مقالات

دعاء الهُدهُدْ

لؤي قاسم عباس

oaay_kassim@yahoo.com

أستبشرتْ الطيورُ خيراً حين رأت تباشير الربيع قد لاحت لها. فبرزت من وَكـَناتها لتشدَّ رحالها إلى أقاصي الأرض لتحط حيثما يحل الربيع، غير أن ابتهاجها بقدوم الربيع لم يكتمل وفرحتها لم تتم، فلقد استعادت الطيور ذكرياتها في سنينها الخوالي وما أصابها على يد ِ ذلك الوحشُ الكاسر الذي اسمهُ " الإنسان " فلقد قضى معظم الطيور نحبهم وهم يمضون في رحلة الربيع. وهنا قررت النوارس والشواهين و العقبان واللقالق أن تضع حداً لانتهاك حقوق الطير وان ذلك لن يجدِ نفعاً ما لم تجتمع الطيور بأكملها في مكان لا يصل إليه غدر الإنسان... فقرروا أن يكون أول يوم من أيام الربيع هو موعدٌ لاجتماعهم المزعم هذا في إحدى غابات الأمازون عند البوم الحكيم.

وأرسلت الرسل والوفود إلى باقي أصناف الطير لدعوتهم لحضور هذا الاجتماع المهم. وأخذت ممثلي الطيور تترى بالوفود إلى المكان المخصص للاجتماع وفي الموعد المحدد كان البوم الحكيم قد توسط الجمع وعلى ربوة من الأرض استقر به المقام. وساد صمت ٌ في المكان قبل ان يبدأ البلبل الصداح بالكلام، وبما عُرف عنه من بلاغة واضحة وحجة دامغة وسحر بيان وحلاوة لسان، فانبرى من مجلسهِ صادحاً مغرداً...

:- سيدي البوم الحكيم اعز الله بقاءك وأدام عزك فلقد نلت مكانتك هذه بعظيم حكمتك وصواب كلمتك وسديد رأيك منذ قديم الأزل، فلقد كنت دوماً رمزاً للحكمة وصواب الرأي وقوة الحجة.وقد جئنا إليك نبث الشكوى ونشتكي البلوى من ظلم الإنسان ولؤمه وغدره وجبروته، فهذا الكائن اشد مكراً من الشيطان وحبائلهُ أقوى وأمتن فهو أمضى عزيمة وأشدُّ شكيمة، لا ينثني ولا يتوانى لحظةٍ واحدة في عزمه عن اسري فما أن تقع عيناه علي ّ حتى يجّدُّ في طلبي فإذا حصّل مراده ونال طلبه أودعني في قفصٍ لا يصلح الا لعيش الذباب، ثُمّ يمتنعُ عن إطعامي رغم إنني أسيرٌ مرتهنٌ بين يديه فإذا أخذ الجوع مني كل مأخذ صرتُ انشدُ أغنية " الجوع " عندها يترنم طرباً ويهدي الي حبّة تمرٍ او بقايا فتات الخبز المبلل ( باللعاب ). واغرورقت عيناه ُ بالدموع وانسحب باكياً يكفكفُ دموعه بجنحيه ِ.

وانبرى الكناري مؤيداً كلام البلبل الحزين.

وصاحت طيور الحُب :- نعم يا سيدي الحكيم هذا ما يحصل لنا ايضا.

وحاكى الببغاء صوت طيور الحُب، مردداً الكلام إيّاه.

وساد الصمتُ لحظات قبل أن يحلق العصفور من مكانه ليقف بقرب النسر الجارح مزقزقاً حتى توجهت الرؤوس نحوه واستطالت الرقاب إليه وهم يستمعون اليه بأذنُ واعية وقلوبٍ صاغية واخذ يلّوح بجنحيه وهو يخاطب البوم الحكيم.

:- يا سيدي الحكيم ( ثم أدار برأسه ِ دورة كاملة ) قائلاً :- يا أخوتي الطيور هل ترون في جسمي من لحمٍ يسد الرمق او يشفي الغليل ؟!

هل أنا اسمنُ أو اغني من جوع ؟!

الم يقول المثل عندنا وعند بني البشر على حد ٍ سواء ( الف عصفور لا يملئون قدر طعام ). فعلام هذا الكائن الشره واعني به الإنسان لا يتفتأ عن اصطيادي بحجة واهية وادعاءٌ كاذب بأن لحمي تشتهيه حبالى نسائهم والمصيبة يا سيدي الحكيم انه ليس للإنسان موسم للتكاثر مثلنا معشر الطير، فنسائهم حبالى في كل وقت وعلى مدى السنين والأعوام والفصول واشد ما أخشاه يا سيدي الحكيم لو أن امرأة حبلى نظرت إلي فالويل ثم الويل لي من بعلها او ابنها فلا يزالون يلاحقونني حتى يتمكنوا مني فاذا تم لهم اصطيادي اودعوني لدى صغارهم وكأنني دمية صغيرة فيشبعونني ضرباً ويكسرون اجنحتي و قبل ان تصل روحي التراقي يقطع كبيرهم رأسي بيديه وكأن رأسي ثمرة ٌ اقتطعت من غصنها وبكى بكاءاً مراً وانسحب باكياً فرثت لحاله الطيور اجمع...

وبرز من بين الجموع الديك التقي وهو يصيح الغوث الغوث أيها الحكيم أنقذوني من ظلم الانسان فتعجبت الطيور انه صوت الديك التقي ! ما الذي جاء بك الى هذا المكان من الغابة ؟

فقال الديك:- لا تعجبوا من وصولي إلى هنا، فلقد طفح بيّ الكيل، حتى بلغ السيل الزبى، وضاقت علي ّ الارض بما رحبت، وبلغت القوب الحناجر وقد سمعتُ باجتماعكم هذا عن طريق صديقتنا حمامة السلام وهي التي أرشدتني الى مكانكم هذا فانطلقنا في جوف الليل المظلم وواصلنا الليل بالنهار ونحن نسير حيث ترافقنا حمامة السلام وتدلنا على مكان ٍ نختبئ فيه من عين بني الإنسان فلقد آثرنا الحضور الى هنا لنبث الهمَّ ونشكو الظُلمَ ما لحق بنا من غدر الانسان ولئمه وحقده فانتم ايها الطيور الاكارم قد منحكم الله أجنحة تحلقون بها في اعلي الفضاء اما انا فان ثقل جسمي أقعدني عن الطيران فصرت اسيرٌ لدى الإنسان اخدمه ُ طوال عمري فبصوتي يبدأ صباحه، ويتوجه الى ربه بصلاته فاذا فرغ من صلاته همّ الي وحمل ما في صلبي فيحرمني من ان أرى ما يفقس عنها وما يخرج منها. فهذا الكائن الشرة لا يمل ولا يكل من التهام أجنتي، وبعد كل عنائي وطول صبري واحتسابي عند الله ينهي حياتي بسكينه الذي يشحذهٌ أمامي فيحتز رأسي ناكراً لكل جميل صنعته فيه وكل معروف اسديته اليه وبلا رحمة او رأفة يحتز راسي وهو يتلوا اسم الله.

واستأذنت الدجاجة من زوجها بالكلام فأذن لها. فهمت بالبكاء والعويل والنحيب صارخة ٌ مولولة تندب حضها العاثر الذي أوقعها بيد ذلك الكائن الذي لم تمر الرحمة في قلبة ذات يوم وما عرف الرأفة في حياته.وأخذت تصرخ :- أفراخي وفلذة كبدي في بطون بني الإنسان ولحمي صار أشهى ما في نفسه والّذ ما عنده وقد صنع لنفسه علوماً واداباً في فنون طهيي وشيي.. ولا يكتفي بذبحي وتفريغ ما في احشائي فانه يعود يملاها بما لذّ وطاب لتطيب نفسه ويشبع رغبته. وصارت عادة ٌ عند بني الإنسان في تقطيع اوصالي وتجميع ما تشابه منها، فأجنحتي في مكان وأفخاذي في مكان ٍ آخر وراسي في مكان وقلبي في كان ثم بكت وذهبت تمسح دموعها بجنح بعلها الديك...

وتكلمت طيور البر وهي تأن بوجعٍ شديد :- يا سيدي الحكيم لقد منحنا الله سبحانه وتعالى اجنحة نحلق بهما حيثما نشاء في أعالي الجو نغدو ونروح إلى مشارق الارض ومغاربها الا ان مكائد الإنسان اشد مكراً من مكائد الشيطان وحبائلهُ أقوى وامتن فمكائد صيده ونسيج شباكه وفوهات بنادقه لا تفارقنا في حلنا وترحالنا فهي تصل إلينا في اعلى عليين حتى أسفل الارضين. وان بعض من إخواننا الطيور يقتلون لا لاجل لحومهم وانما لاجل التسلية والتدريب والافتخار بمهارات صيدهم فبني الانسان يفرحون اشد الفرح عندما يرون طائراً يسقط باطلاقاتهم من أعالي السماء ليصطدم بالأرض وكأنه حجر وليس روحاً خلقها الله واجلها.. وأرادت بقية أصناف الطير ان تتكلم بما نحوي هذا الكلام إلا ان البوم الحكيم قرر إيقاف جلسة الاستماع فتكلم وقال :- قد سمعتُ شكواكم وبلواكم واني لأعرفُ من غدر الإنسان اكثر مما تعرفون فلهذا اختفي في هذا المكان النائي ولا اخرج الا والناس نيام، ورغم هذا فهم يرمونني بالشؤم ويستقبحون وجهي فاذا ما حلقت قرب احدٍ منهم حتى همً برمي بحجارة او أي اداة لديه.. وارى يا اخوتي الطيور انه لامناص من التخلص من ظلم الإنسان وكيده فان كنتم يا معشر الطير تشكون من ظلم الإنسان فان الإنسان نفسه يشكوا من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، فهم يقتلون بعضهم بعضا ويذبحون بعضهم البعض لاختلافات ٍ دينية وعرقية وقومية ولونية وقد ارتكبوا جميع المعاصي والاثام والذنوب بحق الانسان ما بين سلب وقتل وهتك وتدمير وليس هناك فاحشة او سيئة دون ان يرتكبها الإنسان بحق أخيه الإنسان، فليس لكم حيلة عندي ولكن ارى لكم راياً وهو الانجع والأفضل :- أرى أن تذهبوا بجمعكم هذا الى الهدهد في اعالي الجبال وتعيدوا عليه المقال فأن له منزلة ٌ عند الله عظيمة ومكانة مرموقة فلقد كان صديقٌ للنبي سليمان وخادمه الأمين فإذا وصلتم فاشتكوا له الحال والبلوى لعله يدعوا ربه ليرفع يد الإنسان عنا...

ومضت الطيور مثنى وثلاث ورباع تترى جماعة اثر أخرى حتى وصلت إلى موضع الهدهد حيث كان يصلي فلما فرغ من صلاته أعادوا عليه الكلام فبكى لحالهم وقال لهم :- وايّم الله لقد لقيت من ظلم الإنسان اشد مما لقيتم فلذتُ بنفسي الى هذا المكان النائي فهم يعتبرونني طائراً مقدساً وان عظامي فيها بركة فهم يهمون بالحصول على عظمي فهم وان كانوا لا يستسيغون لحمي الا انهم يطلبون عظمي لاعمال سحرية ( مما يفرقون به بين المرء وزوجه ) واخذت مجاميع الطيور بالبكاء والنحيب فأشار إليهم الهدهد ان اسكتوا، فلما سكتوا قال لهم سأذهب إلى أعلى الجبل كي ادعوا الله فامكثوا هاهنا حتى آتيكم بالخبر اليقين لعل الله سبحانه يستجيب دعائي فيكم ولا تيأسوا من روح الله فانه لا ييأس ُ من روح الله الا القوم الكافرين...

وصعد الهدهد إلى أعلى الجبل وصلى لله ورفع جنحيه وعيناه ترنو نحو السماء وقال :- اللهم أسألك بأسمك العظيم الأعظم وأسمائك الحسنى وأسالك بنبيك سليمان ومانحته بقدرتك من تعلم منطق الطير والريح أوابة بأمره وسخرت له الجن وأسالك بعظيم كلمتك فينا نحن معشر الطير، أسائلك يا الله أن ترفع يد الإنسان عنا فقد أساء إلينا ولم يحترم الروح التي هي سر من أسرار عظمتك وقدرتك فأرنا فيه عظيم صنعك، وقد جاءت هذه الطيور تشتكي ظلم الإنسان لها وإهدار دمها بدون سبب حتى صار قتل الطير عادة وذبحه سعادة فارحمنا يا الله، واخذ يبكي حتى اغمي عليه فلما أفاق نزل من الجبل وصاح بأعلى صوته يا معشر الطير ابشروا فاقد استجاب الله دعائكم فاذهبوا برعاية الله وحفظه فلقد رفعت يد الإنسان عنكم... ومضت الطيور فرحة مستبشرة وكان حقاً كلام الهدهد وصواباً فلم يجرأ الإنسان على اصطياد الطيور او لمسه او حتى الدنو منه وأطلقت اسارى الطيور لدى بني الانسان فحلقت في اعلي الجو عالياً مسرورةٌ فلقد استعادت حريتها...

لم تكن الطيور تعلم سر ذلك العكوف عن اصطياد الطيور فلربما حل ببني البشر مرض انفلونزا الطيور ليوقف القتل العبثي و الجماعي لمعشر الطيور، او ان الانسان قد عزف عن قتل الطيور لانه قد عكف على قتل نفسه في حروبٍ لا هوادة فيها او ان ضمير الانسان قد دبّ فيه الحياة وهذا محال.

المهم في الامر كله ان للهدهد دعوة ٌ مستجابة...

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com