مقالات

الولاية التكوينية والتشريع الاسلامي / المبحث الثاني

د. وليد سعيد البياتي / المملكة المتحدة ـ لندن

albayatiws@hotmail.com

 تمهيد:

 لاشك ان العلاقة بين العقل والتشريع تنطلق من مفاهيم العلل وغاياتها، فالعقل بطبيعته يبحث عن العلة لايجاد حالة من الاقتناع من جهة ولتأكيد مشروعية الحكم، فالعلة في الاصل حي بحث عقلي يتناول مفاهيم العلاقات الدنيوية والاخروية والتي تؤصل للحكم الشرعي وما ينتج عنه من تأثيرات أخرى. ولما كانت الامامة تمثل استيعابا كليا للتشريع كما هي تمثل استيعابا كليا للتاريخ والوجود، فهي بالتالي تمثل استيعابا كليا للتشريع من منطلقات تكوينية تتعلق بماهية الوجود الكلي نشأة وتأثيرا. فالامام يقف من العلة التشريعية موقفا تأصيليا بأعتباره يدرك كل من الغايات والنتائج وهو بذلك يتجاوز الفهم الاني للحدث ليدرك الغاية الكلية. ومن هنا قد نجد انفسنا غير مدركين لغائية العلة باعتبار ان مفهومنا يبقى قاصرا يخوض في آنية الحدث في حين أن الامام ينظر في ماورائيات الحدث. من جانب آخر قد لا تكون العلة مادية بل حكمية( فلسفية) وبالتالي فان إدراك غاياتها قد يصبح مستعصيا على المدركات المادية، كما هي الحال في الكثير من علل الاحكام الشرعية في الكتاب والسنة. وفي بحثنا هذا سنتناول علاقة الامام بغائية العلة وعلاقة هذه الاخيرة بعناصر مسببات العلل عبرمفهوم الولاية التكوينية.

 

الامامة وغائية العلل:

 يمكن اعتبار الامام امتدادا تكوينيا وروحيا كما هو نفسيا للرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله، فقد قال الله تعالى شأنه في كتابه العزيز: " فمن حاجك فيه من بعد ماجائك من العلم فقل تعالوا ندع ابنائنا وابنائكم ونسائنا ونساءكم وانفسنا ونفسكم ونبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين" آل عمران/61 . والتي تعرف بآية المباهلة كما ورد في كتب التفسير اضافة الى كتب الحديث، ( راجع الطريحي مجمع البحرين/2/284، وايضا صحيح مسلم/4/1871 والترمذي/5/255 ومسند احمد/1/185 ) وكلها تؤكد ان الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليهما السلام هو المعني بأنفسنا. فالامام هو نفس الرسول سواء ذلك بالمعنى الفلسفي او التكويني، كما هو بالمعنى الطبيعي، ونقصد به هنا ذلك التواصل في سلسلة الامامة والوصاية باعتبارها امتدادا واقعيا وعقلانيا للرسالة الخاتم. ومن هنا تكون العلاقة بين الامامة وفكرة غائية العلة تنحو منحيين في البحث العقلي:

أولا: منحى دنيوي: وهو يبحث في العلاقات الدنيوية بين البشر، وكل ما له علاقة بتجارب الحياة الدنيا وتفاعلاتها كما في نتائجها. بأعتبار ان العلاقات الدنيوية تكوّن بتلازمها الطريق الى الاخرة.

 ثانيا: منحى أخروي: وهي العلاقات التي تشكل في النهاية المستقر الاخير للانسان فاما في الجنة اوفي النار.

  وهكذا تصبح فكرة غائية العلة تمثل استيعابا شموليا لعناصر مسببات العلل (وقد وضعت في الدراسة الاصلية مخططا يرتب هذه العلاقات ولكن البحث هنا لايستوعب كل التفصيلات التي وردت في البحث الاصلي والذي هو جزء من رسالة الدكتوراه في التشريع الاسلامي التي اعدها) ولكن يمكن توثيق عناصر مسببات العلل ضمن مجاميع ثلاث:

 

الاولى: الايمان بدرجاته حتى المطلق:

1- الدخول في الاسلام.

2- التحول الى مرتبة الايمان الاولى.

3- الايمان.

4- التقوى ومراتب اليقين.

 

الثانية: حاجة الوجود الى العلة وغاياتها:

1- واجبة.

2- غير واجبة.

3- لطف الهي.

 

الثالثة: شكل العلاقة بين العلة والمعلول:

1-علاقة ترابطية ( لايمكن فصل احدهما عن الاخر).

2-علاقة تضامنية ( يمكن فصل احدهما عن الاخر).

3- علاقة سببية ( احدهما نتاج للاخر).

 

هذا المنهج يقدم تفسيرا واقعيا كا هو فلسفي للاية الكريمة: " ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين". يس/12 فالامامة تمثل استيعابا كليا للحياة والوجود الكلي، ومن ناحية اخرى فأن منهجنا البحثي هذا يقدم تحليلا لمفهوم وقيم إكمال الدين وإتمام النعمة: " ... اليوم أكملتلكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا". المائدة/3. فالامامة بأستيعابها الكلي للوجود والحياة تمثل اقصى غاية بحث الانسان عن شريعة ترتب نظم العلاقات الحياتية والاخروية لتحقيق سعادة الانسان. والسنة النبوية الشريفة تؤكد طبيعة الولاية التكوينية وعلاقتها المباشرة بالرسالة والامامة على السواء، فقد جاء في حديث الكساء عن الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله راويا عن جبرائيل عن رب العزة: " وعزتي وجلالي إني ما خلقت سماء مبنية ولا ارضا مدحية، ولا قمرا منيرا ولا شمسا مضيئة ولا فلكا يدور ولا بحرا يجري ولافلكا يسري إلا لاجلكم ومحبتكم" وهذا خطاب من الله تعالى يخص به الرسول وأهل بيته عليا وفاطمة والحسن والحسين عليهم جميعا افضل الصلاة وأتم التسليم. فالكوني والانساني( بصفة الامامة) متلازمان في علاقة ترابطية وسببية في آن, فهذا الكون والوجود مرتبط بالرسول الخاتم وأهل بيته عليهم جميعا الصلاة والسلام، وهم اي الرسول وأهل البيت السبب الذي من أجله خلق الله الوجود الكوني والحياتي. وبذلك يصبح التشريع مرتبطا بالامامة كماهو مرتبط بالنبي الاكرم. فالامام يتصرف بالوجود كما يتصرف به الرسول باعتبارهما حالة واحدة ( تراجع بحوثنا السابقة في وحدة النبوة والامامة).

  ونرى في مسببات العلل ذلك التلازم بين الايمان والحاجة الى العلة، كما ويلاحظ من قصة كليم الله موسى مع العبد الصالح الخضر عليهما السلام حاجة موسى الى إدراك غائية العلة، فمع ان موسى عليه السلام نبي ورسول ومن اولي العزم وصاحب احدى ثلاث شرائع سماوية لاتزال حية (ولو ببعض الجزئيات كما في شرائع اليهودية والمسيحية المعاصرة) فانه إحتاج لمعرفة الحكم الشرعي في افعال الخضر عليه السلام، اذ ان موسى لم يدرك حتى بعقله الرسالي هذا الحكم لانه في هذه الحالة كان يقع في جانب اللطف الالهي كما تعرضنا له في حاجة الوجود الى العلة. فالحاجة الى إدراك غائية العلة هي حاجة عقلية كما هي نفسية إنفعالية، وهي ناتجة عن ان نظرية العدالة في مفهوم أهل البيت عليهم السلام تتمحور حول انها ليست فكرة علمية، كما انها ليست موقفا حسيا قابلا للقياس والملاحظة، او ان تكون خاضعة للتجربة المختبرية وفق المعايير العلمية السائدة، وانما هي تقييم يخضع للاطر الحسية. من هنا يأتي فهمنا لعلاقة الامامة بالتشريع، فالامامة باعتبارها امتدادا واقعيا للرسالة تأخذ مناحيها في غائية العلة من المناحي الرسالية. الامام امير المؤمنين عليه السلام كانت له مجالس خاصة مع خاتم الانبياء والمرسلين، ومن هنا قال عليه السلام: "سلوني قبل ان تفقدوني" لادراكه الحكم الشرعي من قاعدة معرفة غائية العلل التي انتقلت الية من أخيه الرسول الخاتم صلوات الله عليه وآله في قول امير المؤمنين عليه السلام: "علمني الف باب من العلم يفتح على الف باب". والامام كان بحاجة الى معرفة غائية العلة، وهذه المعرفة انتقلت اليه من الرسول الخاتم فيما انتقل اليه من كنوز المعرفة الكلية.

 

عقلانية المنهج التشريعي:

 لايمكن الحكم على عقلانية المنهج التشريعي إلا من خلال النتائج، فعندما تكون الاحكام الشرعية متطابقة مع حاجيات الانسان وتتوخى تحقيق العدالة سعيا وراء خدمة سعادة الانسان عندها يمكن اعتبار الشكل العقلاني للتشريع, وهذه العقلانية رسالية المصدر و يمكن تقييمها وفق المنهج السوسيولوجي ومن خلال علاقة التشريع بالحاجيات الدنيوية التي تعكس بالنهاية غايات أخروية، حيث ان الوجود هو نتاج علاقة الدنيا بالاخرة مما يوثق علاقة التكوين بالتشريع. فالبنى الاساسية للتشريع تتمحور حول تحرير الانسان من الافاق الضيقة لمناهج التفكير الوضعي ، فحاجيات الانسان لايمكن ان تنحصر بالمأكل والمشرب والملبس، فعلى الرغم من ان الانسان وكما يقول علماء الاجتماع: " كائن اجتماعي بطبعه" الان انه في جانب آخر كائن يتمتع بخاصية العقل كما انه يتمتع بالجانب الروحي، ومن هنا نرى تنوع حاجيات الانسان بين المادي والعقلي والروحي. واذا اغفل المشرعون الغربيون الجانب الروحي، فان الاسلام يضع مساحة كبيرة من قوة التشريع لتغطية الحاجات الروحية والتي قد تكون بالمقام الاول،وقد تتفوق على الحاجيات المادية لانها تؤكد الارتباط بالاخرة. ومن هنا تصبح معيارية التشريع في تكريس العلاقة بين الدنيا والاخرة هذه العلاقة التي ستحدد معالم حركة الامة على مسار حركة التاريخ.

 لقد سعى هذا البحث الموجز الى تاطير نظرية جديدة في التشريع تتبنى علاقة التشريع بالتكوين من منطلقات الهية تتجذر عند مفاهيم حاجيات الانسان بأشكالاتها المتعددة. وقد تم عرض الخطوط الخارجية لنظريتي على عدد من كبار العلماء واقرت ايضا من قبل عدد من المراكز البحثية التشريعية هنا وسيتم عرض كل ذلك في الكتاب الذي سيشكل دراسة موسعة لعلاقة الولاية التكوينية بالتشريع.

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com