مقالات

فوانيس لا تعرف الضياع

عقيلة آل حريز

كانت أمه تلبسه ملابسه الجديدة وتعلق خراجه الذي صنعته له وزينته بأشرطة الصوف الملونة حول عنقه، همست في أذنه بحب توصيه أن يمرح مع رفاقه وأن لا يبتعد كثيراً... ولم تنسى أن تطلب منه أن يتمنى من الخير أكثره، فعلى باب الله يقف الفقراء هذه الليلة، لأن أبواب الرزق فيها مفتحة والكائنات تحتفل لتنسج ذكرى فرح تحتفظ بطعمها ...

 خرج مع رفاقه تتقافز خطواته مع سكون الليل الباكر، وجد نفسه وسط شارع طويل يتحرك فيه بحرية مع فراشات صغيرة  تبحث عن ألفة الفرح، وبلحن هادئ كانت تتغنى بتمايل ينعكس مع إيقاع فلكلوري جميل، تتراقص حول ضوء ممتد بعطر ينبعث من أبواب البيوت تسبقها أبواب القلوب لتتلقاها.

 ناصفة حلاوة       على النبي صلاوة

 تسابقوا مسرعين ينشدون أهازيج جديدة تتقافز ألحانها على ألسنتهم ببريق يشبه جدة ملابسهم الملونة بل أبهى...  كانوا يدورون حول بيوت الحي وأزقته الضيقة، يزرعون روح العطر بأنفاسهم أينما حلوا، يجمعون الحلوى ويتباهون بكثرتها في أكياسهم، وكانت الأضواء تقودهم في ظلمة الليل لأهدافهم فثمة منازل تمتاز بعطاء أوسع عن غيرها يسابقون بعضهم في الحصول على النقود.

 وفي غمرة جو الفرح تمازح الصغار في لحظات مشاكسة متوارية  تتبعثر في سنين طفولتهم الخجلة، فتشابكت أيديهم في أكياسهم ببراءة وادعة، فحُل رباطه من عنقه وهم يتداعبون فتبعثرت حلواه من كيسه، انحني ليلتقط بعض الحلوى المتناثرة على الأرض، لم ينتبه لمكوثه الطويل هكذا فاختفي رفاقه عنه.. ثمة شيئ يشده للبعيد، يغريه لأن يستكشفه، تاه عنهم بعيداً.. لم يستطع تتبع أثر أصواتهم.. توقفت خطواته خارج حدود قريته فظل طريقه عنهم.

 لم يبق شيء من صورهم  في ذاكرته، غير أكياس مطرزة ممتلئة في انتفاخ ظاهر بقطع الحلوى واللوز والفستق، وبقايا من أسوار الحي القديمة يلتف حولها رجال يفترشون سجاجيدهم، ومسابحهم تدار في أصابعهم بخشوع في صلاة كانت تراتيلها تعبق بالمسك.

 بدا الظلام كثيفا فلم يستطع رؤية هوية المكان جيدا، توقف الهمس  فجفل مكانه و توسط الرعب قلبه، شعر بالذعر يتسارع في نبضه وهو لا زال واقفاً على أبواب بعض الخرابات في أطراف حيهم القديم، نادى أصدقاءه ليتداركوه، لكن لا أحد منهم كان يسمع نداءه...

  رجه صوت الصدى، فانزوى في مكانه باكيا يدعو أن يعود لأصحابه سالماً، وتذكر كلمات أخرى كانت والدته قد حدثته عنها في هذه الليلة وعن حياة كان الناس يعيشونها في أكواخ فقيرة

كما حدثته عن ليلة تتزين بفوانيس تكسر الجوع.. فوانيس توقد من لون الشمس يعلقها الليل بجيده فتنعكس بهجتها في وجوه الصغار، وعن قصص وحكايات أخرى تحدث للناس، أو حدثت فعلاً فلم يعرفها أحد، كان يستعرضها ويتوسم منها أنس يقطع به حبل الوحشة التي تسللت إليه فجأة. 

توسلت ملامحه السكون المنطفئ من حوله، فارتسم الحزن داخل روحه المرحة، حدثته نفسه وهو ما زال ينتظر أن يستنير طريقه بحكايات وقصص كثيرة متداولة، فوقف بقامته المتضائلة يعيد نسج الأسئلة من حوله  :

  يقولون أن النور يمشي على قدمين في هذه الليلة...

يقولون أن حياة البؤس ستندثر...

يقولون أن الحق سيظهر بوجوده، وأن هذه الليلة تخلد ذكرى عبقة لولادته  الطاهرة...

يقولون أن ظهوره سيملأ الأرض قسطا وعدلاً بعد ما ملئت ظلما وجورا... ويقولون أن هاتيك البيوت الضعيفة ستمتلئ بالضحكات الرنانة، وأن جوعها سينكسر وأنه سيخرج كنوز الأرض وخيراتها من مخابئها، وسينتشر العدل والحب والسكينة والسلام.. 

يقولون أن لا فقير ولا غني سيتمايز فجغرافية سكانها ستتغير، ولن يبقى للظالم سلطان على رقاب المستضعفين... 

عاد ينادي بعد أن بدأ صبره ينفذ : 

   - يا إلهي أعدني لرفاقي سالما..

 مكث ملياً حيث هو، حتى تراءت له شعلة ضوء من بعيد، فسمعته أصداء الفطرة كومض البرق، تهتف بشعاع الأمل داخل قلبه ، فاقترب منه أكثر، كان يدير رأسه الصغير في أرجاء المكان ويلتفت يبحث عن رفاقه الذين ابتعدوا عنه.

 على حافة الطريق وجده واقفاً ينتظر، بدا له من أول وهلة رجل جليل، خطواته تستند هيبة يعكسها وجهه الباسم كضوء القمر، يحمل فانوسه بيده، يوزع ابتسامته وفي يده الأخرى خراج حلوى يمتلئ بقطع الحلوى.. جفل منه أول الأمر، لكن الاطمئنان غزا قلبه كوميض البرق الخاطف.. مد طرفه نحوه، تأمل نظراته الدافئة وبياض كفيه الظاهر.. استكان بهدوء حين صافح خطواته تكنس الدرب نحوه بسكينة فاستجمع شجاعته وأقدم يخاطبه مرتجفا :

   - يا أيها الرجل الجليل، ارني الطريق فقد ضللته، افعل ذلك من أجلي يا سيدي...

ثم أشار بيده نحو البعيد وتابع يقول :

  - أصحابي تباعدوا عني وتوزعوا خلف البيوت، كنا نلهو معاً فتناثرت الحلوى على الأرض ووجدت نفسي هنا بعيداً، وأريد أن أعود لهم فأمرح في هذه الليلة ففيها تبتهج القلوب.

 اقترب منه الشيخ، تفحصه ملياً وقرب منه فانوسه وطمأنه، نثر في وجهه ابتسامة دافئة، أسكن روعه بطمأنينة، أعطاه بعضاً من قطع الحلوى... وهو يشير للطريق أمامه قائلاً :

   -  لا تخف يا بني  ففي داخلك يغتسل النقاء، واعلم أن بعض الحقائق تستظل بالحلم حتى يحين وقتها فتكون.. ذاك هو الطريق الذي جئت منه.. هل تراه جيدا ؟ هل تحسه ببصرك ؟ اذهب إليه إذاً.

 خطوات فقط هي التي مشاها الصبي مبتعداً يراقب اكتمال البدر في كبد السماء، ظن أنه يعتلي تلك النجوم من حوله فكأنه يحدثها وتضاحكه، وأخيراً التفت ليجد نفسه وسط رفاقه 

 عاد إليهم وهو يبتسم وفي يده قطع حلوى يحسبها من حلوى الجنة، عاد يتدفق مع أصحابه يضيئون ليل النصف من شعبان وهو يغني معهم  ويشدو أزوجة منتصف شعبان ويشكل نغماتها فوق سلم موسيقي حلو الألحان

 ناصفة      حلاوة    

 على النبي     صلاوة

ناصفة     حلاوة     

   كريكشون
حلوا الكيس واعطونا   وعطونا وعطونا
الله يسلم وليداتكم   سالمين غانمين
ناصفة    حلاوة

كريكشون

 كلمات الرجل كانت تنقش نفسها بداخله في سجل احتفظت ذاكرته بمغزاه مع تقادم الأيام، وكان إيقاعها أشهى حتى من قطع الحلوى التي حصدها فيما بعد، اقسم أنه سمع كل ذلك منه، وظن أن ما حدث معه ليس مجرد صدفة... مازال طيف تلك الليلة متقد في ذاكرته يزوره كلما مرح في ذاكرته نشيد طفولي ينتصف ليلة شعبان يحمل للناس فوانيس لا تعرف الضياع...

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com