مقالات

أمراء السياسة حينما يتربعون عرش القوافي

نضير الخزرجي / إعلامي وباحث عراقي

تتيح للناقد الأدبي من خلال قراءة قصيدة واحدة أو قصائد عدة لشاعر واحد، ملاحظة أمور كثيرة على علاقة مباشرة أو غير مباشرة بشخص الشاعر والواقع المحيط به، وإذا تكاثرت القصائد وتعدد الشعراء على مسافة زمنية طويلة، فان القراءة ستتشعب وتكثر الزوايا التي ينظر منها الناقد، بل انه سيكتشف ما لم يكتشفه ناقد آخر، وبذلك تزداد وجهات النظر وتبرز نقاط قد تغيب عن هذا وتحجم عند ذاك.

وإذا اشتهر في المأثور النبوي: (ان الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها)، فان الأدب العربي بقسميه المنظوم والمنثور، له من ينفخ فيه الحياة على رأس كل جيل، وبخاصة في جانب النظم، وإذا كان العمر الافتراضي لكل جيل بنحو 35 عاما فان القرن الواحد يشهد ثلاثة أجيال من الشعراء، يظهر فيهم من المبرزين من يشار لهم بالبنان، وعلى رأس كل قرن يقف هناك من يبز الشعراء كلهم، ولذلك تحتفظ كل امة في ذاكرتها بعدد محدود من الشعراء وربما اقل من أصابع اليد الواحدة، رغم حركة الزمان وتعاقب الشعراء جيلا بعد آخر.

البحاثة الدكتور محمد صادق محمد الكرباسي في الجزء الثاني من كتاب "ديوان القرن الرابع" الهجري الصادر عن المركز الحسيني للدراسات في لندن، في 408 صفحات من القطع الوزيري، وفي إطار قراءته التاريخية والأدبية والنقدية للشعر المنضد في شخصية الإمام الحسين (ع) ونهضته المباركة خلال القرن الرابع الواقع في الفترة (8/8/913-14/8/1010م)، وجد في خاتمة الجزء الأول والثاني من هذا الديوان، ضمن سلسلة دواوين القرون من دائرة المعارف الحسينية، ان القرن الثاني الذي تلى القرن الأول الذي استشهد فيه الإمام الحسين (ع) في 61 هـ، أفرز تسعة شعراء من بين 34 شاعرا، وهم: كثير عزة (ت 105 هـ)، الفرزدق (ت 110 هـ)، ابن قتة (ت 126 هـ)، الكميت (ت 126 هـ)، ابن ميمون (ت 146 هـ)، ابن هرمة (ت 176 هـ)، الحميري (ت 178 هـ)، النمري (ت 190 هـ) وأخيرا أبو نؤاس (ت 198 هـ) وقد برز الحميري من بينهم، ذلك: "لأن شعره أخذ المساحة الشاسعة من ذلك القرن وأعطاه الصفة المميزة حيث ضمن شعره الكثير من الأحداث والأحاديث ذات العلاقة بالإمام (ع) بالإضافة إلى قوة التعبير و..و..".

وفي القرن الثالث الهجري برز ثمانية من شعراء الطبقة الأولى نظموا في الإمام الحسين (ع) من بين 28 شاعرا، وهم: الشافعي (ت 204 هـ)، أبو تمام (ت 231 هـ)، ديك الجن (ت 235 هـ)، ابن السكيت (ت 244 هـ)، دعبل (ت 246 هـ)، ابن الرومي (ت 283 هـ)، البحتري (ت 284 هـ)، وأخيرا ابن المعتز (ت 296 هـ)، وبرز من بينهم دعبل الخزاعي: "لأنه تمكن ان يفوقهم في الاتجاهين الكمي والكيفي".

ويستظهر المصنف من جملة اعتبارات ان قصائد الشاعر أبو الطيب احمد بن الحسين المتنبي (303-354 هـ) في الإمام الحسين (ع) والتي يخلو ديوانه منها ربما قد تعرضت للاغتيال الأدبي، إذ لا يعقل وهو الموالي لأهل البيت (ع) ان تجدب قريحته عن النظم فيه، ويدعم رأيه بسبعة قصائد ومقطوعات للمتنبي أوردها السيد محسن الأمين (ت 1952م) في موسوعة أعيان الشيعة وغابت عن الديوان، من ذلك قوله في مدح الإمام علي (ع):

أبا حسن لو كان حبك مدخلي ** جهنم كان الفوز عندي جحيمها

وكيف يخاف النار من بات موقنا ** بأن أمير المؤمنين قسيمها

 

سلاطين ولكن شعراء

وبرز في القرن الرابع الهجري اسم الوزير والشاعر واللغوي إسماعيل بن عباد الديلمي (ت 385 هـ)، وقد تفوق على 21 شاعرا من طبقة الصفوة من بين 43 شاعرا نظموا في الإمام الحسين، وهم: البسامي (ت 302 هـ)، ابن دريد (ت 321 هـ)، الصنوبري (ت 334 هـ)، السري الرفاء (ت 344 هـ)، العوني (ت 350هـ)، الزاهي (ت 352 هـ)، أبو فراس (ت 357 هـ)، كشاجم (ت 360 هـ)، الأندلسي (ت 362 هـ)، الناشئ الصغير (ت 365 هـ)، ابن قريعة (ت 367 هـ)، سعيد الخالدي (ت 371 هـ)، عضد الدولة (ت 372 هـ)، ابن المعز (ت 374 هـ)، الخباز البلدي (ت 380 هـ)، الجوهري (ت 380 هـ)، محمد الخالدي (ت 386 هـ)، الوَءوَء (ت 385 هـ)، ابن الحجاج (ت 391 هـ)، وبديع الزمان (ت 398 هـ).

ولعظمة شعر الصاحب بن عباد وقوته مع كثرته: "مدحه الشعراء في كلا القطرين العربي والفارسي بقصائد طوال تجاوزت في حياته المائة ألف قصيدة، غير التي لم يطلع عليها والتي منها قصائد السيد الرضي الذي لم يبعثها إليه مخافة ان يتهم بمطلب مادي عنده فيستصغره الصاحب، فما بالك بالقصائد التي رثي بها بعد موته أو التي تأخرت عن تلك العصور".

ولاحظ الشيخ الكرباسي من خلال البحث والتقصي، ان هذا القرن الذي شهد قيام دول إسلامية في مناطق مختلفة من العالم، شهد معه بروز سلاطين ووزراء نظموا الشعر بعامة وفي الإمام الحسين (ع) ونهضته بخاصة، حيث اتسعت رقعة الشعر شرقا وغربا من بلاد الأندلس إلى بلاد فارس: "وقد اجتاح الشعر الحسيني بلاط السلاطين والملوك: فدخل البلاط العباسي في بغداد والحمداني في حلب والبويهي في اصفهان والفاطمي في القاهرة"، ويقف على رأس هؤلاء ستة من الخلفاء والسلاطين والوزراء، وهم:

- الخليفة القائم بأمر الله الفاطمي محمد بن عبيد الله المهدي (ت 334 هـ) ثاني ملوك الدولة الفاطمية.

- السلطان عضد الدولة البويهي فناخسرو بن حسن (ت 372 هـ) خامس سلاطين الدولة البويهية التي حكمت في إيران والعراق.

- الأمير أبو فراس الحمداني الحارث بن سعيد بن حمدان (ت 357 هـ)، ابن عم سيف الدولة وأمير ولاية منبج.

- الأمير تميم بن المعز لدين الله الفاطمي (374 هـ) وكان يلقب بأمير شعراء مصر.

- الوزير الصاحب إسماعيل بن عباد الديلمي.

- الأمير محمد بن عبد الله السوسي (ت 370 هـ)، من كتاب وشعراء أهل حلب.

 

فن الإمضاء الشعري

كان من إفرازات نشوء الدول الإسلامية، غزارة الإنتاج الأدبي، وتفتح قرائح الشعراء، وانعكس الوضع على الشاعر نفسه حيث كان الشاعر في القرن الرابع الهجري ينظم الشعر دون وجل أو خوف إما لشجاعة الشاعر نفسه مع قناعة ذاتية بتحمل تبعات ما ينشئ وينشد أو لان مساحة الحرية التي يتمتع بها تسمح له بنقد الأنظمة والحكومات المتعاقبة والتعرض لما أصاب أئمة أهل البيت (ع) من ظلم بخاصة في العهدين الأموي (40-132 هـ) والعباسي (132-656 هـ).

وعلى خلاف القرون الماضية، عمد البعض من الشعراء إلى الإمضاء على شعرهم وتوقيع قصائدهم باسمهم، وقد ساعد هذا الأسلوب في حفظ الشعر ونسبته إلى صاحبه، فضلا عن إكساب صاحبه قوة في الشخصية وتشجيع الآخرين على نقد الانحرافات شعرا ونثرا، ومن ذلك قول الشاعر علي بن حماد العدوي (ت 400 هـ)، في قصيدة من بحر الطويل في 62 بيتا تحت عنوان "شدّة عَلوية"، يقول في مطلعها:

دعا قلبه داعي الوعيد فأسمعا ** وداعي مبادي شيبه فتورعا

ثم يصل إلى ذكر الحسين (ع):

يشدّ عليهم شدّة علوية ** يظلّ نياط القلب منها مُقطعا

كشدِّ أبيه في الهياج وضربه ** وهل تلد الشجعان إلا المشجَّعا

ويختم القصيدة بقوله:

ومدح ابن حماد لآل محمد ** سيُجزى بيوم المرء يُجزى بما سعى

أو قول ابن الحجاج الحسين بن احمد النيلي (ت 391 هـ) في قصيدة من البسيط في 78 بيتا بعنوان "ويلاه ويلاه"، يقول في مطلعها:

لا تُنكري أن ألِفتُ الهمَّ والأرقا ** وبتُّ من بعدهم حِلف الأسى قلقا

إلى أن يقول:

يا آل طه لقد نال الأمان بكم ** في البعث كل ولي مؤمن صدقا

أحب أعدائي فيكم إذ تحبكم ** وإنني أهجر الأهلين والرُّفقا

فهاتموها من النيلي رائقةً ** تحي الحيا رقةَ لفظا ومنتسقا

أو قول علي بن احمد الجوهري (ت 380 هـ) من البسيط في 27 بيتا تحت عنوان "لهفي على الدين"، ومطلعها:

عاشورنا ذا ألا لهفي على الدين ** خذوا حِدادكم يا آل ياسين

إلى أن يقول:

يا عين لا تدعي شيئا لغاديةٍ ** تهمي ولا تدعي دمعا لمحزون

قومي على جدث بالطف فانتفضي ** بكل لؤلؤ دمع فيك مكنون

يا آل أحمد إن الجوهري لكم ** سيف يقطع عنكم كل موضون

 

الشعر وحديث الخلفاء

يتضمن نظم الشعر أغراضا كثيرة، يستطيع المتذوق للشعر ملاحظتها، وتكتسب بعض القصائد أهمية كبيرة، بخاصة إذا كانت على ما فيها من بيان وبلاغة تؤرخ لحوادث يكون فيها الشاعر جزءا من الحدث أو يقف قريبا من حافة الزمن الذي وقع فيه، ولذلك لم يستغن رواة التاريخ عن الاحتجاج بالشعر لتثبيت أو نفي حادثة أو واقعة.

وقد أحسن الشعراء في تمثل النصوص القرآنية والنبوية، كما أحسنوا في تثبيت مصاديق النصوص، من قبيل "نص الخلفاء" وعددهم الذي أشار إليه النبي محمد (ص) في أكثر من موقع، فقد أخرج البخاري (ت 256 هـ) في صحيحه: 9/101، عن جابر بن سمرة (ت 66 هـ)، قال: (سمعت النبي (ص) يقول: يكون اثنا عشر أميرا، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنه قال: كلهم من قريش)، ونقل مسلم القشيري (ت 261 هـ) في صحيحه: 3/1452، عن جابر بن سمرة قال: (دخلت مع أبي على النبي (ص)، فسمعته يقول: إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة. قال: ثم تكلم بكلام خفي علي. قال: فقلت لأبي: ما قال؟ قال: كلهم من قريش)، وأخرج أحمد بن حنبل (ت 241 هـ) في مسنده: 5/87، عن جابر بن سمرة، قال: (سمعت رسول الله (ص) يقول في حجة الوداع: لا يزال هذا الدين ظاهرا على من ناواه، لا يضره مخالف ولا مفارق، حتى يمضي من أمتي اثنا عشر أميرا كلهم من قريش)، وروى القندوزي الحنفي (ت 1294 هـ) في ينابيع المودة: 3/399، عن المناقب بسنده عن جابر بن عبد الله الأنصاري (ت 74 هـ) يقول: (قال لي رسول الله (ص): يا جابر إن أوصيائي وأئمة المسلمين من بعدي أوّلهم علي، ثم الحسن ثم الحسين ثم علي بن الحسين ثم محمد بن علي المعروف بالباقر ستدركه يا جابر فإذا لقيته فاقرأه منّي السلام ثم جعفر بن محمد ثم موسى بن جعفر ثم علي بن موسى ثم محمد بن علي ثم علي بن محمد ثم الحسن بن علي ثم القائم اسمه اسمي وكنيته كنيتي محمد بن الحسن بن علي ذاك الذي يفتح الله على يديه مشارق الأرض ومغاربها، ذاك الذي يغيب عن أوليائه غيبة لا يثبت على القول بإمامته إلاّ من امتحن الله قلبه للإيمان).

وفي هذا الإطار، يثبت الأمير أبو فراس الحمداني، مصاديق الأثر النبوي، في مقطوعة من بحر الخفيف تحت عنوان "الشفعاء"، يقول فيها:

شافعي أحمدُ النبي مولا ** يَ علي والبنت والسبطان

وعلي وباقر العلم والصا ** دق ثم الأمين ذو التبيان

وعلى ومحمد بن علي ** وعلي والعسكري الداني

والإمام المهدي في يوم لا ينـ ** ـفع إلا غفران ذي الغفران

أو قول عضد الدولة فناخسرو بن حسن البويهي في مقطوعة من الكامل تحت عنوان "الأئمة اثنا عشر"، يقول فيها:

إن كنت جئتكَ في الهوى متعمدا ** فرميت من قطب السماء بهاوية

وتركت حبي لابن بنت محمد ** وحشرتُ من قبري بحب معاوية

إن الأئمة بعدَ أحمدَ عندنا ** إثنان ثم اثنان ثم ثمانية

أو قول الوزير الصاحب إسماعيل بن عباد من مجزوء الرمل تحت عنوان "لا أعرف غيرهم"، ينشد:

أنا لا أعرف حقا ** غير ليثٍ بالغري

وثمان بعد شبليـ ** ـيه ومحجوب خفي

وأشار علي بن حماد العدوي إلى الخلفاء والأئمة الاثني عشر من خلال ذكر مواضع مراقدهم الشريفة، عندما أنشد من البسيط، في قصيدة من 41 بيتا تحت عنوان "لا عشت بعدك":

بعضٌ بطيبةَ مدفونٌ وبعضهمُ ** بكربلاء وبعضٌ بالغريين

وأرض طوسٍ وسامرا وقد ضمنت ** بغدادُ بدرين حلاّ وسط قبرين

فطيبة أو المدينة المنورة إشارة إلى الأئمة: الحسن بن علي المجتبى (ت 50 هـ)، علي بن الحسين السجاد (ت 95 هـ)، محمد بن علي الباقر (ت 114 هـ)، وجعفر بن محمد الصادق (ت 148 هـ)، وأما كربلاء فإشارة إلى مرقد الإمام الحسين بن علي والغريين إشارة إلى النجف الأِشرف ومرقد الإمام علي بن أبي طالب ( ت 40 هـ)، وارض طوس إشارة إلى مرقد الإمام علي بن موسى الرضا (ت 203 هـ)، وسامرا إشارة إلى مرقد الإمامين علي بن محمد الهادي (ت 254 هـ) والحسن بن علي العسكري (ت 260 هـ)، وبغداد إشارة إلى مرقد الإمامين موسى بن جعفر الكاظم (183 هـ) وحفيده محمد بن علي الجواد (ت 220 هـ). ولم يشر إلى الإمام المهدي المنتظر لأنه حي يرزق حتى يومنا هذا.

 

وراء كل نهضة امرأة

يجمع المحققون والمؤرخون، ان واقعة الطف واستشهاد الإمام الحسين (ع) ما كان لها ان تعرف تفاصيلها ووقائعها لولا التسديد الإلهي بأن قيض للنهضة الحسينية مَن يرفع لواءها خفاقة ويصدح بها، ويشار إلى شقيقة الإمام الحسين (ع) السيدة زينب الكبرى (6-62 هـ) بأنها المرأة الرائدة التي ملكت لسانا إعلاميا وبلاغيا وكأنها تحدث عن أبيها علي (ع)، فضحت النظام الأموي وهي في عقر داره عبر خطبها ومواقفها البطولية، وحيث أراد النظام عبر حفلة السبي الشامي الطعن بالبقية الباقية من أهل بيت النبوة المحمدية، لكن العقيلة زينب سخّرت هذا الحفل الجاهلي في توعية الجماهير المسلمة على حقيقة الواقع السيء الذين يعيشونه، وكان لخطبها وقع النار في الهشيم.

هذا الدور الذي نلمس آثاره حتى يومنا هذا، حمل الشعراء على تثبيته في صدور أبياتهم وأعجازها، وافرد بعض الشعراء أبيات كثيرة وبخاصة في القصائد التي تحكي واقعة الطف وما جرى بعدها من السبي من كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام عبر المدن الواقعة على نهر الفرات. ومن ذلك قصيدة لعلي بن حماد العدوي في 52 بيتا من الطويل تحت عنوان "فديتك روحي يا حسين"، ينشد على لسان السيدة زينب (ع):

وزينب تدعو يا حسين وقلبها ** جريح لفقدان الحسين ثكولُ

إلى أن ينشئ على لسانها:

أقولُ كما قد قال من قبل والدي ** وأدمعُهُ بعد البتول هُمولُ

أرى علل الدنيا عليَّ كثيرة ** وصاحبها حتى الممات عليلُ

لكل اجتماع من خليلين فرقةً ** وإن بقائي بعدكم لقليلُ

ويتكرر مثل هذا في قصائد العدوي، ويلاحظ على قصائده التي استأثرت في الجزء الثاني من ديوان القرن الرابع، بعشر قصائد من بين 91 قصيدة ومقطوعة وبيت يليه احمد الصنوبري بسبعة، وقبلهما الصاحب بن عباد بثلاث عشرة قصيدة، ان بعضها ينطبق عليها وصف "ملحمة"، لأنها تصف معركة كربلاء قبلها وبعدها وتضع المتلقي في أجواء الطف والأسر، ويلزمني العجب كيف غفل خطباء المنبر الحسيني عن مثل هذه القصائد الملاحم التي تنقل المستمع إلى كربلاء وتحلق في أجوائها عبر بساط القوافي، واعتقد ان واحدة من خطط تطوير المنبر الحسيني بما يواكب التطورات في عالم الاتصالات، بحيث تصل واقعة الطف ومجرياتها إلى أسماع اكبر قدر من الناس، وبخاصة طبقة الأدباء والشعراء الذين يتذوقون الشعر أكثر من غيره، بما يجعلهم أكثر انجذابا ويدفعهم إلى النظم على غرار نظم الأولين، عبر إفراد منابر للشعر الحسيني يوم عاشوراء لقراءة ما أنشده الشعراء من ملاحم شعرية في واقعة الطف، على غرار ما يسرده الخطيب يوم عاشوراء من تفاصيل الواقعة.

 على إننا لا نعدم شعراء عرب وغير عرب نظموا القصائد الطوال في ملحمة الاستشهاد، مثل ملحمة "كربلاء" للشاعر سعيد العسيلي، و"ملحمة كربلاء" للشاعر الألباني نعيم فراشري (ت 1900م) في عشرة آلاف بيت، طبعت سنة 1898. وملحمة "رواية الحسين" للسيد محمد رضا شرف الدين، وملحمة "حديث كربلاء" للخطيب والشاعر الشيخ إبراهيم النصيراوي.

 

لزوميات الصنوبري

اشتهر في الأدب العربي "ديوان اللزوميات" لأبي العلاء المعري احمد بن عبد الله التنوخي (363-339 هـ)، ومعنى اللزوميات هو ان يلزم الشاعر نفسه بما لا يلزمها من عدم الاكتفاء بحرف روي واحد، أو ان يلزم الشاعر نفسه بنمط من النظم لم يكن عليه واجب الالتزام، أو بتعبير آخر النظم غير المعهود، ولأن المعري نظم قصائد كثيرة على هذا النمط سمي ديوانه باللزوميات، ومن ذلك قوله:

إذا لم تكن دنياك دار إقامة ** فما بالك تبنيها بناء مقيم

ولا يعنى هذا ان المعري ابتدع هذا النمط، فهو مولد عن غيره، وإنما جاءت الشهرة من كثرة نظمه على هذا النسق، فقد سبقه إلى ذلك شعراء عدة. من ذلك تائية كثير عزة بن الرحمن الخزاعي، يقول فيها:

خليلي هذا ربع عزة فاعقلا ** قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت

والقلوص الناقة، وهنا الزم الشاعر على نفسه ذكر اللام والتام في الأبيات جميعها.

أو ميمية ابن الرومي علي بن العباس، يقول فيها:

أفيضا دماً إن الرزايا لها قيَم ** فليس كثيرا أن تجودا بدَم

وهنا أوجب الشاعر على نفسه إيراد الفتحة قبل الميم.

ومن هؤلاء الصنوبري الذي يرثي الإمام الحسين (ع) في قصيدة من 112 بيتا من الخفيف تحت عنوان "جاش صدري"، حيث التزم في معظم الأبيات ان يقفل البيت على مفردة من صدرها أو عجزها، يقول فيها:

أنا ذاك الآبي احتراش الغواني ** لُبَّه واللبيبُ يأبى احتراشا

ليس كل الهنود هِندا ولا كـ ** ـل رقاشٍ من الغواني رَقاشا

ويضيف:

جاد قبراً بكربلاء رشاشُ الـ ** ـغيث ما اسطاعت الغيوثُ رشاشا

واستجاش الربيع فيها جيوشا ** من جيوش الربيع فيها استجاشا

ثم يضيف:

ما ذكرت الحسين بالطف إلا ** جاش صدري بما ذكرت وجاشا

حين أعطى الأعنة الخيلَ أوبا ** شُ يزيدٍ تبّاً لهم أوباشا

في الواقع ان اللزوميات هو فن أدبي جميل، وتعد لزوميات المعري وروضيات الصنوبري من أعمدة الشعر العربي القريض، ولذلك اشتهر في الأدب العربي ان أعمدة الشعر العربي هي: معلقات الجاهليين، نقائض جرير والفرزدق، زهديات أبي العتاهية، خمريات أبي نواس، وصايا ابن عبد القدوس، سيفيات المتنبي وحكمياته، روميات أبي فراس الحمداني، لزوميات المعري، روضيات الصنوبري، هزليات ابن حجّاج، عظيات ابن الجوزي، غراميات ابن الفارض، تألهات ابن عربي، ترسلات البهاء زهير، غزليات امرئ القيس، اعتذاريات النابغة، حوليات زهير، حماسات عنترة، أهاجي الحطيئة، مدائح البحتري، هاشميات الكميت، مراثي أبي تمام، افتخارات الشريف الرضي، تشبيهات ابن المعتز، نكت كشاجم، ومِلَح السري الرفاء.

 

خطوة هامة

امتد الجزء الثاني من ديوان القرن الرابع الهجري، من قافية الشين المفتوحة حتى الياء المكسورة، وضم إلى من ورد ذكرهم:احمد بن سهل البلخي (322 هـ)، أحمد بن علوي الأصبهاني (320 هـ)، الحسين بن داود البشنوي (بعد عام 380 هـ)، سلامة بن حسين الموصلي (390 هـ)، محمد بن إبراهيم السروي (385 هـ)، محمد (المفجع) بن احمد البصري (ت 327 هـ)، محمد بن أحمد الصقر (305 هـ)، محمد (ابن طباطبا) بن أحمد العلوي (322 هـ)، محمد بن حبيب الضبي (حدود عام 400 هـ)، محمد بن الحسن الطوبي (بعد عام 350 هـ)، ومنصور بن مسلمة الهروي (311 هـ).

وكان المحقق الكرباسي كالمعري في لزومياته، حيث ألزم نفسه بإفراد 31 فهرسا في حقول شتى استخرجها من متن الديوان وهوامشه، لتكون دليلا للقارئ والباحث والدارس. كذلك كان الكرباسي قد ألزم نفسه بقراءة نقدية لأي مجلد من مجلدات دائرة المعارف الحسينية التي صدر منها حتى الآن 34 مجلدا، لعلم من أعلام البشرية، ولهذا فان الأستاذ في جامعة غوتبري السويدية (Gotebory University) البروفيسور غودمار أنير (Gudmar Aneer)، المسيحي المعتقد، صاحب كتاب "المعتقدات الدينية الإيرانية"، قدم قراءة للجزء الثاني من ديوان القرن الرابع الهجري، وعبر عن قناعته بعد ان أشار إلى أهمية الموسوعة في إبراز معاناة الإمام الحسين (ع): "ان الرغبة تتزايد الآن لدى العلماء الغربيين لتوسيع رؤيتهم تجاه الدراسات الإسلامية"، مؤكدا: "ان الموسوعة الحسينية ستكون خطوة هامة في هذا الاتجاه".

الرأي الآخر للدراسات – لندن

alrayalakhar@hotmail.com

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com