مقالات

حواضر شيّدها العلم وأخرى هدّها العنف الطائفي

نضير الخزرجي / إعلامي وباحث عراقي

الرأي الآخر للدراسات – لندن

تفتخر كل امة بعلمائها وأعلامها، وتتفاخر كل حضارة بما تملك من حواضر علمية ترفد المجتمع بالمتعلمين والعلماء، وتسطع بأنوار العلم على الأمم الأخرى، والأمة الراشدة النابضة بالحياة، هي الأمة التي يكرم فيها عالمها ولا يهان بينها متعلمها، والأمة الحضارية هي الأمة التي يرتفع بين أظهرها جدران العلم، ويشاد فيها بنيان المدارس والمعاهد العلمية، لان الصرح العلمي هو البوابة الطبيعية لقراءة وعي الأمة وحجم ثقافتها، ولأنه وجه كل حضارة به يقاس عمران نفوس أهلها، وهو مؤشر على الحرية التي ينعم بظلالها المجتمع، والسلام الذي يرفل به الناس.

وكلما تقادم الصرح العلمي عمرا، اكتسب تجارب الأمم الأخرى فأكسب من ينهل منه علوم ومعارف، وتجارب لا يستغني عنها كل ذي عالم لبيب ومتعلم أريب، وإذا تلقى هذا الصرح رعاية خاصة أفاد جيله والأجيال اللاحقة، ونفث في روح الأمة الألق والتقدم، ولذلك فان أية قراءة راشدة لأية أمة حية لا تتم إلا عبر بوابة العلم، ولا يمكن الإطلال على إنجازات الأمة إلا من فوق قلاع الصروح العلمية، فهي الأعلى والأقوى والأسرع في عالم التسابق الحضاري، وان علت ناطحات السحاب في بلد كبير وتسامقت الأبراج في بلدة صغيرة.

 

الشباب ودائع العلم

وفي الحضارة الإسلامية، تعتبر المدينة المنورة هي النواة الأولى للصروح العلمية التي انتشرت في أنحاء العالم الإسلامي مع اتساع رقعة الإسلام، وهذه الحواضر العلمية التي لم نعد نسمع عنها إلا العدد القليل وما بقي منها أقل، يتابع المحقق الدكتور محمد صادق الكرباسي أخبارها في الجزء الثالث من كتاب "الحسين والتشريع الإسلامي" الصادر في العام 2007، عن المركز الحسيني للدراسات بلندن في 640 صفحة من القطع الوزيري، واضعا يده على مواقع الضعف والقوة في كل مدرسة علمية وحاضرة إسلامية ومآل كل حاضرة، بعد ان يكون قد تلمس تاريخ النشأة وتبين علماء الحاضرة العلمية وتصفح النتاجات العلمية، وأبان الخيوط التي ربطت الصرح العلمي بالسلطة السياسية.

ويبدأ المحقق الكرباسي في هذا الجزء من حيث انتهى في الجزء الثاني حينما تعرض الى المرحلة الأولى من حياة الحاضرة العلمية في المدينة المنورة على عهد النبي الأكرم محمد وعهد الخلافة الراشدة باستشهاد الإمام علي (ع) في 40 هـ وجانب من خلافة الإمام الحسن بن علي (ع) التي انتهت في 41 هـ حتى استشهاده في العام 50 هـ، ويستبين وضع المدينة المنورة العلمي في عهد الإمام الحسين (ع) (ت 61 هـ)، حيث: "كانت ترجع إليه الأمة في الفتيا من كافة أقطار العالم الإسلامي كما كانت الصحابة تعتمد عليه في ذلك"، كما يستبين وضعها في عهد الإمام زين العابدين علي بن الحسين السجاد (ع) (ت 95 هـ) الذي يعتبر: "من أعظم الرواة وأهمهم في الإسلام، وكانت لرواياته أهمية خاصة عند علماء الحديث"، فضلا عن اهتمامه الكبير بطلبة العلوم وبخاصة الشباب منهم، وحسب وصف ابنه الإمام محمد بن علي الباقر (ع) (ت 114 هـ): "كان أبي إذا نظر الى الشباب الذين يطلبون العلم أدناهم إليه، وقال: مرحبا بكم انتم ودائع العلم، ويوشك إذا انتم صغار قوم أن تكونوا كبار آخرين". وترك الإمام السجاد مجموعة من الأصول: "جمعها العلماء من بعده في كتب وصنفوها فأصبحت مصدرا من مصادر التشريع يرجع إليها الفقهاء عند عملية استنباط الحكم الشرعي وهي: الصحيفة السجادية، المناجات الخمس عشرة، رسالة الحقوق، وكتاب علي بن الحسين".

 

بزوغ العهد الذهبي

أما المرحلة الثانية من حياة الحاضرة العلمية في المدينة المنورة فتبدأ من العام 95 وهي السنة التي استهل بها عهد الإمام محمد بن علي الباقر (ع)، وتنتهي بانتقال عاصمة الدولة العباسية الى بغداد، وشهدت هذه المرحلة حركة تصاعدية في المجال العلمي، وعند بعضهم ان بداية القرن الثاني الهجري حتى منتصف القرن الرابع منه يمثل العهد الذهبي لحاضرة المدينة العلمية، ويرى الكرباسي ان هذا العهد لدى الشيعة الإمامية يقع في النصف الأول من القرن الثاني الهجري، ومن المدينة المنورة انتشرت العلوم الى بقية المدن والأصقاع.

ولا مشاحة ان الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) (ت 148 هـ) كان له قصب السبق في نشر العلوم وبث التلاميذ هنا وهناك، وكان لسقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية في العام 132 عاملا مساعدا في انتشار العلوم وتلقيه وانفتاح الآخرين على مدرسة أهل البيت العلمية وتزود قادة المذاهب الإسلامية من نمير علم الإمام الصادق (ع). وهذا التلاقح المعرفي كان واحدا من الأسباب التي دعت قادة بني العباس إلى تشديد حلقة الخناق على مدرسة أهل البيت كما حصل مع الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ت 183 هـ) الذي سجن مرات عدة، حتى استشهد في سجنه مسموما.

وفي عهد الإمام علي بن موسى الرضا (ع) (ت 203 هـ): "اتسعت الحركة العلمية ونشط فيه البحث والتأليف والتدوين وتصنيف العلوم والمعارف ونشأت المدارس والتيارات الفلسفية والفكرية، وبدأت حركة الترجمة والنقل من اللغات والشعوب والأمم المختلفة، وازدحمت المدارس وحلقات الدرس بالأساتذة والطلاب"، وحيث كان الإمام في المدينة المنورة فكان سيد العلماء وكما يقول (ع): (كنت أجلس في الروضة والعلماء بالمدينة متوافرون، فإذا أعيا الواحد منهم مسألة أشاروا إليّ بأجمعهم وبعثوا إلي بالمسائل فأجبت عنها)، وقد نسب إليه من الكتب ثلاثة: فقه الرضا، صحيفة الرضا، والرسالة الذهبية.

ولما هاجر الإمام الرضا مدينة جده الى طوس عام 200 هـ لتسلم ولاية العهد لحكومة المأمون العباسي (ت 218 هـ)، خلف في المدينة المنورة نجله الإمام محمد بن علي الجواد (ع) (ت 220 هـ)، يفتي في الناس وهو حدث السن، وما أحد سأله إلا وأجاب، ولم يرهقه السؤال ولم يعيه الجواب، ولما رحل عن الدنيا مسموما في بغداد ترك للأمة الإسلامية نجله الإمام علي بن محمد الهادي (ع) (ت 254 هـ).

ومن يدرس الحواضر العلمية الإسلامية وعلمائها يكتشف الشيء الكثير والمثير للإعجاب، ومن ذلك ان المحقق الكرباسي يستشف من قصة حصلت في عهد الإمام الهادي، أن العمليات الجراحية الداخلية كان أمرا متعارفا عليه في الطبابة، أي ان الطب كان متقدما للغاية، إلا ان القمع الذي واجهه العلم والعلماء حال دون حصول تراكمات علمية تدفع بالمجتمعات الإسلامية الى الإمام، كما هو الحاصل في المجتمعات الغربية التي استفادت من التراكمات العلمية رغم قصر عمر الطفرات العلمية وتقدمت أشواطاً بعيدة في المجالات العلمية كافة حتى صار المسلمون عالة على موائد الغرب العلمية!

 

على أطراف الجزيرة

وينتقل الفقيه الكرباسي من حاضرة المدينة العلمية الى مكة المكرمة، مسلطا الاضواء على حاضرتها العلمية، ووجد: "إن فقهاء مكة فيما بعد كانوا على تقارب مع فقهاء العراق في كون أكثرهم من أصحاب مدرسة الرأي"، على خلاف من فقهاء المدينة المنورة الذين تمسكوا بمدرسة الحديث.

وينتقل الى اليمن التي دخلها الإسلام أولا في الثامن من عام الهجرة على يد الإمام علي بن أبي طالب (ع)، ويوجه أنظار القارئ إلى خارطة حاضرتها العلمية وعلمائها. ثم يعرج على البحرين الكبرى وحاضرتها العلمية، مؤكدا على النشاط الذي دب في جسد: "الحركة العلمية في البحرين منذ القرن السابع الهجري" ثم أنها: "بلغت ذروتها في القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين، ثم بدأت تتجه نحو الانحسار في القرن الرابع عشر الهجري". وفي الاحساء التي كانت تشكل جزءا من البحرين الكبرى، وهي تقع في المنطقة الشرقية من الجزيرة العربية، فإنها شهدت نموا علميا ملحوظا: "إلا أن دورها تضاءل بعدما توحدت المملكة العربية السعودية في ظل السلطات السعودية، فكان الدارسون منهم يتوجهون الى العراق وإيران والبحرين لطلب العلم". ولم تختلف القطيف وهي من مقاطعات المنطقة الشرقية عن الإحساء، فقد أصابها ما أصاب الاحساء، لكنها بدأت تشهد في القرن الخامس عشر الهجري حركة علمية وادعة بخاصة مع إنشاء حوزة القائم (ع) وعدد من المدارس العلمية في مدن القطيف مثل العوامية.

 

الكوفة .. ترسيخا وإنتشارا

وتعتبر حاضرة العراق العلمية الثانية بعد المدينة المنورة من حيث الشهرة، بخاصة وان معظم المدارس الفكرية والمذاهب الإسلامية ظهرت فيها، ويرى المحقق الكرباسي ان جامعة الكوفة العلمية هي الأولى في العراق، ومن حيث التأريخ: "فان البصرة تعد الثانية وكربلاء الثالثة وبغداد الرابعة والنجف الخامسة والحلة السادسة وسامراء السابعة"، مع وجود معاهد علمية في مدن واسط والموصل.

وأخذت الكوفة شهرتها العلمية بانتقال العاصمة الإسلامية على عهد حكم الإمام علي (ع) من المدينة المنورة إليها في العام 36 هـ، ومن عظمتها ان: "عقدت حلقات الدرس والمناظرة في مسجد الكوفة، وشارك الإمام بنفسه مع ثلة من حوارييه في إقامة مثل هذه الحلقات وكانت ابنته زينب الكبرى (ع) هي الأخرى اتخذت خطة متقدمة جداً حيث أنشأت حلقة درس في تفسير القرآن وبيان الأحكام الشرعية للنساء خاصة"، وحسب ما يقول الفقيه والمؤرخ السيد محسن الأمين (1371 هـ) في أعيان الشيعة:1/137، أن الإمام علي (ع) يعتبر أول من تكلم في أصول الفقه فأملى ستين نوعا من أنواع علوم القرآن. كما كان للإمام علي (ع) مضمار السبق في التأليف والتصنيف، وانعدم هذا الفن لدى مدرسة الرأي، ولا غرابة في ذلك لأن مدرسة الحديث (مدرسة أهل البيت) شجعت على التصنيف فيما حرمت مدرسة الرأي ذلك على الصحابة والتابعين، واستمر هذا الحظر لمدة قرن كامل. ويعتقد المحقق الكرباسي ان حاضرتي المدينة المنورة والكوفة كانتا: "لهما أهمية كبرى في تاريخ الحضارات العلمية في العالم الإسلامي"، وذلك لأن: "الأولى حيث كان بها التأسيس، والثانية حيث كان بها الترسيخ والانتشار، والأولى قادها الرسول الأعظم (ص)، والثانية تزعمها وصيه الإمام علي (ع)".

ولكن حاضرة العراق العلمية تعرضت الى القمع في عهد معاوية بن أبي سفيان (ت 60 هـ) ومن جاء من بعده، فهجرها العلماء، وابتعدت الكوفة عن مدرسة الحديث واقتربت كثيرا من مدرسة الرأي: "بسبب الفقهاء والرواة الذين دعمتهم السلطة الأموية، بينما اتجهت جامعة المدينة نحو مدرسة الحديث بسبب هجرة عدد من الفقهاء والرواة إليها". غير ان الأمر لم يستمر طويلا، فقد انتعشت الحياة العلمية في الكوفة في عهد الصادقين محمد بن علي الباقر وجعفر بن محمد الصادق، وتفوقت المدرسة الكوفية على المدرسة البصرية. وفي هذا العهد وصل التطور التشريعي ذروته ونشأت الى جانب المدرسة التشريعية الإمامية (الشيعية) والإباضية (الخوارج) والزيدية، مدرسة أبي حنيفة. وفي البصرة التي دخلها الإسلام عام 16 هـ، نشطت الحركة العلمية فيها بعد ان سكنها الأصحاب والتابعون من علماء ومحدثين وفقهاء ورواة.

 

العضدية سبقت النظامية

 وفي كربلاء التي فتحها المسلمون عام 12 هـ، انتعشت فيها الحركة العلمية بخاصة بعد استشهاد الإمام الحسين (ع) عام 61 هـ، حيث تجمع الفقهاء حول قبر الشهيد، وسكنها لفترة الإمام جعفر الصادق (ع) والإمام موسى الكاظم (ع)، وقد برزت كربلاء علميا منذ القرن الثاني الهجري. ويفند المحقق الكرباسي ما أشيع بان المدرسة النظامية في بغداد هـ التي أنشأها الوزير نظام الملك حسن بن علي الطوسي (ت 485 هـ) عام 457 هي أول صرح علمي شيد في العراق على الإطلاق، ويرى ان كربلاء المقدسة شهدت في عصر البويهيين قيام أول مدرسة علمية كبرى في العراق وذلك عام 369 هـ أسسها عضد الدولة البويهي (ت 372 هـ)، وأخذت اسمه، وأقام بعد عامين مدرسة أخرى بالاسم نفسه لاستيعاب العدد المتزايد من طلاب العلم، حيث كانت كربلاء في تلك الفترة تضم آلاف الطلبة والمدرسين.

ويجزم المحقق الكرباسي بتقدم المسلمين زمنيا على غيرهم في تشييد الجوامع العلمية، فأول صرح علمي جامعي تأسس في الغرب كان المجمع البولوني (Bologna) في باريس في القرن السادس الهجري ومجمع مونت پلير الفرنسي (Montpellier) واكسفورد (Oxford) في القرن السابع الهجري.

وتعرضت حاضرة كربلاء العلمية الى مد وجزر، وكان آخر مدرسة شيدت فيها قبل سقوط نظام صدام حسين (ت 2006 م) في 9/4/2003 هي مدرسة السيد الخوئي التي شيدها السيد أبو القاسم الخوئي (ت 1413 هـ) في العام 1395 هـ، وآخر مرجعية دينية هي مرجعية السيد محمد الشيرازي (ت 1422 هـ)، لكن كربلاء المقدسة راحت تستعيد عافيتها العلمية منذ دخول العراق في عصر الديمقراطية التمثيلية منذ العام 2003م.

 

على ضفتي دجلة

والى شمال كربلاء على بعد نحو مائة كيلو متر شيد المنصور العباسي (ت 158 هـ) مدينة بغداد عام 145 هـ، وأخذت المدينة تعمر علميا، وقد سكنها المسلمون سنة وشيعة، وحسب ما يقول المؤرخ السيد محسن الأمين وهو يتحدث عن الخارطة السكانية للعراق، فان: "التشيع في بغداد قديم من حين إنشائها، فان التشيع كان قد انتشر في أقطار الأرض وكانت محلة الكرخ في عهد العباسيين كلها شيعية وكثر التشيع في بغداد في عصر البويهيين"، ولازالت بغداد الى يومنا هذا تمثل خليطا من الشيعة والسنة، يمثل الشيعة العرب نحو 82 بالمائة من سكانها حسب تعداد نفوس العام 1987م، في بلد يشكل فيه الشيعة نحو أربعة أخماس الشعب العراقي كما يقول الرحالة الفرنسي فيكتور بيرار (Victor Berard) (1864-1931م) الذي زار العراق في العام 1907م.

واستقر في بغداد أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي (ت 150 هـ) وفيها مات، وسكنها احمد بن حنبل (ت 186 هـ) وفيها مات، وفي جانب الزوراء مرقد الإمامين موسى الكاظم ومحمد الجواد، وراح علماء الكوفة يرحلون صوب بغداد، ويميل المحقق الكرباسي ان جامعة بغداد العلمية: "حافظت على تقدمها العلمي بفضل دعم العباسيين للعلم وحبهم لانحصار التفوق العلمي في عاصمة ملكهم وعدائهم لأهل البيت (ع) خوفا من زعزعة ملكهم". ولكن مع هذا فقد برز علماء الشيعة ومراقدهم المتوزعة في بغداد على ضفتي نهر دجلة (كرخ ورصافة) شاهد على ذلك، حيث كان نفوس شيعة بغداد في بداية القرن الخامس الهجري نحو أربعة ملايين شخص تعرضوا الى فتنة طائفية وإبادة بشرية مع سيطرة السلاجقة على الحكم في بغداد.

ويسجل المحقق الكرباسي ملاحظة مهمة على طبيعة المواد الدراسية في مدارس بغداد وغيرها، فيرى ان المدارس الإمامية امتازت عن غيرها بتدريس فقه المذاهب الإسلامية الى جانب الفقه الإمامي: "وعلى هذه السيرة سارت كل الحوزات والمجامع العلمية الى يومنا هذا في كل من العراق وإيران ولبنان وسوريا وغيرها وهذا دليل العافية لابد من الالتزام بها".

ويتوقف المؤلف عند حاضرة النجف الأشرف بوصفها واحدة من الحواضر العلمية التي تركت بصماتها في واقع المسلمين، وانتعشت مجالسها العلمية في عهد الدولة البويهية، وسطع نورها العلمي بتوطن شيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي (ت 460 هـ) فيها عام 450 هـ حيث دفعته النزعات الطائفية الى الهجرة من بغداد بعد ان احرقوا مكتبته العامرة، ومن هذا الوقت بدأت الحركة العلمية في النجف الأشرف تتوسع بشكل مضطرد، ثم يخبو ضؤوها ثم تعود من جديد.

ويشار الى أن الشيخ حسين بن خليل الخليلي (ت 1326 هـ) هو أول من تزعم الحركة العلمية في النجف ممن ولد ونشأ ودرس فيها، يليه في المواصفات السيد محسن بن مهدي الحكيم (ت 1390 هـ). وأصاب النجف ما أصاب كربلاء في عهد نظام صدام حسين، بخاصة في العام 1991م عندما تعرضت عشرات المدارس العلمية في المدينتين الى التدمير أثناء انتفاضة الشعب العراقي، فضلا عن اعتقال وإعدام المئات من العلماء وطلبة العلوم الدينية، وإبادة عشرات الآلاف من سكان المدينتين المقدستين.

ويتابع المحقق الكرباسي التطورات العلمية في مدينة الحلة الفيحاء التي تمصرت في العام 495 هـ على يد سيف الدولة المزيدي (ت 501 هـ)، وقد بدأ عصرها العلمي الزاهر بابن إدريس الحلي عام 560 هـ، الذي: "كان قد أخذ من علماء كربلاء والنجف وأصبح علماً يشار إليه بالبنان حيث كان مجدداً للنهضة العلمية بعدما أصابها الركود بوفاة الشيخ الطوسي – الحفيد - عام 540 هـ"، وانتهى العهد الذهبي للحلة عام 980 هـ وكان أوج تألقها أيام المحقق الحلي (ت 676 هـ).

 

سامراء تعاتب علماءها

أما سامراء التي دخلها المسلمون عام 16 هـ، فان حاضرتها العلمية انتعشت في النصف الأول من القرن الثالث الهجري، وكان للإمامين علي بن محمد الهادي وابنه الحسن بن علي العسكري (ت 260 هـ) دور كبير في نهضتها العلمية، لكن عودة العاصمة الى بغداد عام 256 هـ وغيبة الإمام محمد بن الحسن المهدي المنتظر عام 260 هـ أضعفها. ولكن الحياة رجعت إليها في عهد السيد محمد حسن الشيرازي (ت 1312 هـ) الذي سكنها عام 1291 هـ وأنشأ فيها المدارس العلمية، وقصدها الأدباء والشعراء والساسة وطلبة العلوم.

ولم يستمر الأمر طويلا، فقد انتكست برحيله، ورحيل العلماء عنها وتوزعهم على المدارس العلمية في النجف وكربلاء والكاظمية، واعتقد ان التجاذبات بين هذه الحواضر لكسب مدرسي وطلبة حاضرة سامراء، أفرغ سامراء من مدرسة أهل البيت وجعلها يتيمة مما ساعد القوى التكفيرية على العبث بالمرقدين العسكريين والاعتداء على شيعة أهل البيت (ع)، حيث أقدمت قوى الظلام التكفيرية في 22/2/2006، على تدمير المرقدين الشريفين وإسقاط القبة الذهبية، ثم عادت في 13/6/2007 لتكمل ما خربته في الأولى فأسقطت المنارتين، ولا يخفى ان هذا الحقد الدفين هو الذي جعل معظم الحواضر الإسلامية العلمية تصبح في خبر كان، وتضيع معها العلوم بعد ان تضيع مكانة العلماء وأرباب العلم، في حين تتقدم المجتمعات التي تحترم العلم والعلماء، وليس الغرب عنا ببعيد زمانا ومكانا، فهو يعيش بين أظهرنا بعِلمه وعسكره ونعيش بين أظهره بجهلنا وقتلنا لكل فضيلة بمعاول التكفير ومقاطعة عصر النور والتنوير. وهنا يعبر الفقيه آية الله الكرباسي عن مرارته لما آلت إليه المدينة المقدسة: "فقد كانت سامراء وكأنها تعتب على فقهاء الإمامية حيث تركوا جوار إمامين من أئمتهم طيلة قرون متمادية رغم وجود مركز غيبة إمام زمانهم"!

 

حاضرة بلاد الشام

مع فتح المسلمين لدمشق عام 13 هـ، وانتقال عاصمة المسلمين من الكوفة الى دمشق على عهد معاوية بن أبي سفيان وانتقال عدد من الصحابة والتابعين إليها، أخذت مدرسة دمشق العلمية رونقها بخاصة بعد ان شيد الوليد بن عبد الملك الأموي (ت 96 هـ) الجامع الأموي عام 88 هـ، وظلت حلقات العلم قائمة حتى القرن الثامن الهجري، وكان نواة المدرسة الإمامية العلمية قد غرست في دمشق في القرن الرابع الهجري، وكان للدولة الحمدانية والمرداسية والفاطمية والعمارية وغيرها أثرا في خلق هذه الأرضية.

 وبعد انقطاع طويل للمدرسة الإمامية عن دمشق أعاد السيد محسن الأمين الحياة إليها من جديد بعد ان سكن دمشق عام 1319 هـ، وفتح فيها عددا من المدارس العلمية، وبعد سبعة عقود من ذلك نزل السيد حسن الشيرازي (ت 1400 هـ) بيروت في العام 1390 هـ، وبعد ثلاث سنوات التحق به المؤلف الشيخ محمد صادق الكرباسي، وفي العام 1395 هـ أسسا الحوزة العلمية الزينبية في ضاحية دمشق لاستيعاب طلبة العلوم الدينية الذين أبعدهم نظام صدام حسين من العراق، وكان المؤلف أول مدير لها وواضع برامجها الدراسية، ولازالت الحوزة قائمة حتى يومنا هذا، ولها الدور الكبير في تشجيع عدد من العلماء من لبنان والعراق وإيران على فتح أكثر من عشرة مدارس علمية في ريف دمشق للطلبة والطالبات.

والى جانب دمشق شهدت حلب التي فتحها المسلمون عام 15 هـ حاضرة علمية، وبخاصة في الثلث الأول من القرن الرابع الهجري عندما اتخذها الحمدانيون عاصمة لهم، ثم انحسرت الحركة العلمية الإمامية بعد رحيل الدولة المرداسية عام 472 هـ.

وأقيمت حاضرة علمية في مدينة طرابلس الشام التي فتحها المسلمون بعد عام 23 هـ، وازدهرت طرابلس علميا في عهد الدولة العمارية التي انتهت عام 502 هـ، ولكن بقضاء الصليبيين على دولة بني عمار انتهى دور طرابلس العلمي.

وازدهرت مدينة القدس الشريف التي دخلها المسلمون عام 15 هـ، حيث ورد عليها الأصحاب والتابعون واقتفى أثرهم العلماء والفقهاء، وأقيمت فيها عشرات المدارس العلمية.

أما في جبل لبنان، فإنها من المناطق التي توطن فيها العلم والعلماء، ودخلها التشيع بفعل إبعاد الصحابي أبو ذر الغفاري (ت 32 هـ) إليها، وعلى مدى التاريخ هاجر إليها العلماء. وينبه المحقق الكرباسي الى التأثير الواسع الذي تركه علماء جبل عامل على الحواضر العلمية في العالم الإسلامي، حيث كان لهؤلاء العلماء: "دور في تنشيط وإحياء الحركة العلمية في مركز كربلاء وأصفهان والحلة ومشهد والنجف وبعلبك ودمشق وغيرها".

وفي بعلبك التي دخلها المسلمون عام 14 هـ، قامت حاضرة علمية، وبخاصة في القرن السادس الهجري، وكان الفقيه الشهيد الثاني زين الدين العاملي (ت 965 هـ) في العام 953 هـ يدرس فيها الفقه على المذاهب الخمسة: الإمامية، الحنفية، المالكية، الشافعية، والحنبلية، ويفتي أهل كل مذهب بما يوافق مذهبه. ويعد القرن الثامن الهجري العصر الذهبي لمدينة بعلبك، حيث ترجم لها ابن حجر العسقلاني (ت 853 هـ) لأكثر من 160 عالما في هذا القرن.

 

أول جامعة في العالم

وتعتبر مصر التي فتحها المسلمون عام 20 هـ واحدة من أهم الحواضر العلمية في شمال أفريقيا، وبخاصة على عهد الدولة الفاطمية التي اهتمت بالعلم والعلماء وتشييد المدارس العلمية والمكتبات العامة، ويشهد عليهم جامع الأزهر الذي سمي تيمنا باسم السيدة فاطمة الزهراء (ع)، ولشدة اهتمامهم بالعلم فإنهم رصدوا للمدارس العلمية وللطلبة والمدرسين نحو 430 مليون درهم سنويا واستقطبوا الأساتذة من كل مكان.

ويذهب المحقق الكرباسي الى التأكيد ان جامع الأزهر شهد في العام 378 هـ وضع اللبنة الأولى لإقامة معهد للدراسة المنتظمة يؤسس لأول جامعة حقيقية، وشهد العام 395 هـ قيام أول جامعة إسلامية كبرى، وعلى مستوى العالم كله، ومن مميزات هذه الجامعة العلمية الحضارية: "أنها فتحت باب التسامح على مصراعيه بالنسبة الى المذاهب الإسلامية الأخرى، فكان للمالكية في الأزهر خمس عشرة حلقة، وللشافعية مثلها، وللحنفية ثلاث حلقات"، ولكن هذا التسامح المذهبي انهار مع انهيار الدولة الفاطمية عام 567 هـ على يد صلاح الدين الأيوبي (ت 589 هـ).

وشهدت تونس قيام حاضرة علمية لأتباع المذاهب الإسلامية، وكان في القيروان مجموعة كبيرة من أتباع مدرسة أهل البيت (ع) لكن العنف الطائفي أتى عليهم نسلا وحرثا، حيث يقول ابن الأثير (ت 630 هـ) في الكامل في التاريخ: 7/294 في حوادث عام 407 هـ، أن الشيعة تعرضوا لإبادة جماعية حيث: "حصرهم العامة وضيقوا عليهم فاشتد عليهم الجوع فأقبلوا يخرجون والناس يقتلونهم حتى قتلوا عن آخرهم"!

وأقيم في تونس جامع الزيتونة في العام 114، وتحول في العام 627 هـ في عهد حكم الحفصيين (698-647 هـ) الى جامعة كبرى، واستمرت على نمطها القديم في التعليم حتى تحولت في العام 1370 هـ الى جامعة أكاديمية حديثة على غرار ما حدث في جامعة الأزهر.

وفي المغرب أقيم جامع القرويين ليتحول بعد فترة الى جامعة علمية كبرى، وقد بلغت جامعة القرويين أوج عظمتها العلمية في عهد الدولة المرينية (592-956 هـ)، ومن عظمة هذه الجامعة أن إلتحق بها غير المسلمين من نقاط بعيدة مثل البابا سلفستر الثاني (Pope Sylvester II) الذي تولى البابوية في روما لأربع سنوات من عام 999م حتى وفاته عام 1003م، وهو أول فرنسي يتولى البابوية، وكان من قبل قد درس في جامعة قرطبة العلمية.

وفي الضفة المقابلة للبحر الأبيض المتوسط أقيمت في قرطبة العاصمة السياسية والعلمية للأندلس، جامعة علمية كبرى، كان من الدارسين فيها البابا سلفستر الثاني أيضا. وفي العام 627 هـ اتخذت دولة بني الأحمر من غرناطة عاصمة لهم، فازدهرت بالعلم والمعرفة، وفي العام 750 هـ شيدت أول مدرسة علمية في الأندلس. وفي بعض الفترات كانت حاضرة اشبيلية العلمية في البرتغال تضاهي حاضرتي قرطبة وغرناطة.

 

مأسسة الجهاز التعليمي

يعتقد المحقق الكرباسي ان الإسلام دخل قلوب الفرس في عهد الرسول الأكرم محمد (ص) في حين دخل الإسلام أراضيهم على عهد الخليفة عمر بن الخطاب (13- 23 هـ). وشهدت إيران والدول المحيطة قيام جامعات علمية كبيرة، ويشار الى الوزير السلجوقي نظام الملك الطوسي كواحد من الوزراء الذين شيدوا المدارس في المدن الإسلامية، ويرى الشيخ الكرباسي ان هذه المدارس والرغبة في دمج فقه المذاهب الأربعة في برنامج دراسي واحد: "بادرة أولى نحو مأسسة الجهاز التعليمي في الاتجاه الفقهي في عصور مبكرة لم تعرف هذا النوع من الشبكات العلمية الموحدة المنهجية والأهداف إلا في منتصف القرن الرابع عشر الهجري عندما حاول بعض المثقفين إنشاء جامعة إسلامية من خلال شبكة تعليمية موحدة في الحجاز إلا أنها باءت بالفشل".

ويشرع الكتاب بتتبع النهضة العلمية في مدينة ري التي دخلها الاسلام عام 23 هـ، وهي اليوم من ضواحي طهران الجنوبية. وينتقل الى الحديث عن قم المقدسة التي دخلها الاسلام عام 23 هـ وسكنتها العشائر الكوفية الهاربة من طغيان الحجاح بن يوسف الثقفي (ت 95 هـ)، ويشار ان الشيخ عبد الكريم الحائري (ت 1355 هـ) الذي سكنها عام 1340 هـ اعاد لها الحياة العلمية وأنعشها، وازداد بهاؤها العلمي بعد انتصار الثورة الاسلامية في ايران عام 1979م، حتى: "أصبحت اليوم اكبر جامعة علمية على الاطلاق للشيعة الامامية"، كما: "تعد هذه المدينة المقدسة اليوم المركز الأول عند الإمامية من حيث تعدد المرجعيات الدينية فيها".

والى شمال طهران تقع مدينة قزوين التي دخلها الاسلام عام 24 هـ، وهي واحدة من الحواضر العلمية الشهيرة، ضمت عشرات المدارس: "وبقيت هذه المدينة بحاضرتها العلمية معطاءة حتى منتصف القرن الرابع عشر الهجري إلا ان جذوتها طفت لتشع بأبنائها في حواضر اخرى في ايران والعراق".

وتعد مدينة إصفهان التي دخلها الاسلام عام 19 هـ واحدة من الحواضر العلمية الشهيرة، ومن شدة تعلق اهلها بالاسلام سعوا الى تعلم اللغة العربية حتى سادت، وتعرضت اصفهان كاخواتها الى مد وجزر، وقد انتعشت في عهد الشيخ محمد ابراهيم الكرباسي (ت 1261 هـ) احد اجداد المؤلف.

كما تعتبر مقاطعة خراسان من المقاطعات التي نشأت فيها حواضر علمية، بخاصة في مركز المقاطعة مدينة مشهد التي تضم مرقد الامام علي بن موسى الرضا (ع)، حيث شهدت في عصره نهضة علمية كبيرة. ومن مدن خراسان مدينة نيسابور او نيشابور التي فتحها المسلمون عام 31 هـ حيث مرت بفترات ذهبية كان يشار اليها بالبنان، لكن الصراعات المذهبية في بعض الفترات أتى على مدارسها وصوامعها العلمية حرقا وتدميرا. ومن مدن ايران العلمية مدينة يزد حيث نشطت فيها الحركة العلمية منذ القرن الثالث الهجري وحتى القرن الثاني عشر الهجري وكان للشيخ محمد جعفر الكرباسي (ت 1150 هـ) احد اجداد المؤلف دور كبير في نهضتها العلمية.

والى جانب ايران التي دخلها الاسلام عام 14 هـ، فهناك حواضر علمية اقيمت في دول الجوار مثل الهند وباكستان وافغانستان والبنغال وبلاد ما وراء النهر، فعلى سبيل المثال فان مدينة بخارى التي تقع اليوم في دولة اوزبكستان كانت من مراكز الثقافة والعلم وكانت عامرة بالعلماء والشعراء وذوي الفضل أمثال البخاري (ت 256 هـ)، والطبيب الرازي (ت 313 هـ)، والشيخ الرئيس ابن سينا (ت 428 هـ).

وألحق المؤلف في خاتمة الكتاب عشرات الفهارس في أبواب شتى، مع قراءة نقدية بقلم الاستاذ السابق في جامعة كابل بأفغانستان المرحوم البروفيسور عبد الأحمد جاويد، ثمّن فيه عمل: "مؤلف دائرة المعارف الحسينية العالم الكبير والشهير آية الله محمد صادق الكرباسي"، مؤكدا في الوقت نفسه أن: "هذا العالم الكبير أتى بعمل ليس له من نظير"، مجريا مقارنة مع عدد من الموسوعات لينتهي الى القول انه: "اشتهرت في تاريخ التشيع موسوعات، من قبيل الفهرست للشيخ حسين الطوسي وأعيان الشيعة لآية الله السيد محسن الأمين، ولكن هذه الموسوعات تفوق كل الموسوعات من حيث الحجم".

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com