مقالات

الحنين الى مدن أحببتها

أولا: أم الربيعين (الموصل الحدباء)

سناء صالح / هولندا

حينما زرت الوطن آخر مرة، كانت الموصل هي مستقري، لم نكن نتحرك بسهولة، المفارز، التوتر، الخوف من إرهابي يختطفك أصوات البنادق والرشاشات والهاونات، مجنزرات أمريكية تدك إسفلت الشوارع الخلفية فتكسر التبليط وتحوله الى أتربة، الناس معتكفة في المنازل منذ السادسة، منع تجول يفرضه الناس على أنفسهم مقاهي مغلقة مهجورة على شاطئ دجلة ومناقل الكباب مطفئة، تحذير على جدار ضخم أن لاتزور الآثار التي تتميز بها موصلنا فهي خطرة وقد تتعرض للخطر، حكايات عن جثث مرمية في عرض الشارع مقطوعة الرؤوس، مسيحيات يتلفعن غطاء رأس أسود خوفا من كشف هويتهن الدينية، بيوت ودكاكين مكتوب عليها للبيع سيارات أزيلت عن صناديقها الأبواب فبدت قبيحة، هاهي الموصل اليوم وقبل عامين فأين هي الموصل التي أحن لها أين مدينة الأنبياء، مدينة آشور، الموصل، المدينة الخضراء الزاهية بمنائرها وكنائسها ومعابد لديانات أخرى, العامرة بأسواقها المميزة بلهجتها، يأخذني حنين جارف إليها، الى صباحاتها العذبة النسائم، الى بساتينها العامرة بأشجار الفستق واللوز, الى دجلتها الصافي.

 في سنوات غابرة حينما كنا صغارا نقضي العطلة الصيفية سنويا في هذه المدينة، بين أحضان أخوالنا، ترافقنا الجدة بعد وفاة الأم محاولة منها تجفيف دمعة أطفال عرفوا اليتم مبكرا وتعويض عن حنان افتقدوه.

 في أول يوم للعطلة الصيفية، كنا نشد الرحال ونستعجل الوقت الذي نكون فيه في المحطة، كنا فرحين ونحن نصعد القطار في الدرجة الثالثة، كنا نتمنى أن تحجز جدتي لنا في الدرجة السياحية وقد كان وضعنا الاقتصادي يسمح بذلك، ولكن محال فهذا بالنسبة لها إسراف لامبرر له وإننا سنصل في نفس الوقت سواء كنا من ركاب الدرجة الأولى أو الدرجة الثالثة وماهي إلاّ سويعات وسنصل ونتمكن من النوم، نختار المقاعد الأخيرة لننام في الفسحة التي تفصل بين الكراسي المتقابلة، القطار يمتلأ بالناس، صفارة القطار تعلن سيره، نجلس على المقاعد نحن الأطفال الأكبر ويستقر في أحضاننا أخوتنا الصغار إذ كنّا خمسة ويأتي قاطع التذاكر (التيتي )وهنا تبدأ سجالات بين جدتي والرجل الذي جاء ليمارس عمله، تفاصله وترفض أن تدفع بطاقات للأطفال فهم مازالوا صغارا، وتدافع عن قناعة كاملة عن وجهة نظرها، كانت جدتي هي المنتصرة على الأغلب. ويمر القطار بدعة وأمان على مدن في الطريق، حيث تلوح من بعيد أضوائها، مدن وادعة لاخوف من المرور بها، وفي كل محطة يتوقف القطار كان الباعة المتجولون يطوفون بين العربات ( الفاركونات ) يبيعون العلكة والمصاصات واللفات (السندوتشات ) وغيرها، ورغم أن جدتي لم تنس شيئا لكننا كنا نشتهي أن نشتري شيئا مما يباع.ويسير القطار في عمق الليل, كنا نعقد صداقات في الطريق مع أترابنا، قد نتبادل العناوين للمراسلة ولكننا في أكثر الأحيان ننسى بعضنا بمجرد مغادرة العربة، غالبا عن المدرسة فهي المحور الأول والأساسي في حياتنا، ثم نحاول النوم جاهدين ملتحفين بغطاء خفيف، نسمات ليلية منعشة البرودة تتسلل الى أجسادنا تزداد برودة كلما توجهنا شمالا، وفي الفجر حينما نصل الى حمام العليل، يغادر القطار الكثير من المسافرين حاملين أمتعتهم من بسط ومعدات مطبخ، للاستشفاء بمياه حمام (علي ). وبعدها ندخل النفق أو ما يسمى موصليا (اللقم )، كان نوع من الخوف يعترينا - نحن الصغار - إذ ينبغي أن تغلق النوافذ بأحكام وتحذيرات ووقوف القطار للحظات، وماهي إلاّ دقائق ونكون قد وصلنا حيث يستقبلنا الأخوال وأبناؤهم بالأحضان وبدموع الفرح لرؤية بعضنا الآخر، ويبدأ برنامجنا الغني بالزيارات والرحلات

أول ماتفعله الجدة أنها تزور القبور، لم تصطحبنا فنحن نخاف المقابر. في زياراتنا كنا نطوف الموصل في مختلف أحيائها التي تنم عن عراقة أو الحديثة، أجمل المناطق بالنسبة لي كانت النبي يونس رغم بساطته وكونه من الأحياء الشعبية،كان يسعدنا أن نصعد الى مقام النبي يونس نتسابق، وكانت شجرة الفستق التي تتوسط باحة الدار في بيت خالتي القديم المبني من الحجر مازالت ترد صورة جميلة في خاطري، بيت جدتي في باب لكش والصندلية المصنوعة من خشب الجوز الجميلة بزخارفها ونقوشها والأرض الحجرية النظيفة، السرجخانة، والمحلات التي تزدان بالبضائع، رائحة صابون الركي تفغم أنفي كذكرى عبقة لماض أتعلق به, السفرات المجانية الى دجلة والجلوس عند ضفافه المزدحمة بباعة البطيخ والركي الموصلي الذي لانظير لمذاقه وحجمه،النبي شيت، وجرجيس، الشيخ فتحي وزيارة أولياء الله الصالحين الذين تزهو الموصل بمقاماتهم, المكاوي والساعة، الزهور والطيران، الغزلاني، عين كبريت ورائحة الكبريت المنبعثة عن بعد والناس القادمون للأستشفاء وتلطيخ ألأجساد بطينها الشافي من الأمراض الجلدية والعين الساخنة التي تنبعث وسط مياه دجلة الباردة وحسب تسمية جدتي يرحمها الله عين زهرة تيمنا بالبتول ابنة الرسول الكريم، الأديرة في المناطق الجميلة المحيطة بالموصل، حمام العليل الذي كنا نخصص له جزءا كبيرا من سفرتنا حيث كنا نسنتأجر بيتا قريبا من الحمام الذي نرتاده يوميا ونستمع بشوق الى حكايات أقرب الى الأسطورة في كيف تحول الماءالساخن الصافي الى ماء عكر بارد بسبب نزوة الخاتون زوجة أغا المنطقة حينما أدخلت كلبها الى (المعين ) فكان الغضب الألهي لتدنيس الماء الطهور الذي يحمل اسم الأمام علي حسب التسمية والمعتقد الشعبي السائد. وتمتد السفرة لتشمل مدنا وقرى حيث أقاربنا، أمّا الموصل فتبقى المستقر لنا والمنطلق لرحلات قصيرة،وتمضي الأيام بدون أن نشعر بها, فالأيام الحلوة سرعان ماتنقضي ويبتدئ موسم تحضير( المونة )،أمام البيوت فتصف القدور النحاسية الكبيرة أمام البيوت وتقوم النساء بغسل وسلق القمح وأرساله الى المطحنة وتصنيفه الى برغل وجريش لخزنه لأيام قادمة وهو تقليد موصلي، تبدأ رحلة العودة الى البيت الى مدينتنا محملين بالجوز والفستق والتين والصابون الحلبي وبنصيبنا من ( المونة) وفي أنفسنا شوق وحنين الى أم الربيعين.

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com