وعراقيين أثار اهتمامهم النجفي، مثل: إبراهيم عبد الستار في «عبقرية الصافي» (طرابلس- لبنان 1974)، و إبراهيم الكيلاني في «الشاعر أحمد الصافي النجفي» (دمشق 1980)، وعبد اللطيف شرارة في «الصافي» (بيروت 1981)، والطبيب الأديب عبد السلام العجيلي في «وجوه الراحلين» (دمشق 1982)، وسلمان هادي طعمة في «أحمد الصافي شاعر العصر» (بغداد 1985).

لمسقط رأس الشاعر النجف، أو الغري، خصوصية قد لا تتكرر في المدن الدينية الأخرى، فهي المتزمتة المتشددة والمحافظة بكل قوة على تقاليد، على حد عبارة العاتي، رسخت في السلوك المتوارث بينما هي مجرد أعراف اجتماعية أخذت قدسيتها من واقع المدينة، والرغبة في المحافظة. إلى جانب ذلك تجد النجف المدينة التواقة للانفتاح، واستيعاب الجديد، ولكن بطرائقها وأساليبها وظروفها. مدينة تحفل بالدعوة إلى الدستور، في معركة شهيرة جرت على أرضها قبل مائة عام بالتمام (1906)، بينما عُد التصفيق في الأماسي الأدبية، أو الاحتفالات التكريمية، وما أكثرها بالنجف، من المحرمات. وليس غريباً أن يكون الصافي النجفي كبش الفداء، أو من الثائرين من أجل التصفيق، ورغم عدم أهمية الممارسة إلا أن منعها يتبعه ممنوعات أخرى، ويكرس الشعور بالضغط والكبت. ولا يستغرب القارئ، غير الخابر النجف من مثل هذا الإجراء المتوارث.

وقصة تمرد الصافي، حسب رواية العاتي عنه، على تقاليد المناسبات بتصفيقه وسط وجوم واستغراب، واستنكار الزعامة الدينية والاجتماعية: أنه اتفق مع صديقه صالح الجعفري أو كاشف الغطاء (ت 1979)، وهو متمرد آخر حسب ما تخبرنا به قصائده، أن يبادر إلى التصفيق بعد قول الجعفري «فحيوا بالسلام مصفقينا»، وحصل أن صفق الصافي وتبعه الشباب بالتصفيق، فشكاه القوم عند أخيه والقيم على أمره، وعدّت في حينها بدعة وضلالة.
ومن طريف ما أخبرني به أحد النجفيين، من الذين عايشوا مراجع الأربعينات وحتى الوقت الحاضر، أن أحد الآيات أكرمه وقدم له كرسياً لألم في ظهره، وجلس هو الآخر على كرسي مناظرا له، وحينها عد الشيخ هذا فضلاً وسراً، وقد سرني به، وأوصاني أن لا أذكر اسمه أو اسم آية الله المتفضل، وذلك لخطورة الأمر! فإذا حدث التوقف عند الجلوس على الكرسي فكيف بالتصفيق! غير أن كل هذا لم يمنع النجف من النشاط الأدبي والفكري والفلسفي، وتجد النجفيين من أظرف العراقيين، وأكثرهم انفتاحاً في مضامين حياتهم. ومن ضيقه بالتقاليد ووراثة القديم قال:

إن الغري بلدة تليق أن
تقطنها الشيوخ والعجائز
فصادرات بلدتي مشائخ
وواردات بلـدتي جنائز

ومعلوم أن حوزة النجف الدينية، والتي يمتد تاريخها إلى القرن الخامس الهجري تخرج سنوياً المئات من فقهاء الدين، وفيها أيضاً مقبرة عظيمة، هي مقبرة «السلام»، حيث ضريح الإمام علي بن أبي طالب، تستقبل الجنائز على مدار الساعة.

كشف مؤلف الكتاب حياة الشاعر أحمد الصافي، وأسلوب معيشته وأخلاقه وشجونه، من شعره، وهو يرى أنه كان شاعراً صادقاً، لا علاقة له، كما يبدو، بما شاع حول العديد من كبار الشعراء بأن شعرهم غيّر حياتهم، لا يعرف العشق ويظهر في شعره عاشقاً، أو يكون جباناً ويظهر في شعره شجاعاً.. الخ. وصف الصافي عوزه وكان كذلك، وأفصح عن غربته وكان كذلك، ووصف غرفته، مثلما هي، ومستشفى الغرباء بدمشق بما داخله منه من فزع، وعلى حد قول مؤلف الكتاب العاتي «داخله مفقود والخارج منه مولود». لذا عُرف الصافي بشاعر المعاني. و«إن أول تلك المميزات وأهمها هي البساطة في طرح الأفكار، وتناول الأشياء، والمعالجة الفنية للموضوعات، وهو يعبر عن ذلك أصدق تعبير». وبطبيعة الحال تحتاج البساطة إلى الصدق، والتوافق بين الفن والسلوك.

للصافي النجفي آراء وهواجس تجاه شعراء عصره والأقدمين، يحب مَنْ يحب ويهمل مَنْ يهمل، وترى هناك عدة مؤثرات في اختلاف مشاعره، فهو يجل أبا الطيب المتنبي، وأبا العلاء المعري (ت 449هـ)، وهنا شيء من التوافق الروحي أيضاً بينه وبين فيلسوف المعرة، ذلك إذا علمنا أن للصافي تطلعات فلسفية، داهمته وهو بإيران في العشرينات، وبها اقترب من شعر وأدب عمر الخيام (ت 515هـ)، وشعراء إيران الفلاسفة.وهو القائل بظرفه وجده:

مقامي بين فلسفة وشـعر
فأيهما أتـابع لست أدري
فلي روح بظرف أبي نواس
ولكن فـي وقاري كالمعري

ونجد له موقف مغاير من الشاعر أحمد شوقي (ت 1932)، هو على ما يبدو لا يطمئن ولا يرتاح لإمارته للشعر. تراه يعطي الإمارة لإيليا أبو ماضي (ت 1957 ) بقوله:

سألتـني الشعراء أيـن أميرهم
فأجبـت إيليـا بقـول مطلق
قالوا وأنت! فقلت ذاك أميركم
فأنا الأمير لأمة لم تخلق
وتراه يخلع الإمارة من شوقي لأنه حصر نفسه بشاعر العزيز الخديوي توفيق عندما قال: «شاعر العزيز وما.. بالقليل ذا اللقب». وإثر ذلك قال الصافي:

وأميـر رام أن أمدحه
قلت احتاج لمن يمدحني
إن لي فوق معاليك عُلاً
كنت لو تفهما تفهمني

كذلك تجده لا يرتاح لشاعر المرأة، نزار قباني، حسب ما يوصف، وكان الأخير يزوره في بداية شوطه الشعري في مقاهي دمشق. وقد سمع المؤلف من الصافي ما قاله في القباني، من أنه لم يقل الحقيقة في بيته التالي: «وشعري ما اشتراه الملوك والأمراء»، فقال الصافي أليس هو القائل لأحد الرؤساء: «ليتني أستطيع أن أصنع من أجفاني حمائلاً لسيفك»؟.
ويرى الصافي أن هذا يليق بقول الفتاة لفتى أحلامها. كذلك اشمأز من قول نزار، مع أنه قاله متغزلاً: «فصلت من جلد النساء عباءة..وبنيت أهراماً من الحلمات». وخلاف ذلك تراه أحب معروف الرصافي، وبدوي الجبل، ومحمود عباس العقاد وغيرهم من معاصريه، وزواره في المقاهي.

ظل الصافي النجفي مقيماً بين غرفة بائسة بسوق الحميدية بدمشق مساءً، وبالمقاهي نهاراً. في الغرفة كان يتدفأ برؤية المصباح، وفي المقهى يلتحف بالجرائد حول صدره إن مسه البرد، وهي قراطيسه أيضاً، كان يدون جل قصائده على ورقها، ومن عادته أن يحرر ما كتبه على حاشية الجريدة أو أغلفة عُلب السكائر، ثم يحررها بعد عودته إلى غرفته في دفاتر أشعاره. كان حضوره، أو تردده، على المقهى يأتي بالرزق على صاحبها.

 كتب العاتي ناقلاً عن ما كتبه فؤاد الشايب العام 1943: أن صاحب مقهى انقطع عنه الصافي إلى مقهى آخر، فأتاه باكياً متوسلاً: «قل ماذا تريد... مر بما تشاء وعد إلى المقهى، الله يستر عرضك، أنا وأولادي تحت أمرك، وإذا أردت أن لا يتناول أحد مجالسيك مشروباً فاغمزني عليه».

ومعلوم، كان حضور الصافي في المقهى حضوراً للزبائن، ومن عادة الشعراء والأدباء أن يجالسوه لوقت أطول، وعلى هذا يحسب صاحب المقهى رزقه. وممن زاروه فيها بدر شاكر السياب، الذي كتب عنه مقالاً بعد عودته إلى العراق في مجلة «أهل النفط» البغدادية.
وربما من أعجب العجب إنه لم يقم للصافي النجفي مهرجان تكريمي في حياته، رغم كثرة المعجبين وعظم مراتبهم، أو أمسية تكريمية في حياته، وقد تحايل عليه الكثيرون، لكن بلا طائل، لأنه لم يألف المجاملة. وحصل أن همس بأذنه أحد المعجبين، من الذين لا يعرفهم، قائلاً أنت «الطائر المحكي والآخر الصدى» فاعتبر هذا مهرجانه، لخلوه من المجاملة والمحاباة وما إليهما، وعندها قال:

جاء مَنْ لم أعرفه، قال سـلام
قلت مََنْ؟ قال مَنْ بشعرك هاموا
كان ذاك السلام لـي مهرجاناً
مهرجاني على الرصيف يُقـام

عموماً، كتب العاتي ما سمعه عن الصافي، وجهاً لوجه، وما حفلت به المؤلفات عنه. كتب حول موقفه من السياسة، وهو أحد المشاركين بالثورة ضد بريطانيا، في ما عُرف بثورة النجف، وحُكم عليه بالإعدام، وظل يهجو بشعره بريطانيا وغيرها من دول الاستعمار، اختار العروبة لكن بحدود النسبة إلى الأصل والاعتداد به، لا ضمن عقيدة وحزبية، ومن مظاهر ذلك تمسكه بلباسه العربي، الكوفية والعقال، وهي من الصنف البسيط، التي عزف المؤلف عن وصفها بالرثة، وهي كذلك. كان مؤمناً، لكن بطريقته الخاصة. مات الصافي مثلما مات عمرو الجاحظ وأبو العلاء المعري أعزبَ. لم يرث أحداً ولم يرثه أحد، أحب فتاة نجفية ولم يطل الاقتران بها، فعاش ومات مستأنساً بالخيال.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com