مقالات

أين حقي ورجال الدين (3)

محمد علي محيي الدين / بابل

احتلت أسرة الشاعر محمد صالح بحر العلوم المكان الأرفع بين الأسر الدينية في النجف،وأصبح الكثير من رجالها مراجع التقليد لقرون،وثنيت لهم الوسادة في المرجعية الدينية العامة لأقطار العالم الإسلامي،في وعي كامل لطبيعة رسالتهم في الحياة،ولكن الصراع على الزعامة الدينية،لا يختلف في الكثير من وجوهه عن صراع الحكام من أجل السلطة،فالزعيم الروحي قبل كل شيء إنسان له طموحاته وتطلعاته في السيادة والبروز،لذلك قد يأخذ الصراع بين رجال الدين منحى آخر غير السجال والجدال،والاختلاف في هذه المسألة أو تلك،،ويسوده حب الزعامة والإمرة والهيمنة على الأمور،لما في ذلك من جاه اجتماعي،ومنزلة مرموقة،وإيرادات مالية تعادل في بعض الأحيان ميزانية الدولة العراقية،أن لم تزيد عليها،له حق التصرف فيها بما لا يجعله مسولا أمام أحد عن كيفية أنفاقها،لذلك ترى سلوكية رجال الدين- ولو في الجانب المادي على الأقل- تختلف من شخص عنه في آخر،فالعلامة الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر،عندما تولى المرجعية الدينية أوائل القرن الثالث عشر الهجري،خاض غمار معارك طاحنة مع منافسيه من آل بحر العلوم وآل كاشف الغطاء،وغيرهم من الأسر الدينية ذات التاريخ المتجذر في المسلك الديني،وأستطاع الهيمنة شبه المطلقة على أصقاع من العالم الإسلامي،فكانت تجبى إليه أموالها،وتغدق عليه خيراتها،وأختلف عن الآخرين في طريقة حياته ومظهره العام،فرجال الدين في تلك الأيام لا يتميزون عن الآخرين بأي مظهر من مظاهر العظمة والأبهة،سوى الاحترام الذي يمنحه لهم الناس،والوجاهة والتبجيل الذي يتساوى فيه الجميع،وإقرار الآخرين بأعلميتهم،فلم نسمع أن أحدهم احتجن لنفسه مالا،أو أستبطن حاشية،أو ارتدى الملابس المزوقة،وأحاط نفسه بحاشية من الأتباع والخدم والمرافقين،ولكن الشيخ صاحب الجواهر بما تهيأ له من إمكانات مالية هائلة،بما يجبى له من أموال طائلة،أتخذ لنفسه منزلا لم يكن مألوفا لدى رجال الدين،فحاشيته من الأتباع والمريدين ترتدي الملابس المزينة بالألوان المميزة،بما لا يختلف عن أي سلطان أو حاكم،وكانت الحقوق الشرعية الواردة إليه لا توزع بالطريقة التقليدية التي كان عليها من سبقه،فهي قاصرة على أتباعه ومن يلوذ به أو يؤيده في توجهاته،مما جعل المراجع الآخرين من أبناء الأسر الدينية العريقة،ذات الامتداد التاريخي ،تقف في مواجهته بصراع صامت لم تستخدم فيه الأسلحة التقليدية المعروفة لرجال الدين،في الاختلاف الفكري والتباين في إصدار الأحكام،وإنما أخذ الجانب المادي الحيز الأكبر منه،فكان أتباعه المتميزين في الحصول على ما يعينهم على الحياة،مما جعل الكثيرين يتركون العلماء الآخرين ويلتحقون به لتأمين ما يقيهم غائلة الجوع،ولم يأخذ الصراع امتداداته الشعبية كما هو الحال هذه الأيام ،فكان مقتصرا على الطبقة الروحية في الوسط الديني،فكانت الأسلحة الإعلامية والمادية هي الأدوات الحاسمة في الصراع بين المتنازعين، والتضييق على أتباع هؤلاء وحجب تخصيصاتهم من الزاد والمؤن التي كان المراجع يمنحوها لطلابهم،وأتخذ الصراع في أوقات أخرى القوة لفض المنازعات،فكانت أسرة بحر العلوم في صراع لاستعادة مكانتها السابقة،ولكن التأثيرات الخارجية،والإمكانات المالية للطرف الآخر،جعلهم الطرف الأضعف في هذا الصراع،لذلك لم يتسنى لأحد منهم تقلد الزعامة الدينية حتى اليوم،رغم وجود الأكفاء والمؤهلين،فكان لصاحب الجواهر أثره في ترشيح الشيخ الأنصاري الذي لم يكن معروفا في الأوساط الشعبية،ولا يعرفه إلا القلة من رجال الدين،بسبب انصرافه للبحث العلمي، وابتعاده عن الأمور العامة،وهكذا أخذت الزعامة منحى آخر في تعيين المرجع الجديد،ليس هنا مجال الخوض فيها،وأقتنع آل بحر العلوم وآل كاشف الغطاء بأن لا مكان لهم في الزعامة العامة ،بعد أن أخذت الأمور هذا المنحى،فكان منهم علماء أعلام لهم مكانتهم الدينية والاجتماعية المحترمة،رغم انحسار نفوذهم القديم،وأخذت إيراداتهم بالتناقص لعوامل معروفة،فأنفض عنهم الكثير من الأتباع،وقنعوا بالمراتب الأخرى رغم أهليتهم للزعامة الدينية المطلقة.

   في هذه الأسرة الذائعة الصيت ولد الأستاذ محمد صالح بحر العلوم،فدرس العلوم الأولية على مألوفها السائد تلك الأيام،ورأى بأم عينيه الحقيقة المرة والصراعات غير المبدئية،والمؤامرات التي يحيكها هذا الطرف أو ذاك،فأخذت الشكوك تتسرب إلى نفسه في جدية هؤلاء،ومدى مطابقة شعاراتهم مع تصرفاتهم،ورأى البون الشاسع بين النظرية والتطبيق،فكان للشعراء المجودين تأثيرهم على مسارات حياته،وما قرأه من كتب حديثة ومجلات كانت تتطرق لأفكار جديدة ليست من مألوف الأوساط الدينية،فتولد لديه الكثير من الشك،وبدأت الصور تهتز في مخيلته،لكثرة التناقضات في أهم ركن من أركان الدين وهو المساواة بين الطبقات الاجتماعية، فرجل الدين الذي يدعوا الناس إلى البر والتقوى والتجرد عن أطماع الدنيا الزائلة،لا ينحوا في حياته هذا المنحى،ويتهافت إلى أقصى درجات التهافت من أجل الحصول على المال من أي جهة كانت،ويحتجنه لنفسه أو بطانته ومن يلوذ به من الحاشية والأتباع،ويشيد القصور الفاخرة،والرياش الثمينة،ويجعل من المال العام طريقا للهيمنة والسطوة وبسط النفوذ،وشاهد كيف أن الزعماء الروحيين،فرضوا سلطتهم بما يمتلكون من رصيد مادي وأموال لا تصرف في أوجهها الصحيحة،أو بطريقة عادلة،في الوقت الذي يعيش فيه المواطن العراقي في أدنى درجات الفقر والبؤس،تتنعم الأسر الدينية بحياة مترفة،لا تختلف عن حياة أكثر الأسر الأرستقراطية،وشاهد كيف تجبى الأموال من الملاكين والتجار والإقطاعيين،وهي معجونة بدماء الفقراء من كادحي الأرض،وهالته هذه الشراكة بين أصحاب الأموال ورجال الدين في استغلال البسطاء،ووضعهم طرف في المعادلة،لذلك كانت ثورته العارمة في ملحمته الخالدة موجهة أصلا لجميع المشاركين في نهب المال العراقي،لم يستثني أحد رغم أن الكثير من أعلام أسرته كانوا في المقدمة من رجال الدين.

  لقد أثارت ملحمته هذه رجال الدين ،وجعلتهم يأخذون مواقف متشنجة منه،أتسمت بحرب عشواء استخدموا فيها مختلف الأسلحة،وأرعبت سلطات العهد المباد لما فيها من حض على الثورة ،ولهجة تحريضية،وتبصير للطبقات الكادحة بواقعها المرير،وكان للهجتها الصادقة،وتوصيفها للواقع بدون رتوش أو إضافات،وقعه الصاعق،فشاعرها من أسرة دينية خبر رجال الدين وعرفهم طفلا صبيا ويافعا،وعرف بواطنهم،فهو لا ينطق عن الهوى،أن هو إلا واقع يحاولون التستر عليه،فنشر غسيل هذه الفئة التي أعطت لنفسها قدسية تجاوزت حدود العصمة،فليس من الهين السكوت عمن يحاول الانتقاص منها،أو الاستعداء على منزلتها،،فكان التعاون من الجميع لتضييق الخناق عليه،فكان ما كان من أذى وحبوس وتشرد وتعذيب،ومعاملة جافية قاسية،حتى في محيطه العائلي الذي هاله أن يكون قاتله من بيته،والى جانب هذا كان للشعب تقديره السامي،ونظرته الحاوية لكل معاني الإكبار والإجلال،وهذا الخلود والتسامي الذي جعله في القمة من الشعراء الثوريين،ولا أخال شاعرا كبحر العلوم أثار مثل هذه اللغط،وتأخذ قصيدته هذا الحظ من الشهرة والذيوع،ولعله الوحيد من كبار الشعراء من لم يحض بالدخول في المناهج الدراسية،وتحاشاه مؤرخي الأدب في دراساتهم،لا بسبب  نقص في شاعريته أو ملكته الأدبية،ولكن لموقفه هذا الذي لم يترك له من صديق في دائرة الحكام المتعاقبين،حتى يومنا الراهن،رغم مكانته الرائعة في الأوساط الشعبية.

 ومما هو جدير بالإشارة،أن الكثير من أرائه التي وردت في ملحمته أثبتت الأيام صحتها،وستجد في ثنايا الدراسة الكثير من الصور الناصعة التي أوردها الشاعر،ظهرت واضحة جلية بعد التغيير الجديد في العراق،ولا أرى في قصيدته على صراحتها وواقعيتها أي خروج على الدين أو جوهره الحقيقي،وإنما هي ثورة على من ارتدوا مسوح الدين وتجلببوا بجلبابه فأساؤا إليه،والفرق كبير بين الاثنين،فرجل الدين إنسان يخطئ ويصيب،وما من أحد بمنجاة من الزلل أو الخطأ،ولكن البسطاء والسذج أعطوا لرجال الدين مكانة لا تتناسب وحجمهم في الحياة،وأحلوهم منزلة تجعلهم بمصاف الأنبياء،وتبعدهم عن الخطأ والزلل،لذلك ترى الاندفاع الأعمى خلفهم لمن فقد البصيرة في الحياة.

  ففي معرض هجومه على من تلبسوا لبوس الدين،وجعلوا من أنفسهم فيصلا بين الكفر والأيمان،وولاة الأمر الذين على الناس طاعتهم والرضوخ لأحكامهم،وعدم مسائلتهم فيما يصدرون من أحكام،فللعالم الأجر أن أخطأ وله أجران أن أصاب،فهو مثاب على كل شيء،فلهم الحكم الإلهي، لأنهم بقية الله على الأرض،الذين وجبت طاعتهم فيما يرون أو يقولون:

ما لبعض الناس لا يحسب للتفكير فضلا   ومتى ناقشته الرأي تعداك وولـــى

زاعما أبقاء ما كان على ما كان أولى      من جديد يعرف الواقع منه ...أين حقي

فهو ثائر على التقليد الأعمى،لما يراه البعض ممن جعلوا أنفسهم هداة للناس وهم في حقيقتهم يجهلون حاجة الناس،لابتعادهم عن المجتمع والاختلاط به، والنزول لمستواهم ،ومعرفة معاناتهم:

أنا أن أذعنت للخلق وحاولت التعامي

كان شأني شأن من يطلب غيثا من جهام

فنظام الخلق لا يعرف وزنا لنظامي

ونظامي لم يزل يصرخ مثلي.. أين حقي

 ويعلن تمرده على الواقع المأساوي الذي آلت إليه الأوضاع الاجتماعية،في محاولات رجال الدين لإلغاء عقل الإنسان،وأبعاده عن التفكير في حياته واعتبار الأشياء حادثة لا يمكن إبعادها أو تغييرها فالإنسان مقدر له أن يكون فقيرا معدما ،وما عليه إلا الطاعة بانتظار اليوم  الموعود ليجد ما تشتهيه الأنفس و تقر به الأعين،والحياة حظوظا وقسم فعليه القناعة بما كتب له أو عليه ،وعدم النظر إلى الآخرين الذين جعلهم الله متسلطين على رقاب الناس،فالله يرى ما لا يراه الآخرون،ولعل في ذلك مصلحة لا يمكن للإنسان إدراكها بعقله القاصر:

أتراني أرتئي ما يرتئيه الناسكونا     وأجاري منطقا يعتبر الشك يقينا

وأقر الوهم فيما يدعيه الناس دينا    فيعود العلم يدعوني بحق...أين حقي

ويسعى لتغيير الواقع،بنشر الوعي بين الطبقات الشعبية،ليعطيهم الصورة الحقيقية لما عليه هؤلاء المتسربلين بلباس الدين،ويحاولون ترسيخ الواقع الفاسد بأفكارهم الداعية إلى الخنوع والاستخذاء،والقناعة التي هي كنز ليفنى،فهذه العمائم التي تجوب الأرياف لاكتساب رزقها،تزرع الضلالة وتخدر عقول المساكين،بما تروج له من أفكار باطلة،بضرورة الابتعاد عما يثير الأغنياء والملاكين،لأن هؤلاء يحضون برعاية خاصة من السماء،التي أعطتهم هذه النعم لمعرفتها باستحقاقهم وأهليتهم لأن يكونوا أفضل من الآخرين،وقد فضل الله بعض على بعض بالرزق،لحكمة لا يعلمها إلا هو تعالى عما يصفون:

ليتني أسطيع بث الوعي في بعض الجماجم   لأريح البشر المخدوع من شر البهائم

وأزيح السر عما ينطوي تحت العمائم      من أناس تقتل الحق وتدعوا... أين حقي

فهؤلاء الذئاب المتلبسين بلباس الدين،لا يسعون من أجل الإصلاح،أو الخير للمساكين،بل يحاولون الاستفادة منه،وإبقائهم على تفكيرهم الساذج،ليكونوا بقرة حلوب يستحلبها رجال الدين والملاكين والمرابين ومالكي وسائل الإنتاج،فيجعلون الدين سيف الأغنياء المسلط على رقاب الفقراء،ويعلن ثورته الضارية بوجوه هذه الذئاب التي تعيش على شقاء الآخرين،منذ الآف السنين،ويدعوهم لترك الناس أحرار في اتخاذ الموقف الذي يريدون حيال مغتصبي حقوقهم،فليس الدين في حقيقته مطية لتحقيق المكاسب لهؤلاء،فهل أستحصل هؤلاء المتفيهقون صكا من السماء،ليتولوا أمور الناس،أن كتاب الله المركون على الرفوف العالية وقد غطاه الغبار،وتعطلت أحكامه الداعية إلى المساواة والعدالة الاجتماعية ،يستصرخ مطالبا بالحقوق التي عليهم الالتزام بها،والعمل على نشرها بين الناس:

يا ذئابا فتكت بالناس آلاف القرون        اتركيني أنا والدين فما أنت وديني

أمن الله قد أستحصلت صكا في شؤوني  وكتاب الله في الجامع يدعوا أين حقي

    ويعيب عليهم تفسير القرآن بما يتوافق مع مصالحهم  ومصالح من يمثلونهم من الطبقات الحاكمة،وأصبح رجل الدين سائرا في ركاب الحكام عادلين أو ظالمين،يروج لهم سياستهم ويؤول آيات القرآن  بما يحقق له مآربه الشخصية،وطموحاته الخاصة،وجعلوا الدين مصيدة لاصطياد السذج والمغفلين،بتمرير الأفكار الداعية إلى الاستكانة والذل والخنوع والقبول بتقسيمات السماء وما قدر لهم،فالإنسان رهبن بما كتب عليه قبل أن يخلق،وليس له تغيير الواقع،لأن ذلك تمرد على الأقدار التي جعلت الناس طبقات ومراتب،ففضلت هذا علة ذاك بالرزق والسلطة،،فكان لرجال الدين أفكارهم المسايرة للسلاطين،وأصحاب الأموال، لأنهم مصدرهم المالي،وهم القادرين على بقائه في منصبه،وعليه أيجاد التبريرات الدينية لتصرفاتهم المنافية لجوهر الأديان:

أنت فسرت كتاب الله تفسير فساد    واتخذت الدين أحبولة لف واصطياد

فتلبست بثوب لم يفصل بسداد       وإذا بالثوب ينشق ويدعوا... أين حقي

 وتصل ثورته العارمة قمتها عندما يصف القضاة الذين عليهم تطبيق القوانين وتحقيق العدالة،،ويتناول بذكاء مسألة الرجم التي أقرها الإسلام وجعل لها ضوابط خاصة تجعل من المستحيل تنفيذها لو توفر الحاكم العادل،ولكن هؤلاء القضاة الذين يحاولون غسل وجوههم وإخفاء مباذلهم،بادعائهم تطبيق الشريعة التي هم أول من خالفها،فالدين يدعوا لتوزيع الأموال بالعدالة،وللفقراء في أموال الأغنياء حقوقهم المعلومة،ولكن هذه الحقوق تعطى لرجال الدين فتتحول لعمارات وقصور ورياش فاخرة لهم ومن يلوذ بهم من الأقارب والأتباع،لذلك فهم يتحملون القسط الأكبر من الجرائم،فالفتاة التي لا تجد ما يقيم أودها،أو من يعيلها،تكون مضطرة لسلوك المركب الوعر،والارتماء في الرذيلة،ومن أضطر فلا أثم عليه،لذلك على من جعلوا أنفسهم قضاة وحراس لتطبيق الشريعة المقدسة،دراسة الأسباب الكامنة وراء هذا الجنوح ومعالجتها،وعلى رجل الدين تفقد رعيته ورعاية مصالحها حتى لا تضطر لسلوك الطريق الآخر للحصول على ما يقيم أودها:

وفتاة لم تجد غير غبار الجو سترا       تخدم الحي ولا تملك من ذا الحي شبرا

وتود الموت كي تملك بعد الموت قبرا  وإذا الحفار فوق القبر يدعوا..أين حقي

ما لهذي وسواها غير ميدان الدعارة    لتبيع العرض في أرذل أسواق التجارة

وإذا بالدين يرميها ثمانون حجارة   وإذا القاضي هو الزاني ويقضي..أين حقي

أين كان الدين عنها عندما كانت شريفة     ومتى قدر حقا لضعيف وضعيفة

ولماذا صاعها زانية غير شريفة        أ لأن العرف لا يسمع منها..أين حقي

لذلك فالقاضي هو الذي يتحمل أوزار هذه المرأة وما ارتكبت من أخطاء،ولكن من هو القاضي الذي جعل نفسه فيصلا في الأحكام،أنه في حقيقته أفاق يرتكب المعاصي والآثام،ويمارس الزنا ويشرب الخمر،دون أن يجد من يحاسبه،لاحتمائه بالدين،واتخاذه طريقا للوصول إلى غاياته الدنيئة،المنافية للأخلاق والأعراف والتقاليد:

كم زنى القاضي وكم لاط بولدان وحور         وأحتسى أوفى كؤوسا من أباريق الخمور

أين كان الدين عن أجرام قاضيه الخطير         ولماذا لم يصارحه بحق ..أين حقي

أن هؤلاء الأدعياء المتلبسين بأردية الدين المهلهلة،يخدعون الله والناس،ولكن أين مكر الله منهم وهو خير الماكرين،إلا يستطيع هذا الماكر الكبير كشف زيفهم وتعريتهم وإظهارهم على حقيقتهم الفجة:

برياء ونفاق يعبدون الله جهرا            أين مكر الله عمن ملأ العالم مكرا

أن صفا الأمر لهم لن يتركوا لله أمر    وسيبقى الله مثلي مستغيثا أين حقي

 وهنا يتنبأ متنبئ القرن العشرين،ويكشف عن حقيقة بانت واضحة جلية بعد عدة عقود من نشر قصيدته تلك،وليته يأتي اليوم ليرى ما يجري في العراق الجديد،من أمور باسم الدين،وممارسات ضارة لا يمكن صدورها عن جهات تدعي تمثيلها المطلق للسماء،ولعله وهو العارف بطبيعة المجتمع الديني،كان يرى ما لا يراه البعيدين عن هذه الأوساط،ولعل ذات الممارسات كانت جارية تلك الأيام،إلا أنها لم تكن على المستوى الذي عليه الآن،فكان كبارهم القادرين على السرقة والابتزاز،أما الآن فقد تهيأ لكل من ارتدى هذا اللبوس أن يحصل على ما يريد بأي طريق كان،ولعل ما كان في زمن الشاعر  لا يرقى إلى ما وصلوا إليه الآن ،بعد أن أصبحت كنوز العراق بأيديهم،وهنيئا لهم الأمر من قبل ومن بعد،ولكن هل هو هذا الدين الذي تعلمه بحر العلوم في حياته،وهل أن المبادئ الإسلامية،التي ملئت أطنان من الورق أخذت طريقها إلى التطبيق،أم أنها مجرد نظريات وفروض لم يتسنى لها الظهور على أرض الواقع:

ليس هذا الدين دين الله بل دين الولاة    لفقوه من أحاديث الشياطين الرواة

وادعوا أن من الله نظام الطبقات      أن يكن حقا فسله عن لساني ..أين حقي

وفي الجز الأخير سنتناول هذه الملحمة وموقفه من الصراع الطبقي،الذي هو المحور الأساس للنظرية الماركسية،والتصوير الرائع الذي أبرز فيه،آليات هذا الصراع ومحلها من الواقع الاجتماعي للعراق.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com