مقالات

التقلبات السياسية تنعش حرب المصنَّفات وتضعف قامة الشعراء

نضير الخزرجي / إعلامي وباحث عراقي

الرأي الآخر للدراسات – لندن

تدخل السياسة بوصفها ممارسة بنيوية لإدارة العباد والبلاد، كعامل رئيس أو مساعد في كل مناحي الحياة على المستوى الفردي والمجتمعي، ومظاهرها تعكس قوة المجتمع أو ضعفه، كما تعكس اهتمامات رجالاتها مسار البلد والمجتمع معا، إن خيراً فخيرا وإن شراً فشرا.

وعلى صعيد الأدب، فان السياسة لها مدخلية أساسية في بيان مؤشر الأدب من قوة أو ضعف، وعلى علاقة مباشرة برجالات الأدب من شعراء وكتاب، فلطالما قرّبت السلطة شاعرا أو كاتبا فبرز من بين أقرانه، ولطالما أبعدت آخرين، فجهل الناس آثارهم، وبشكل عام فان السياسة وتقلباتها تمغنط بوصلة الأدب، والأدب في الوقت نفسه تبع مؤشر السياسة، فكل منهما يدل على واقع البلد والمجتمع، ولهذا يقوى الأدب وبخاصة النظم في فترة ويضعف في أخرى، ويعلو في كبد السماء شمس شعراء ويكسف شمس آخرين.

 

تقلبات سياسية

وفي القرن الثامن الهجري "الرابع عشر الميلادي" حيث شهد قيام وموت العشرات من الدول والإمارات الإسلامية، وبعضها استمر الى ما بعد القرن الثامن، تماما كما كان الواقع المرير في القرن السابع "الثالث عشر الميلادي"، تعرض أدب نظم القوافي الى ما تعرضت له الدول من صعود وهبوط، ومن ولادة وانقراض، وهذه الملاحظة يدرسها بإسهاب الدكتور الشيخ محمد صادق محمد الكرباسي في كتابه الجديد "ديوان القرن الثامن" الخاص بما نظم في الإمام الحسين (ع) من الشعر القريض والصادر عن المركز الحسيني للدراسات بلندن في 520 صفحة من القطع الوزيري، حيث يضع جدولا بـ 23 دولة ودويلة قامت في القرن الثامن الهجري أو قبله مثل الدولة العثمانية، أو انقرضت أو استمرت الى القرن التاسع مثلما هي في الأندلس، أو ما بعد ذلك، وحسب قناعة الشيخ الكرباسي أن القرن الثامن: "يعد من أكثر القرون التي شهدت تقلبات سياسية في العالم الإسلامي"، ولاحظ ان تسعة من هذه الدول كانت شيعية المذهب والبقية سنية، مما يظهر: "مدى انتشار فكر مدرسة أهل البيت (ع) الذي كان محجوراً عليه أيام حكومة العباسيين وبسقوطها تحرر الفكر الموالي لأهل البيت (ع) والذي كان المؤمنون به يشكلون الأكثرية بين نهري السند والفرات، وكان من القوة بمكان بحيث خضع المغول لفكرهم فأشركوا العديد منهم في وزاراتهم ثم دانوا للفكرة فيما ليصبح المذهب الرسمي لدولتهم".

ولما كان الأدب بشكل عام، لصيقا بالنظام السياسي، فان عدداً غير قليل من الدول في العالم الإسلامي لم تكن بعربية مثل الدولة الإيلخانية في إيران (649-736 هـ)، والدولة البهمنية في الهند (747-933 هـ)، والدولة الكركانية (726-911 هـ) في أفغانستان، والدولة العثمانية (680-1342 هـ) في تركيا، وهذا ما أثر بشكل ملحوظ على النتاجات الأدبية من نظم ونثر، ومع أن إسلامية الدولة يجعلها تهتم باللغة العربية وآدابها لدخول العربية كعنصر أساس في فقه العبادات إضافة الى فقه المعاملات، ناهيك عن عربية القرآن الكريم التي بها يقرأ كل مسلم، لكن الآداب الفارسية والتركية وغيرهما دخلت الى اللغة العربية، وعلى أثر ذلك: "ظهر اللحن في العديد من النتاجات الأدبية الى جانب السرقات التي ظهرت عند الأدباء لضعف مستواهم الأدبي وكانت هذه الظاهرة أكثر شيوعا في مصر منه في العراق"، وقد ساهم احتكاك المجتمعات وعلى مستوى النظم ظهور الشعر الملمع في القرون الماضية، وفي القرن الثامن برز شعراء عرب ومسلمون ينظمون بأكثر من لغة، مثل الشاعر الإيراني حافظ الشيرازي (ت 792) الذي نظم بالعربية والفارسية، فأبدع في الشعر الملمع، ومن ذلك قوله في الهزج:

ألا يا أيها الساقي ** أدر كأسا وناولها

كه عشق آسان نمود أول ** ولي أفتاد مشكلها

أي ان الحب سهل المراد في أوله ولكن المشاكل تقع فيما بعد.

 

كساد الأدب

ولاحظ المصنف من خلال متابعته الدقيقة لدواوين عموم الشعراء في هذا القرن انخفاضا كبيرا في عدد الشعراء: "يدلنا على كساد سوق الأدب بشكل عام والشعر بشكل خاص"، فضلا عن ظهور كتابات أدبية وثقافية طائفية تدعو الى الاحتراب الداخلي، أي الانتقال من السلاح الأبيض الى السلاح الأسود، من شفرات السيوف ونصول الرماح الى شفرات القصب ونصول الأقلام يحبرون الكلام على أديم الورق، ولعل من مظاهر هذه الحرب تفرّغ الشعراء الى نظم المطولات، من: "حيث أن النظم كان آنذاك من أفضل الوسائل الإعلامية الناجحة، وحتى يتمكنوا من بيان مرادهم أطالوا في النظم". ويعتقد الكرباسي ان نظم القصائد الطوال ساهم في استخدام الجناس، بل: "ولعلنا نستشف من إصرار الشعراء على ذلك بان الشاعر يريد إبراز قدراته الشعرية في وقت تراجع الأدب وانحسر الشعر بل برز اللحن في اللغة العربية، ولعل هذا يعد جزءاً مسببا في التطويل أيضا".

 ومن معالم هذا الكساد ان هذا الديوان ضم ثلاثة عشر شاعرا فقط، نظموا في الأمام الحسين، برز منهم خمسة فقط وهم وفق حجم الإنتاج الأدبي: الخليعي علي بن عبد العزيز (ت 750 هـ) وله 21 قصيدة ومقطوعة من بين 45 قصيدة ومقطوعة وبيت وردت في ديوان القرن الثامن أي نحو النصف، ويليه الشفهيني علي بن الحسين المتوفى في الربع الأول من القرن الثامن وله سبع قصائد وهي المشهورة بالسبع الطوال، ويليه المرتضى علي بن عبد الحميد الحلي الحائري (ت 760 هـ) وله قصيدتان، ويليه المخزومي الحسن بن راشد (ت حدود 800 هـ) وله قصيدة من 185 بيتا، والخامس هو النح الحسن بن علي من شعراء هذا القرن وله قصيدة نونية من 42 بيتا وقطعة في قافية الدال.

ووجد المصنف أن عدد الناظمين في مشرق العالم الإسلامي ومغربه تضاءل بصورة كبيرة بحيث بلغ عددهم نحو سبعينا ناظما، وأربعين منهم كان شاعرا بلحاظ ان الشاعر أعم من الناظم، وانحسرت مساحة الشعر، وانحصرت في العراق وسوريا ومصر والأندلس، وفي العراق توزعت على مدينتي الحلة وكربلاء، وكما يؤكد المحقق الكرباسي: "يظهر من مجمل الديوان أن الحلة بالذات كانت في تلك العصور مهبط الأدباء والشعراء الى جانب العلماء". ومن إفرازات الاحتباس الشعري وانحساره والجزر فيه الاقتصار على أوزان وبحور رائجة دون التوسع في البقية.

 

قصّة سلاح

يأخذ السلاح كقطعة حربية وكجهد بشري شهرته تبعا لصانعه أو المدينة التي صنعت فيه، أو المدينة التي تروّج فيها تجارته، فعلى سبيل المثال، فان بندقية الكلاشنكوف (AK 47) أخذت شهرتها من صانعها الروسي ميخائيل كلاشنكوف (Mikhail Klashinkov) المولود في العام 1919م، والتي صنعها في العام 1947. أو قنبلة كوكتيل مولوتوف الحارقة، نسبة الى وزير خارجية الاتحاد السوفيتي في عهد جوزيف ستالين (1879-1953م) فاياشسلاف مولوتوف (Vyacheslav Molotov) (1890-1986م) الذي أمر باستعمالها أثناء الحرب العالمية الثانية لمواجهة الدبابات الألمانية، ثم شاع استعمالها في حوادث الشغب.

وقطع الأسلحة القديمة على بساطتها نظرا لعالم اليوم، فإنها هی الاخرى لها شهرتها وصيتها في المعارك، ولطالما تغنى بها الشعراء عودا على المدينة الصناعية أو الى مهارة صانع، كما هو الأمر في عالم اليوم، حيث تفتخر الدول بصناعاتها العسكرية وتسوق لها في معارض سنوية، ومن ذلك قول الشاعر علي بن عبد الحميد الحلي الحائري يقول في قصيدة من 104 أبيات من الطويل في وصف بطولة الإمام الحسين (ع) :

يفرون كالمعزى إذا شدّ نحوهم ** أبو أشبُلٍ عبلُ الذراع مُبيرُ

إذا ما سطا شاهدتَ هاماً مُفلّقاً ** وأيدٍ من الضرب الدّراك تطيرُ

يخطُّ بخَطِّيِّ القنا في ظهورهم ** خُطوطا لها وقعُ السيوفِ سطورُ

والشاهد في (خَطِّيِّ) وهو الرمح المنسوب الى الخط، وهو مرفأ للسفن بالبحرين حيث تباع الرماح، وهي من الرماح الجيدة التي يفتخر المقاتل تملكه لها.

ومثله قول علي بن الحسين الشفهيني في قصيدة من البسيط في 71 بيتا في وصف معركة كربلاء عام 61 هـ، فينشد:

آهاً على حسرةٍ في كلّ جانحةٍ ** ما عشتُ جائحةٌ تعلو لها شُعَلُ

أيقتلُ السبطُ ظمآناً ومن دَمه ** تروى الصوارم والخطِّيَّةُ الذُبُلُ

أو قول الشاعر حسن بن راشد المخزومي، في قصيدة من الطويل في 185 بيتا في وصف معركة كربلاء يشير الى احد أنواع السيوف الشهيرة، وهو ينشد في بطولات الأمام الحسين (ع):

فجدَّلَ من فوق الجياد جِيادَها ** فَحيلٌ وقومٌ جافلٌ وقتيلُ

فكم جافلٍ في صدره ظَهرُ ذابلٍ ** وكم قاتلٍٍ بالمَشرَفيِّ قتيلُ

وموضع الشاهد في (المشرفي) وهو نوع من أنواع السلاح الفائقة الجودة وتنسب الى إحدى قرى اليمن.

أو قول الشاعر الخليعي علي بن عبد العزيز في قصيدة من البسيط في 44 بيتا، يصف واقعة الطف بكربلاء ، فينشد:

واحسرتا لكريم السبط مُشتهراً ** كالبدر يشرقُ فوقَ الذابلِ اليَزَني

فيا لها محنةٌ عمَّت مُصيبتُها ** ويا لها حسرةٌ في قلبِ ذي شَجَنِ

يُهدى يزيدُ برأسٍ طال ما رشَفَ الـ ** ـمختارُ من ثغرهِ تقبيل َمُفتَتِنِ

فالشاعر يبدي حسرة وأسفا على حز رأس الإمام الحسين (ع) ثم رفعه فوق رمح يزني، مع أن هذا الرأس كان النبي محمد (ص) يقبل ثغره ويرشف رضابه. وموضع الشاهد هو الرمح اليزني نسبة الى "ذو اليزن" وهو من ملوك حِميَر في اليمن.

 

على قارعة الطريق

لا تخلو قصيدة أو قطعة أو بيت شعر من غرض أو شأن دفعت الشاعر الى الإنشاء والإنشاد، بخاصة وان الشعر الحقيقي ما عبر عن شعور داخلي وفيض إحساس، ومن ذلك قول الشاعر الخليعي علي بن عبد العزيز من الوافر:

إذا شئت النجاةَ فزُر حُسيناً ** لكي تلقى الإلهَ قريرَ عينِ

فإن النارَ ليسَ تمسُّ جِسماً ** عَلَيه غُبارُ زُوّارُ الحُسينِ

والخليعي ولد لأمٍّ موصلية طاف بها سني الحمل، وقد تملّكها الشيطان من قبل فبغضت أهل البيت (ع)، فنذرت إن هي رُزقت بولد أن ترسله الى كربلاء المقدسة يقطع على زوار الإمام الحسين (ع) الطريق فيسلبهم متاعهم ويقتلهم، فلما تحقق نذرها وكبر ولدها علي، أغرته بما نوت عليه، فقدم الى كربلاء، ولما وصل مدينة المسيب على نحو 35 كيلومترا من كربلاء تربص بقوافل الزوار دوائر السوء، لكن النوم استولى عليه واجتازت عليه قافلة الزوار فأصابه منها غبارها المتصاعد، فرأى وهو في النوم أن القيامة قد حانت وسيق الى النار، لكن النار صارت له بردا وسلاما بفعل غبار ركب زوار الإمام الحسين (ع)، ولما أفاق آب الى رشده، فأخذ طريقه الى مرقد الإمام الحسين (ع) وهو يترنم بهذين البيتين، ولما وقف أمام القبر الشريف راح ينشد الإمام بقصيدة عصماء، وهو في الأثناء وقع عليه ستار من الباب الشريف فلقب بالخليعي أو الخلعي فصار يفتخر بذلك ويختم به قصائده الحسينية. ومن يومه انقطع الخليعي الى حب أهل البيت (ع)، وترجم ذلك الحب بعشرات القصائد الطوال وصلنا منها (39) قصيدة عشرون خاصة بالإمام الحسين (ع) إضافة الى البيتين.

ومن المفارقات ان زمن قطع الطرق على زوار الامام الحسين (ع) عاد من جديد مطلع الألفية الثالثة مع تبدل النظام الحاكم في العراق منذ العام 2003م، وعاد الى المنطقة نفسها والقريبة منها بشراسة أكبر، واعتقد ان الكثير ممن يشرّع قتل الزائر الحسيني سيقفل راجعاً عما عليه من الجرم الكبير لو أعاد قراءة الخليعي بقلب سليم.

وما يميز قصائد الخليعي ان كل قصيدة تروي ملحمة كربلاء من أولها الى آخرها قبل المعركة وأثناءها وفي الأسر، وحسب تقييم الدكتور الكرباسي ان شعر الخليعي: "كله نابع عن إيمان صادق بشخصية الإمام الحسين (ع) وقد ملأ كيانه بالولاء، وشعره وجداني قوي التعبير وكأنه لا يريد أن يدع جانبا من مأساة عام إحدى وستين التي نزلت على الإمام الحسين (ع) وأهل بيته إلا ويشجو له من كل قلبه ويتفاعل مع المأساة وكأنه حضرها وعايشها، وشعره الحسيني يبلغ سبعمائة وأربع وخمسين بيتاً يصلح لأن يكون لوحده ملحمة شعرية حسينية رائعة التصوير لأحداث الطف الحزينة".

وربما لخلفية والديه، فان كل استشهاداته في فضائل أهل البيت أرجعها الى الآيات والأحاديث المتواترة والصحيحة: "لحرصه على إسناد حسن اختياره بالدليل ليقطع الطريق على من ليسوا على عقيدته".

ومن شعره في قصيدة من البسيط:

ولست آسى على مَن ظلَّ يُبعِدُني ** بالقُرب منكم ومَن بالغيب يرجُمُني

وإنني واثقٌ أن سوف يلطُفُ بي ** ربيّ فيصفحُ عن جُرمي ويَرحمُني

وأن فاطمةَ الزهراءَ تشفَع لي ** والمُرتضى لِجِنان الخُلد يقسِمُني

فاز الخليعيُّ كلَّ الفَوزِ واتضَّحَت ** بِكُم له سُبُلُ الإرشادِ والسُّنَنِ

 

المراسل الحربي

يظن البعض انه لما كانت الصحافة والإعلام بالصورة التي نجدها اليوم من مذياع وتلفاز وفضائيات وانترنيت جديدة على البشرية، فان المراسل الصحافي بعامة والحربي بخاصة، إنما هي مهنة انبثقت مع ظهور الوسائل الإعلامية، بيد ان معركة كربلاء في العام 61، تضعف من هذا القول، فالمراسل الحربي الذي نجده اليوم من على شاشات التلفاز بيده المذياع ومتدرعا بصدرية إعلامية تدل عليه، ينقل وقائع معركة هنا وحربا هناك دون ان يتعرض له طرفا النزاع أو القتال بأذى مقصود، إنما هي ظاهرة ممتدة في عمق التاريخ البشري، حيث تبانَ أطراف كل نزاع على تسهيل مهمته لنقل الوقائع والحوادث بحرية ومن قلب المعركة والنزاع.

وفي معركة كربلاء كانت شخصية حميد بن مسلم الأزدي تمثل ذلك المراسل الحربي الذي يتنقل بين جبهتي القتال يرصد حركة الجيشين، فيسجل واقعة هنا وحدثا هناك، وتؤخذ روايته على محمل الجد والصدق بوصفها رواية شاهد عيان أتاحت له مهنته نقل الوقائع بما رأى وسمع في آن واحد. ويتكرر ذكر حميد بن مسلم في نقل وقائع حركة التوابين في العام 65 هـ التي قادها سليمان بن صرد الخزاعي بالضد من الحكم الأموي ثأراً لشهداء كربلاء، كما يتكرر ذكره في نقل أخبار حركة المختار بن أبي عبيد بن مسعود الثقفي في العام 66 هـ بالضد من الحكم الأموي وإقامة دولته في الكوفة حتى العام 67 هـ.

ومع أن وقعة الطف لم تنقل كلها عن طريق حميد بن مسلم، لكنّ تسجيله للحظات حساسة من مسلسل المعركة وبخاصة لحظة استشهاد الإمام الحسين (ع) جعلته في مقدمة الرواة والمراسلين الحربيين، وهذا ما يسجله الشاعر علي الشفهيني في لاميته من البسيط في 71 بيتا في مدح الإمام علي (ع) ثم يعرج على رثاء الإمام الحسين (ع)، في قصيدة ومطلعها:

حلَّت عليك عقود المزن يا حللُ ** وصافحتك أكفّ الطل يا طلَلُ

ثم يقول:

وقد رواه حميدٌ نجلُ مسلمَ ذو الـ ** ـالصدوق وصدقُ القولِ مُمتَثَلُ

إذ قال لم أَرَ مكثوراً عشيرتُهُ ** صرعى فمُنعَفِرٌ منهم ومُنجَدِلُ

يوماً بأربطَ جأشاً من حُسين وقد ** حفَّت به البيضُ واحتاطت به الأسَلُ

كأنما قسورٌ ألوى على حُمُرٍ ** عَطفاً فخامَرها من بأسِه ذَهَلُ

فالشفهيني يروي عن حميد بن مسلم مشاهدته للإمام الحسين (ع) عندما وقف وحيدا في المعركة بلا ناصر ولا معين يواجه جيش الشام بمفرده، ونص القول: "ما رأيت مكثوراً قط قد قُتل وُلده وأهل بيته وصحبه أربط جأشا منه ولا أمضى جناناً، ولا أجرأ مقدماً، ولقد كانت الرجال تنكشف بين يديه إذا شدّ فيها ولم يثبت له أحد". وفي بعض المصادر ان القائل هو عبد الله بن عمار بن يغوث.

فهذه شهادة من شاعر في القرن الثامن الهجري يثني فيها على مراسل حربي في القرن الأول، حيث يقف الإثنان على منصة الإعلام، فالأول ينقل الحدث كمادة خام والثاني يشرع بسفينة حسه الشعري وسط بحوره لمعاملة المادة النثرية بكيمياء القوافي، فيصل الى الساحل الآخر وفي كفه جوهرة موزونة.

 

مفارقات الدهر!

يرصد الشاعر كأي مراقب حصيف تناقضات الحياة ويتابع مفارقات الدهر، فيتمثلها في قصائده ويضمنها أبيات شعره، ليتناقلها الناس جيلا بعد آخر، ويتعظ بها من يتعظ، فهذا الشاعر علي بن المظفر الوداعي (ت 716 هـ)، ينشد من الكامل:

عَجباً لمن قَتل الحسين وأهلَه ** حرّى الجوانحِ يومَ عاشوراءِ

أعطاهُمُ الدنيا أبوهُ وجَدُّهُ ** وعليه قد بَخِلوا بِشربةِ ماءِ

فهو يحلق بنا في أجواء مدرستين وخُلقين وحزبين متضادين، وحسبما يعلق الشيخ الكرباسي: "ما أروعه من بيت، ولله در قائله، فقد بيّن عنصر الفريقين وسجيته، وكل إناء بالذي فيه ينضح. وإنما أعطاهم الدنيا بأن ملكوا أمور الناس بدين جده رسول الله (ص) وأقام هذا الدين سيف أبيه علي بن أبي طالب (ع)".

وهذا الشاعر حسن بن راشد آل عبد الكريم المخزومي، ينشد من الطويل في وصف معركة الطف وما بعدها:

بنو الوحي في أرض الطفوف حواسراً ** وأبناءُ حربٍ في الديار نزولُ

ويُسرى بزّين العابدينَ مُقيّداً ** على البُزلِ مأسورَ اللِّئام عليلُ

ويُصبحُ في تختِ الخلافةِ جالساً ** يزيدُ وفي الطف الحسينُ قتيل

فالشاعر يظهر أسى كبيرا من هذا الزمان الذي يقتل فيه سيد شباب أهل الجنة، وتقاد نساء أهل البيت (ع) والسجاد علي بن الحسين (ع) أسرى الى يزيد حفيد أبي سفيان الذي عامله جد الحسين (ع) النبي الأكرم محمد (ص) معاملة حسنة عندما دخل مكة عام 8 هـ، وقال له ولأهل مكة الذين أذاقوا المسلمين مر العذاب "اذهبوا فأنتم الطلقاء" وأغدق عليهم من عطاياه!

ومثل هذا الأسى ينضح من بين ثنايا قوافي الشاعر الشفهيني، الذي يقول في قصيدة من الكامل في 29 بيتا، في مدح الأمام علي (ع) ثم يعرج على ابنه الإمام الحسين (ع) ومطلعها:

نمّ العذار بعارضيه وسلسلا ** وتضمنت تلك المراشف سلسلا

الى أن يقول:

ومن العجائب أن تُقاد اُسودُها ** أسرى وتفترسُ الكلابُ الأشبُلا

نعم إنها من مفارقات الدهر الذي يريك عجبا ما عشت!

 

دعوة حق

والى جانب الشعراء الذين ورد ذكرهم، فقد ضم الديوان قصائد للشعراء: أحمد بن عبد الملك العزّازي (ت 710)، والشاعر أحمد بن محمد الفيومي (ت 771 هـ)، والشاعر صفي الدين الحلي عبد العزيز بن سرايا (ت 752 هـ) والشاعر عمر بن مظفر المعري (ت 749 هـ) والشاعر محمد بن أحمد الغرناطي (ت 760 هـ) والشاعر محمد بن أحمد الهواري (ت 780 هـ)، والشاعر محمد بن موسى الصريحي (ت 795 هـ).

وأنهى المحقق الكرباسي ديوان القرن الثامن كما في الدواوين السابقة بمجموعة فهارس قيّمة تهدي القارئ الى المعلومة الواردة طي الكتاب، فيتابع من خلال فهارس المتن: فهرس الأعلام والشخصيات، القبائل والأنساب والجماعات، القوافي والروي، والبحور والأوزان. ويتابع في فهارس الهامش: فهرس الأبيات وأنصافها، التأريخ، الناظمين والشعراء، الأعلام والشخصيات، القبائل والأنساب والجماعات، والفهرس اللغوي. وفي الفهارس المشتركة بين المتن والهامش، يتابع: فهرس الآيات، الأحاديث والأخبار، الأمثال والحكم، مصطلحات الشريعة، المصطلحات العلمية والفنية، الطوائف والملل، الوظائف والرتب، الآلات والأدوات، الإنسان ومتعلقاته، الحيوان ومتعلقاته، النبات ومستحضراته، الفضاء ومتعلقاته، الأرض ومتعلقاتها، المعادن، الأماكن والبقاع، الزمان، الوقائع والأحداث، المؤلفات والمصنفات، المصادر والمراجع، ومؤلفي المراجع.

وفي نهاية الديوان قراءة نقدية بقلم أستاذ علم الرياضيات في كلية ساوثمبتون (Southampton College) البروفيسور أحمد أنيو بلانيك (Anjo Belanjek) البريطاني الجنسية الذي اختار الإسلام معتقدا، حيث يقول في قراءته باللغة الدولية (الإسبرنتو): "من هذا المؤلف الكبير، قام الشيخ الكرباسي باستعراض تاريخ القضية الحسينية استعراضا واسعا بمجمل تفاصيلها المتفرعة عنها بأسلوب أكاديمي"، وكان من تقييم بلانيك أن ديوان القرن الثامن: "بمجمله دموع على المأساة وإدانة للطغاة ودعوة للوقوف بوجه العدوان في كل مكان وزمان".

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com