مقالات

إشراقات الشعر العربي في القرن السادس الهجري

 نضير الخزرجي / إعلامي وباحث عراقي

 يمثل الأدب بشقيه النثري والنظمي مفردة من مفردات الحياة، على علاقة مباشرة بصميم المجتمع، يقوى من روحيته ونفسية أبنائه ويرفع من شأنهم، فيتقوى الأديب معهم، ويضعف بضعفهم وتخور كلماته وقوافيه، والأدب في الوقت نفسه علامة بارزة من علامات صحة الحياة أو سقمها، ولذلك فان الأدب بوصفه صفحة ثقافية يشكل احد مداخل الأخصائيين والخبراء في دراسة تاريخ مجتمع ما وبيان خطوط القوة والضعف فيه، لان الثقافة الأدبية في واقع الحياة هي تداعيات لكل مكونات المجتمع في بلد ما وما ينطوي على مقومات في مجالات الحياة كافة، يقيدها الأديب بكتاباته أو قوافيه، فيأتي الآخر ناقدا ومحققا ليبحث في واقع ذلك المجتمع عبر ما تركه من أدب نثري وشعري.

هذه المهمة التي لا تبدو سهلة، انبرى لها الدكتور الشيخ محمد صادق الكرباسي عبر سلسلة مؤلفات حملت عنوان ديوان القرون الهجرية، يبحث في طبيعة الأدب العربي في كل قرن، بعيون الحاضر وعبر منظار القوافي التي نضد حباتها شعراء كل قرن في تخليد النهضة الحسينية، فبعد القرن الأول والثاني والثالث والرابع والخامس، ينتقل المحقق الكرباسي في كتاب "ديوان القرن السادس" الصادر عن المركز الحسيني للدراسات في لندن في 486 صفحة من القطع الوزيري، عبر سلّم القوافي، متحدثا عن النتاجات الشعرية بعامة والحسينية بخاصة، واضعا يده على مواقع الضعف والقوة في جسد الأدب العربي للقرن السادس الهجري الممتد للفترة (22/8/1107-28/8/1204م)، ومتبحرا في (131) قصيدة وقطعة وبيت لـ (79) شاعرا، يقوّم بيتا ويرمم آخر بمبضع الأديب الحاذق.

 

قوافي الحرية

ويلاحظ ان القرن السادس سحب معه سيئات القرن الخامس الهجري، حيث الاضطرابات الأمنية التي حلت بالبلدان الإسلامية، وعلى وجه الخصوص العاصمة بغداد، وسيطرة الأعاجم والمماليك على الحكم: "ففي السنوات الأولى من هذا القرن سقطت دولة بني عمار في طرابلس الشرق، ونشأت دولة الموحدين في المغرب، وخليفة بغداد كان ألعوبة بيد السلاجقة ليس له حول ولا قوة"، في مثل هذه الأجواء السلبية: "ظلت الحركة الأدبية بطيئة ونبضاتها خفيفة حيث خف روادها وتوقف عنها الدعم من قبل السلطات لانشغالها بأمور الدولة وثبات الحكم إذ لم يجد الشعراء مرتعا خصبا لإنتاجهم الأدبي، ولم يعد بلاطهم سوق عكاظ يمكّنهم استعراض وتبادل ما نظموه"، ولكن رغم هذه الظروف السيئة وسقوط حكومات وقيام أخرى، فان الشعر الحسيني وجد مكانته لا سيما وان قوافيه تضرب على أوتار الوجدان والدعوة الى الوقوف أمام الظلم والاستبداد، من هنا: "اخترق الشعر الحسيني الصفوف ليبرز ثانية في حلة جديدة وآفاق مختلفة، ويبقى قلبه نابضا يتنفس برئة جديدة خلقتها تلك الظروف وروتها تلك الأزمات حيث كان لهذه الصراعات الطائفية والتقلبات السياسية أثر في صياغة الشعر خاصة والأدب عامة".

 

أوروبا ونظم القريض

وكان من آثار هذا الاختراق بزوغ الشعر الولائي في الأندلس في القرن الخامس الهجري بعد سقوط الدولة الأموية الثانية (ت 422 هـ)، وانتشاره بقوة في القرن السادس، وان كان الشعر الحسيني في الأندلس من حيث التوثيق يعود الى القرن الرابع ممتدا من شمال أفريقيا على عهد الحكومات الموالية لأهل البيت، على ان بعض الحكومات في شمال أفريقيا كان لها امتدادات على الضفة الثانية من البحر الأبيض، وهو ما ساعد في انتقال الشعر الولائي بعامة والحسيني بخاصة من القارة الأفريقية الى القارة الأوروبية، ونموه وظهور أدباء وشعراء أندلسيين، من قبيل الشاعر أبو طالب عبد الجبار (ت بعد عام 520 هـ) الشهير بالمتنبي الأندلسي، والشاعر ابن عبدون عبد المجيد بن عبد الله الأندلسي (ت 529 هـ)، والشاعر ابن أبي الخصال الشقوري محمد بن مسعود الغافقي (ت 540 هـ) وابن البراق محمد بن علي الوادي آشي (ت 596 هـ) والتجيبي صفوان بن إدريس المرسي (ت 598 هـ).

ويرجع الشيخ الكرباسي انتشار الشعر الحسيني في البلدان الإسلامية مع وجود حكومات تصادر ألسنة الناطقين بالولاء الحسيني وتقطعها الى جنبتين فطرية ونفسية:

الأولى: ان التحرر والانعتاق من رسن الظلم فطرة إنسانية لا تختص بدين أو معتقد أو مذهب، ولما كان الإمام الحسين (ع) استشهد على مذبح الحرية، فموقفه يبقى صورة حية مرسومة في قلوب الناس، وهو: "رمز مغروس في وجدان الشعوب".

الثانية: ولما كان الإنسان حريصا على ما منع، فان الناس تواقون الى معرفة القوافي التي تعرقل ماكنة السلطة الإعلامية وأجهزتها القمعية من إشراقاتها، بخاصة وان هذه الأبيات والقوافي يقطر منها شهد الحرية.

 

شاعر القضاء

لم يقتصر النظم على الشاعر لوحده، لان القريحة الشعرية والنبوغ الأدبي ليسا وقفا على المتفرغ للنظم، بل ان التاريخ مليء بشخصيات برعوا في أبواب شتى، لكنهم في الوقت نفسه قبضوا على سجاد الشعر من طرفه ينسجون عقده وقوافيه وربما أجود من الشاعر المتبتل في محراب شعره، مثل الفقيه الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن الحسين (ت 406 هـ) الذي رأس نقابة الطالبيين في بغداد، والوزير مهيار الديلمي (ت 428 هـ)، والوزير الصاحب إسماعيل بن عباد (ت 385 هـ) وغيرهم.

 ومن شعراء القرن السادس الفقيه أبو الوفاء يحيى بن سلامة الحصكفي (ت 553 هـ) الذي كان يدرّس الفقه ويفتي في دمشق، فضلا عن الملك الصالح طلائع بن رزّيك الأرمني (ت 559 هـ) الذي تولى الوزارة في الدولة الفاطمية. ولكن ما يميز القرن السادس وجود نخبة من القضاة نظموا في النهضة الحسينية، منهم: القاضي الجليس عبد العزيز بن الحسين السعدي التميمي (ت 561 هـ) والقاضي المهذب الحسن بن علي (ت 561 هـ) والقاضي الرشيد أحمد بن علي الغساني (ت 562 هـ) وقاضي القضاة محمد بن عبد الله الشهرزوري (ت 572 هـ).

فالقاضي الجليس له في ديوان القرن السادس أربع قصائد، يقول في إحداها من الطويل تحت عنوان "قضيت حقهم"، في رثاء أهل البيت (ع)، والإمام الحسين بشكل خاص:

لولا مُجانبةُ المَلول الشاني ** ما تمَّ شاني في الغرام بشاني

ولما دعاني للهوى فأجَبتُهُ ** طَرفي وقلتُ لعاذلَيَّ دعاني

ثم يقول:

إني على ما قد عناني في الهوى ** لأغُضُّ عن شأو المِزاح عِناني

وتعودُني لمصاب آل محمدٍ ** فِكَرٌ تُعرّجُ بي على الأشجان

ثم يصل موضع الشاهد:

طلَبت أميةُ ثأر بدرٍ فاغتدى ** يُسقى دعافَ سِمامها السبطان

جسد بأعلى الطف ظل دَريةً ** لسهام كل حَنيّةٍ مِرنان

وينشد القاضي المهذب من الكامل تحت عنوان "نقضوا عرى الإيمان"، من قصيدة نونية مطلعها:

أعلمت حين تجاور الحيان ** أن القلوب مواقد النيران

الى ان يصل مورد استشهاد الإمام الحسين (ع)، فيقطع ان بعضا ممن قاتلوه كان قد أرسل إليه رسائله، وتعهد له بالنصرة، ولكنه بقتله الحسين وأهل بيته جاء بأفضع من نقض العهد والأيمان:

حتى لقد ورد الحِمام على الظّما ** أكرِم به من وارد ظمآنِ

لا الدين راعوه ولا فعلوا به ** ما يفعل الجيرانُ بالجيرانِ

تالله ما نقضوا هناك بقتله الـ ** أيمانَ بل نقضوا عُرى الإيمان

فثوى وآل المصطفى من حوله ** يكبون للجبهات والأذقانِ

وقاضي القضاة ينشد من مجزوء الكامل تحت عنوان "أهذا من بيتكم؟"

يا راكبا يطوي الفلا ** بشِملَّةٍ حَرفٍ وخودِ

عرّج بمشهدِ كربلا ** وأنِخ وعفِّر في الصعيدِ

وآقرَ التحيةَ وادعُ يا ** ذا المجد والبيتِ المشيدِ

 

شعر الولاء

ومن خلال قراءته المستفيضة للأدب الحسيني، وجد الباحث الكرباسي، ان النظم في القرن السادس كثرت فيه أبيات التوسل بأهل البيت (ع) وطلب الشفاعة في الدنيا والآخرة، بل كان سمة بارزة في الشعر الحسيني، وأوعزه الى عوامل ثلاثة:

أولا: ظهور مدرسة التصوف من ناحية فقوبل بشعر الولاء والتوسل.

ثانيا: ضعف السلطة المركزية في بغداد.

ثالثا: وصول عدد من الموالين لأهل البيت الى سدة الحكم مثل الحاكم العباسي المناصر لدين الله الذي تولى الحكم بعد أبيه المستضيء بالله في العام 575 هـ.

ومن ذلك قول الفقيه يحيى الحصكفي، في قصيدة في أهل البيت من الرجز التام بعنوان "خالطني حبهم" ومطلعها:

أقوت مغانيهم فأقوى الجلد ** ربعان بعد الساكنين فدفدُ

ثم يقول:

ومصرعُ الطف فلا أذكرُهُ ** ففي الحشا منه لهيبٌ يَقِدُ

يرى الفراتَ ابنُ الرسول ظامئا ** يلقى الردى وابنُ الدعي يردُ

الى ان ينشد:

يا أهل بيت المصطفى وعُدتي ** ومَن على حُبهمُ أعتمِدُ

أنتمُ الى الله غداً وسيلتي ** وكيفَ أخشى وبكم أعتضدُ

أو قول الوزير طلائع الأرمني الذي استأثر بـ (23) قصيدة وقطعة من الديوان، في ذكر مصاب أهل البيت (ع) في كربلاء المقدسة، من الكامل تحت عنوان "سفينة الأمان"، ومطلع القصيدة:

ألائمُ دع لومي على صبَواتي ** فما فات يمحوهُ الذي هو آتِ

ثم يقول:

شُغلت ُ على الدنيا بحبي لمعشرٍ ** بهم يصفحُ الرحمانُ عن هفواتي

إليكَ فلا أخشى الضلالَ لكونهم ** هداتي وهم في الحشر سُفنُ نجاتي

أئمة حقٍّ لا أزالُ بذكرهم ** اُواصلُ ذكرَ الله في صلواتي

تجليتُ بين العالمين بحُبهم ** وناجتهم بالوُدِّ في خَلواتي

أو قول أبي الواثق العنبري المتوفى قبل القرن السابع الهجري، ينشد فيها من الطويل تحت عنوان "شفعائي الى الله":

شفيعي إليك اليوم يا خالق الورى ** رسولُكَ خيرُ الخلقِ والمرتضى علي

وسبطاهُ والزهراءُ بنتُ محمدٍ ** ومن فاق أهل الأرض في زهده علي

أو قول محمد بن حمزة الحسيني المتوفى قبل القرن السابع الهجري من الطويل تحت عنوان "أمسكت بحبلهم":

بحبلِ رسولِ اللهِ والبَرِّ حيدرٍ ** وشِبليه والزهراءِ مفقودة العِدلِ

أو قول قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي (ت 572 هـ)، من البسيط تحت عنوان "معتصم بحبهم" في مدح أهل البيت (ع):

إني بحبهمُ يا ربِّ معتصمٌ ** فاغفر بحُرمتهم يوم القيامةِ لي

 

شرعية العمل الحزبي

يذهب المشككون بشرعية قيام أحزاب سياسية الى الاستشهاد بالآيات القرآنية الواردة في ذم الأحزاب، للاستدلال على دعواهم، في المقابل يرى المؤيدون ان هناك آيات أخرى تؤيد مفهوم الحزب وبخاصة "حزب الله"، ويرد المؤيدون على المخالفين بان كلمة الحزب مفردة مجردة يمكن استخدامها في الخير والشر، ولا تنحصر بالشر، بدليل ان القران استخدمها في وصف المؤمنين، واستخدمتها الروايات الشريفة، وأقام المصنف آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي الدليل على شرعية قيام الأحزاب الإسلامية في احد فصول الجزء الأول من كتابه "الحسين والتشريع الإسلامي"، فضلا عن كتاب "مشروعية الأحزاب في الإسلام" من إعداد وتحقيق الكاتبين العراقيين حسين الحساني ونجاح الحسيني، وكتيب "متطلبات الأمة" وكراس "شريعة الإنتخابات" من أعداد وتعليق القاضي الباكستاني آية الله الشيخ حسن الغديري، وهذه الكتب الثلاثة هي في الأصل قراءة لأفكار الكرباسي وتنظيراته في موضوعة العمل الحزبي والموقف الإسلامي منها.

ويرى المؤيدون للعمل الحزبي، ان مفردة "الحزب" لو كانت دالة على الذم مطلقا، لما استخدمها النص القرآني والحديثي في مدح المؤمنين، من ذلك قوله تعالى في الآية 22 من سورة المجادلة: (رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا ان حزب الله هم المفلحون)، وفي الحديث القدسي فيما أوحى الله الى عيسى المسيح (ع): (ثم إني أوصيك يا ابن مريم البكر البتول، بسيد المرسلين وحبيبي منهم أحمد. يا عيسى: دينه الحنيفية، وقبلته مكية، وهو من حزبي وأنا معه، فطوباه طوباه)، وفي بعض الأيام رأى النبي بعض المسلمين انقسموا صفين يتسابقون، ورأى الصحابي محجن بن الأدرع الأسلمي (ت نحو 60 هـ)، فقال (ص): (أنا مع الحزب الذي فيه ابن الأدرع).

من هنا لم يجد الشعراء غضاضة في استخدام لفظ الحزب، بل ويعتبر هذا الاستخدام واحدة من أدلة القائلين بالعمل الحزبي، ومثل هذه الاستخدامات نجدها في شعراء القرن السادس الهجري الذين تناولوا النهضة الحسينية، فضلا عن القرون السابقة واللاحقة عنه. ومن ذلك قول أخطب خوارزم الموفق بن أحمد الخوارزمي (ت 568 هـ) من الكامل تحت عنوان "الخلود في الهاوية"، في رثاء الإمام الحسين (ع):

مَن يكتسب سخط النبيِّ محمدٍ ** لينالَ في الدنيا رضى ابنِ معاوية

حُرم الشفاعةَ في الحساب وسيق في ** زُمر الضلالة نحو نارٍ حامية

فجزاءُ قومٍ حاربوا من دونه ** واستشهدوا غُرفُ الجِنان العالية

وجزاءُ مَن قَتل الحسينَ وحِزبَه ** يوم الجزاء خُلودهُ في الهاوية

 

أبيات وأمثال

يشكل "المَثَل" عنوانا بارزاً لحالة أو ظاهرة، يتمثلها قائلها بكلمات عدة ليوصل الى من يعنيه الأمر المعنى المطلوب، أي تصوير الحالة الجديدة بنظير وشبيه سابق، فيفهم القصد من ضرب المثل، وهو بمثابة نصيحة وبيان سلوك جيد للإقتداء به أو إظهار سلوك سيء لتجنبه. وحسب تعبير الراغب الإصفهاني الحسين بن محمد (ت 502 هـ) في "المفردات في غريب القرآن" ص 464، أن المثل عبارة عن: "قول في شيء يشبه قولاً في شيء آخر بينهما مشابهة ليبين أحدهما الآخر ويصوره"، أي انه قول مأثور في كلمات قصيرة بليغة قيل في مناسبة ويعمم على غيرها مشابهة له.

 ويكثر المثل وضربه في أبيات الشعراء، لأن الشعر يتوفر على كامل مفردات المثل من سحر بيان وبلاغة وكلمات قصار وصورة وصفية قادرة على الارتكاز السريع في الذاكرة، فيستحضرها المرء في مناسبتها، وهي على نوعين: أن يبتدعها الشاعر أو القائل فيصير البيت مضربا للأمثال، أو ان يتمثلها قائلها في شعره من مثل دارج بين الناس جرى أولا في مناسبة سابقة، فيصبح بيت الشعر مضربا للأمثال أيضا، أي إن الشاعر يستعير المثل، وينتجه حسب الروي والقافية، أو يعيد إنتاجه من أبيات شعرية سابقة، بالقافية نفسها أو بقوافٍ اُخر.

وفي قصائد ديوان القرن السادس أبيات كثيرة هي مضرب للأمثال، تضم النوعين، فضلا عن حكم كثيرة، ومن ذلك، المثل المشهور "وكل إناء بالذي فيه ينضح"، وهو لحيص بيص سعد بن محمد التميمي المتوفى عام 574 هـ، قالها في بيان سياسة الرسول (ص) مع البيت الأموي عند فتح مكة حيث جعل بيت أبي سفيان آمنا لمن دخله، مقارنة مع سياسة البيت الأموي في قتلهم لسبط النبي محمد (ص) الإمام الحسين (ع)، حيث أنشد من الطويل تحت عنوان "الإناء ينضح بما فيه":

ملَكنا فكان العفو منّا سجيّةً ** فلمّا ملكتُم سالَ بالدّمِ أبطحُ

وحلّلتم قتلَ الاُسارى وطالما ** غَدََونا عن الأسرى نَعفُّ ونصفَحُ

فَحسبُكُمُ هذا التفاوُتُ بيننا ** وكلُّ إناءٍ بالذي فيهِ ينضحُ

ومن النوع الثاني قول الوزير طلائع بن رزّيك الأرمني، من البسيط من قصيدة تحت عنوان "يا حرّ قلبي" يأتي على رثاء الإمام الحسين (ع)، يقول في مطلعها:

لا تبك للجيرة السارين في الظعن ** ولا تعرج على الأطلال والدمن

ثم يقول:

لهفي على عُصب بالطفّ ظاميةٍ ** نالت من القتل فيهم أعظمِ المحنِ

ثم يصل موضع الشاهد:

أغريتموني بأن أُبدي مقابحكم ** وأن اُردّي إليكم أظهرَ الجُننِ

فالوزير الشاعر هنا يتقمص المثل "قلب له ظهر المجن" وهو يُضرب لمن انقلب على صاحبه.

 

صور شعرية

ومثل الشاعر كمثل الفنان التشكيلي يرسم بقوافيه لوحات شعرية وصورا، تظل عالقة بالأذهان ما كر الزمان ودارت الأيام، فمرة تكون الصورة من وحي خياله، ومرة من الواقع، وفي كلتيهما تمضي قوافيه في وجدان الناس مجرى الدم في العروق. فعلى سبيل المثال عوتب الشاعر احمد بن عيسى الهاشمي المتوفى عام 593 لأنه اكتحل في يوم عاشوراء وهو يوم حزن، فأنشد من مخلع البسيط تحت عنوان "اكتحلت حزنا":

لم أكتحل في صباحِ يومٍ ** اُريق فيه دمُ الحسينِ

إلا لحُزني وذاك أنّي ** سوّدتُّ حتى بياضَ عيني

فالعين الشرقية يغلب على عدستها السواد، والشاعر لفرط حزنه اكتحل ليصل بياض عينه بسوادها حزنا على رزء الشهيد بكربلاء.

ومن الصور البليغة، قول أبي بكر الآلوسي من شعراء القرن السادس الهجري، من مجزوء الكامل، تحت عنوان "مشهده بقلبي":

لا تطلُبوا رأس الحسينِ ** بشرقِ أرضٍ أو بغربِ

وَدَعوا الجميع وعرّجوا ** نحوي فمشهدُهُ بقلبي

ومن الصور المفجعة التي تحمل معها تناقضاتها ولوعاتها في الوقت نفسه، قول الشاعر الطغرائي الحسين بن علي المتوفى سنة 515 هـ، من البسيط تحت عنوان "جسم ابن رسول الله" وهي في الحكم والنصيحة، ومطلعها:

أما الزمان ففي تنبيهه عِظةٌ ** لولا الغِشاوةُ في أجفان مسبوتِ

الى ان يصل موضع الشاهد:

أما رأيت حُظوظ الدّهر قد عُكست ** فالماء للضّبِّ والرّمضاء للحوتِ

ومَبسمُ ابنِ رسولِ اللهِ قد عبثت ** بنو زيادٍ بثغر منه منكوتِ

فالضب حيوان زاحف صحراوي ذنبه كثير العقد يشبه التمساح تقريبا، ولذلك ضرب في ذنبه مثلا، فيقال "أعقد من ذنب الضب"، كما ضرب فيه مثلا، فتقول العرب "لا افعله حتى يردَ الضب" أي يرد الضب الماء، إشارة على الاستحالة، فموطن الضب الصحراء في حين ان موطن الحوت أو السمك هو الماء، ولكن الدهر عكس المعادلة الطبيعية، فثغر الإمام الحسين (ع) الذي كان يلثمه جده النبي محمد (ص) صار تحت رحمة عبيد الله بن زياد (ت 67 هـ) يضربه بعصاه!

 

انتقالة مناطقية

يرى المصنف في الخاتمة، ان النصف الثاني من القرن السادس شهد بدايات ظهور الموشح في المشرق الإسلامي القادم من الغرب الإسلامي، كما انه شهد انحسار التفوق الظاهر لعدد شعراء العراق الناظمين في النهضة الحسينية مقارنة بشعراء بلاد الشام وشمال أفريقيا وبلاد فارس، وهذه الظاهرة دليل قوة وصحة حاكية عن اتساع رقعة الشعر الحسيني، لكن الأدب الحسيني في الوقت نفسه لاحقته نيران التطرف الديني الذي ساد فترة سقوط حكومات وقيام أخرى على مباني مذهبية.

واستدرك الكتاب على القرنين الثالث والخامس بقطعتين جديدتين، فدأب المصنف التحقيق والتدقيق فان فاته شيء أدركه في كتاب آخر، كما من شأنه تذليل المعلومة للقارئ والباحث، فأفرد 32 فهرسا في حقول شتى هي الدليل الى متن الكتاب وحواشيه، فضلا عن قراءة نقدية للكتاب وعموم دائرة المعارف الحسينية، بقلم الدكتورة سلفيا نيف (Silvia Naef) السويسرية الجنسية، المسيحية المعتقد، أستاذة تاريخ الفن العربي في جامعة جنيف (Universite de Geneve)، خلصت الى القول: "أن تكون شخصية الحسين في مركز الفكر والإنتماء الشيعي، فهذا لا يحتاج الى برهان، وهذا العمل الصرحي الذي قام به الشيخ محمد صادق الكرباسي، ساعيا الى جمع كل ما كتب عن حفيد محمد خلال العصور وعبر البلدان، ليس سوى أبراز لهذه الحقيقة".

الرأي الآخر للدراسات- لندن

alrayalakhar@hotmail.com

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com