مقالات

زمن انهيار المواطنة

 خط الدم وافعى الشيطان التي تلاحق الأنسان في عراق اليوم

د. طاهر علوان / باحث اكاديمي عراقي وعضو في منظمة العفو الدولية

في شريط وثائقي اعلاني تبثه عدد من الفضائيات يتحدث ثلة من الشباب وهم في العشرينيات من اعمارهم عن واقع جديد يعيشونه في العراق اليوم، وهو انهم قد شلت حياتهم تماما بسبب عدم قدرتهم على الخروج لمزاولة اعمالهم اليومية الطبيعية بسبب الخوف من ان يدخلوا طريقا خطأ فيقعوا في قبضة احدى العصابات او المافيات وهناك يقتلون ويرمون اما في نهر دجلة او في احدى المزابل او يتركون على قارعة الطريق...اجل الدخول في شارع عن طريق الخطأ صاركابوسا مرعبا عندهم..

هذه القصة من البساطة بمكان لتكشف عن واقع حال مدينة اسمها بغداد يتفاعل فيها قدما سعار الفصل الطائفي وتجري تغذيته كل يوم بالمال والسلاح..وهومشهد يوجز لنا امورا بدهية عدة يتحدث عنها الجميع كل يوم من بينها فقدان الأمن وانتشار الفوضى وتسيد القتلة ومصاصي الدماء على الناس والأعتداء على حياتهم، لكنه يكشف عن امر آخر وهو انهيار مفهوم وقيمة المواطنة وهو الأخطر على الأطلاق.

ولعل غسيل الدماغ الطويل الذي عانى منه العراقيون من خلال تكرار سماع مقولة (كلنا عراقيون ولافرق بين عراقي وآخر ) قد دفع العراقيين الى سؤال مدو : اذا كان الجميع ينادي بهذه الشعارات وبالأخص الطبقة السياسية فلم صار الذي يحدد توزيع العراقيين جغرافيا هو شيء واحد فقط وهو: خط الدم..والقتل...

فخط الدم صار هو الحد الجغرافي بين العراقيين اليوم وليست خطوط المواطنة المتشابكة التي تجمع الكل دون تمييز، خط الدم هو الذي يجب ان يتكيفوا معه بل هم فعلوا ذلك واقعيا من خلال تهجيراكثر من مليوني عراقي في داخل بلادهم ومايقارب هذا الرقم الى خارج البلاد..فما معنى ان يهجر انسان بيته راغما ؟ ومامعنى انه يذهب لمن هجره رافعا اصبعه ولسان حاله يقول انا عراقي فلا يلقى غير الموت بانتظاره او الرحيل ؟

ولعل المراقب لهذه التحولات سيرصد ايضا وفي المقابل كيف تتحول هذه الممارسة في رسم خارطة بغداد اخرى، الى استراتيجيا تعجز امامها كل الأرادات المتناحرة فلا تملك الا التسليم بها.

بالطبع نحن امام جسد يتلقى جرعات من الآلام اليومية وتأثيرا تراكميا يعزز الأحساس بالعجز والأحباط واللاجدوى واللا يقين...وهو احساس يشكل المهاد الطبيعي لولادة كل المواقف والسلوكيات السلبية التي تنفي قيمة المواطنة بل وستخلف جيلا جديدا من الفصاميين الذين ورثوا هذا الغل والمرارة بسبب فقدان ابسط المقومات الآدمية وهي العيش تحت سقف آمن، اذ كل الكائنات البشرية وغير البشرية قد فطرها الخالق العظيم على التشبث بهذه القيمة وبدونها ستتحقق مجمل التشوهات القيمية.

ان من الأمور التي تستحق النظر اليها جديا هي مسألة الأدوات والأطروحات التي تغذي هذا التلاشي التدريجي لمفهوم وقيمة المواطنة والتي تسلل اليها كم هائل من غسيل الدماغ المطلق من خلال التخوين والكراهية ورفض الآخر واسباغ قدسية مزيفة على مهمة اسقاط قيمة المواطنة واسباغ كلمات وشعارات في الوطنية والقومية هي اقرب الى الشوفينية واحتقار الآخر من خلال احتقار قيمة المواطنة.

 

 مفهوم المواطنة ودلالاتها

 ولنتوقف قليلا هنا لنراجع مااجمعت عليه ادبيات العقل السياسي والأجتماعي على مر العصور في تعريف مفهموم وقيمة المواطنة:

ان المواطنة في معناها العام هي علاقة بين فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة، وبما تتضمنه تلك العلاقة من واجبات وحقوق، والمواطنة تدلّ ضمناً على مرتبة من الحرية مع ما يصاحبها من مسؤوليات، وعلى الرغم من أن الجنسية غالباً ما تكون مرادفة للمواطنة، حيث تتضمن علاقة بين فرد ودولة، إلا أنها تعني امتيازات أخرى خاصة.

اذا نجد ان المنطلق الأول للمواطنة يكمن في ركنين اساسيين هما :

•الحقوق والواجبات..

•التشريعات في مجملها وضعت من اجل تحديد مفهوم المواطنة من خلال تحديد حقوق المواطن وواجباته التي يجب ان يدركها بكل دقة..

•تذكر العديد من الموسوعات ودوائر المعارف أن المواطنة هي عضوية كاملة في دولة أو في بعض وحدات الحكم، ودون تمييز بين المواطنة والجنسية ,و أن (المواطنين لديهم الحقوق، مثل حق التصويت وحق تولي المناصب العامة، وكذلك عليهم الواجبات مثل واجب دفع الضرائب والدفاع عن بلدهم).

•وتعرف موسوعة كولير الأميركية كلمة (Citizenship) (وتقصد بها مصطلح المواطنة ومصطلح الجنسية دون تمييز) بأنها (أكثر أشكال العضوية في المجتمع المعاصر اكتمالاً).

•ويبدو من خلال ماورد أنه في الدولة الحديثة يتمتع كل من يحمل جنسية الدولة من البالغين الراشدين بحقوق المواطنة فيها، وهذا الوضع ليس نفسه في الدول التي تحتقر هذه القيمة ولا تحترمها حيث تكون الجنسية مجرد (تابعية)، لا تتوفر لمن يحملها بالضرورة حقوق المواطنة السياسية ولا الأجتماعية ولا المادية ولا الأنسانية، هذا إن توافرت هذه الحقوق أصلاً لأحد غير الحكام وربما للحاكم الفرد المطلق وحده هذا فضلا عن عدم انتهاك الحرية الفردية وحق المواطن في العيش الكريم والتمتع بثروات البلاد والتعرف بشفافية كاملة كيف توزع هذه الموارد فضلا عن الحق في السكن اللائق والضمان الصحي والأجتماعي والتعليمي.

 

ثقافة المواطنة

 واقعيا ومن خلال ماورد آنفا، نجد ان ( ثقافة المواطنة) على صعيد واقعنا المعاش كانت هي الأضعف دائما، ولم تجر تغذية اجيال بأكملها لتمثل تلك الثقافة مفهوما وسلوكا لسبب بسيط وأساس وهو : ان للمواطنة استحقاقاتها الكثيرة والمتعددة والتي لايطيق النظام السياسي على مر الحقب وحتى اليوم التسليم بها.

ولهذا تمت ازاحة هذا المفهوم دوما الى مجموعة من الشعارات اليومية المتكلسة رفدتها ممارسات جمعية من قبيل التحشيد الحماسي الذي اججته الماكنة الأعلامية دون ان يوجد رصيد حقيقي وملموس للمواطنة على ارض الواقع، هذا الرصيد الذي ظل يقض مضجع النظم السياسية في العراق حتى اليوم يتمثل فيما يأتي :

 

•1- الحقوق القانونية والدستورية.

•2- ضمانات المشاركة السياسية الفعالة.

•3- الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تمكن المواطن من التعبير عن رأيه ومصالحه بحرية.

•4- التقارب في الدخل والثروة والمكانة الاجتماعية والتعليم ومهارات الوصول إلى المعلومات البديلة التي تسمح للمواطن بالحصول على المعلومات من مصادر مختلفة.

5- المسؤولية المجتمعية تجاه تنمية فرص العمل والرعاية الاجتماعية في حالة العجز والبطالة، ومن أجل التعليم والصحة والتنمية الثقافية.

وفي وقت ينظر الى هذه الثوابت على انها (حقوق )، ظل النظام السياسي ينظر اليها على انها مكاسب، من حقه ان يمنحها لمن يشاء ويمنعها عمن يشاء، وواقعيا ان حجب هذه الحقوق او قسما كبيرا منها سيؤدي الى تدجين انسان يفتقد لشرط الكرامة الأنسانية لأن رصيده هي هذه الحقوق وبفقدانها سيشعر الفرد بعدم الأنتماء وانه من الدرجة الثانية او الثالثة او غير ذلك وهي بداية انهيار مفهوم وقيمة المواطنة والأغتراب داخل الوطن نفسه وبالطبع هي قاعدة عربية عامة ومشتركة تشترك فيها العديد من النظم السياسية العربية في مصادرتها على مر عقود من الزمن قيمة وحقوق المواطنة ورصيدها القيمي والأعتباري والأنساني والمادي.

ولعل واحدة من المعضلات الكبرى التي تجابه الفرد (المغترب ) في داخل وطنه هي احساسه انه رقم مجرد يضاف الى سلسلة الآحاد والأصفار لاوزن له ولاقيمة، وقد غرست في داخله منذ الطفولة مسألة الأحساس بالتهميش من خلال انعدام تكافؤ الفرص والشعور المرير بالتمييز وممارسات الأذلال اليومية التي تبدأ من المدرسة لتتوسع الى مؤسسات المجتمع والدولة التي ترى ان اذلال الفرد هي مهمة اساسية في تسيير اية اعمال ادارية او قانونية او اقتصادية او غيرها.

 

المواطنة وتكافؤ الفرص

 ومادمنا قد تحدثنا عن مسألة تكافؤ الفرص فلننظر لها من زواياها المتعددة :

ان المبدأ هنا هو : ان المواطنة هي المساواة وتكافؤ الفرص

•ان المواطنة يجب ان تتعدى كونها مجرد توافق أو ترتيب سياسي تعكسه نصوص قانونية، لتصبح المساواة بين المواطنين وتكافؤ للفرص في الحقوق والواجبات وباعتبار ذلك :

•قيمة اجتماعية وأخلاقية

• ممارسة سلوكية يعبر أداؤها من قبل المواطنين عن نضج ثقافي ورقي حضاري وإدراك سياسي حقيقي لفضيلة معاملة جميع المواطنين على قدم المساواة دون تمييز بينهم بسبب الدين والمذهب والعرق والجنس ومن خلال القضاء نهائيا على ممارسات الأذلال والأحتقار والكراهية والتهميش والحط من الكرامة الأنسانية.

ان هذه الخلاصات تكشف لنا المديات التي يتحرك من خلالها الواقع السياسي والأجتماعي في عراق اليوم، اذ لو نظرنا الى كل ماورد من معطيات، سنجد ان الحد الأدنى منها قد تمت مصادرته والتهامه بواسطة ماكنة الرعب اليومية التي فتكت بالأستقرار الأجتماعي والأنساني في عراق اليوم. مضاف اليها فوضى وتناحرات وصراعات سياسية وصراعات مصالح فئوية ضيقة مافتئت تخلف وراءها حطاما اجتماعيا ودوامات من سعار الكراهية التي تغذيها خطابات الساسة وغيرهم ممن يمعنون في تحطيم المواطنة احساسا وقيمة وممارسة.

ومن منطلق قول الخالق العظيم (كل قوم بما لديهم فرحون ) لانملك نحن -غير السياسيين- ان نري هؤلاء او اولئك الحق حقا ولا الباطل باطلا من خلال كشف الفضائع التي ترتكب بحق المواطنة في كل يوم وساعة وفي المحصلة النهائية تمضي عجلة السحق اليومي للمواطنة، الكل ينادي في وسط الضجيج والفوضى الى ( الأنقاذ ) والخروج من المأزق، لكن لاأحد ينادي بأنقاذ المواطنة والمواطن والحفاظ على ماتبقى من احساسه بالأنتماء اذ تدفعه الموجة العارمة والضجيج السياسي تحت وطأة السيطرة الأمبراطورية على المقدرات اليومية للبلاد وتصفية صراعات الأمم فيما بينها، تدفع هذه الفورة العارمة وموجها المتلاطم بسواد عظيم من الناس الى ايثار السلامة والنأي عن المتصارعين المتناطحين في حلبة الثيران الهائجة..

هذه المشاهد السريالية هي التي دفعت اولئك الشباب الأبرياء الواعدين المحطمين الذين ظهروا في الشريط الأعلاني الذي تحدثت عنه في مطلع كلمتي الى تلك الشكوى المريرة من الشلل الذي اصاب حياتهم، فهم عندي ليسوا مشلولين بسبب الرعب اليومي وكابوس تقدم خط الدم نحوهم، بل بسبب تآكل مفهوم وقيمة المواطنة المقدسة من حولهم...اذ لارصيد لها وسط سعار المتناطحين الذين يطفح زبد الكراهية والأحقاد المتأصلة في صدورهم وهم يحتقرون بعضهم البعض ويتنابزون ضد بعضهم البعض ويخونون بعضهم البعض في صراع دراماتيكي يريدونه طويلا جدا لأن النار المستعرة في النفوس يبدو انها لاتكفي لتطفؤها كل تلك الفضائع التي مرت وتمر بالعراق والعراقيين...ولهذا كانت الحلقة الهشة التي ضربها الزلزال هي المواطن البسيط والعادي والمسالم الذي رضي طويلا وعلى مدى عقود بالتنازل عن كثير من رصيد المواطنة عنده، ورضي بالقليل وهو ان يعيش بسلام ويطعم عياله ويراهم ذاهبين عائدين الى مدارسهم واماكن لهوهم ومرحهم بسلام..لكن هذه (الحقوق البدهية ) صارت بالتقادم شبه مستحيل تحققها وصار خط الدم الذي يزحف مثل افعى الشيطان في التخوم والدروب والأزقة والشوارع والقرى والمدن والفيافي حاصدا ارواح الأبرياء ومحطما قيمة المواطنة ومخلفا وراءه احساسا مرا ومزمنا بالفجيعة والأغتراب والعجز واللاجدوى واللايقين...وهي مع شديد الأسى والأسف والألم، اعراض و بداية لكل الكوابيس غير المرغوبة القادمة وبما فيها التفتيت والأنشطارات غير المحسوبة، من منطلق حقيقة علمية وطبية بسيطة مفادها ان الجسد الذي تأكله الغانغرينا يتحلل لااراديا في ظل زحف ذاك الداء الوبيل دون ضابط ولا مانع وهو ذاته خط الدم الذي يزحف مثل افعى الشيطان ليأكل في زحفة المواطنة قيما وحقا وسلوكا واسلوب حياة.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com