مقالات

كيف إبتكر (هنريك أبسن) عوالم شخصياته؟

سعد السعدون

تعتبر عوالم الكتابة للمسرح متشعبة ضمن خيوط تشتبك في عملها لتشكل قاعدة الوعي التي ينطلق منها المؤلف المسرحي الذي يريد الإبحار فيها بعمق معرفي إبداعي، وربما تبدو بسيطة وممكنة لمن يحاول إستسهالها عبر إنتاج نصوص تفتقد إلى معايير الجمال الخالصة التي عادة ما تشكل بؤر الاستنطاق المعرفي، فالتجربة الإبداعية تختلف في تكوينها عن التجارب الإبداعية الأخرى فلا تكفي الثقافة والوعي وإنما تعتمد أيضا ً إبداعية شمولية تسهم في تأسيس ما يسمى بالأطر البنائية والعلمية التي تأخذ من مبتكر المسرحية الكثير إذ أن البنائية لا تعني الفلسفة الشعرية وعوالم الصور الأدبية المعبرة، ولا تعمل بدلا ً عنها وإنما تؤطرها بحرفية فنية عالية وهكذا سيبقى المؤلف المسرحي قديما ً وحديثا ً بحاجة إلى الحرفية كالصناع والبنائين ولأهمية دوره يبقى الإنسان هو مركز البحث في دائرة البناء المسرحي الحديثة التي تشمل تراكم التاريخ الجمعي للحياة وحاضرها والرؤية الشمولية الفلسفية ودراسات حيثيات التركيب الذاتي لتلك الشخصية، وبهذا وغيره يكاد يكون كتٌاب المسرح الأقرب دوما ًإلى علم النفس، كما هم الأقرب إلى الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع ووسيلتهم هي تكثيف القدرة الشعرية لإنتاج صور فيها الظلال الكثير والعميق في حين يكتفي سطح الأحداث التي تتجاذب فيه الشخصيات على سبيل المثال ( أجزاء الحوار اليومي ) وغيره من مهرجان الواقع اليومي للإنسان، وهذا ما ينبغي على المسرحي إكتشافه وما ينبغي على المتفرج ( الطرف الثاني في المعادلة ) إضافة علاقة معه مهما كان شكلها وهي أًصيلة ( ذات ) وكما يقول الكاتب الإيطالي المعروف ( لكل شيخ طريقة ) إذن فكيف وصل الكتاب المسرحيون ومنهم الكاتب الكبير هنريك أبسن في تجربته إلى ذات الإنسان ؟ ما يمكن استنتاجه من طبيعة نصوصه التي مازالت خالدة ليومنا هذا، إنه يذهب إلى هذه الذات المفترضة بواقعية شفافة حيث يطرق عليها بأحداث مركبة يبتدعها للحكاية ثم يفتح له أبواب الصندوق الذات بذكاء حاد يدخل إلى تلك الذات ليحدد أبعادها وكيانها، ومن البديهي أن الكشف الإبداعي يولد إنسجاما ً حتميا ً بين الذات والموضوع وذلك ينطبق على التجارب الكلاسيكية والحديثة، ولو تأملنا في ما اشتغل عليه المبدع في مجال الكتابة المسرحية نجد أنواعا ً من البناء الدرامي فمنهم من يهتم بالحكاية أولا ً ومن ثم يرسم الشخصية داخل اطار تلك الحكاية والهدف عليه أن يتسلل إليه داخل البناء ليؤسس طقسه المسرحي وقد يذهب البعض إلى ذلك لتأثره إلى البناء الواقعي الدرامي ويمكن الإشارة بوضوح إلى فكرة ( الذات ) في أساسيات في المدرسة الواقعية بما فيها من إنقلابات من شأنها أن تغير أطر الحدث وفي هذا الاتجاه يبرز إسم المسرحي النرويجي العملاق كما يسميه النقاد ( هنريك أبسن ) الذي أستوحى نظرية الكتابة المسرحية من عدة مصادر وكان أبرزها الواقع الاجتماعي السائد في عصره الذي حمل الكثير من المظاهر السلبية التي كانت حافزا ً لمحاكاته عبر خطاب فني واقعي شفاف كما أن بناء الكاتب السيكولوجي والمتمثل في نظرته للأشياء والعصامية التي كان يتمتع بها وهو يتخذ المواقف حيال مختلف القضايا، وكذلك نزعته الفردية في قياس الحالات فهو كان يرى أن الفقراء بحاجة إلى العدالة لا إلى الشفقة فضلا ً عن كونه كان مثاليا ً لدرجة متطرفة وقد تجلى ذلك في عبارته المشهورة ( أما الكل وأما فلا ) ومن هنا جاءت مسرحياته التي نالت شهرة عالمية والتي أثارت في الوقت نفسه ضجة كبيرة لتطرقها لمواضيع حساسة تتعلق في ( الدين، الأخلاق، العلاقات الاجتماعية ولاسيما الزوجية ) جاءت لتكشف عن خبايا الواقع المعاش الذي يعاني من جملة مفاهيم مختلة، وأبسن بوصفه كاتبا ً يؤمن بالديمقراطية حتى النخاع كان يطرح رؤآه بوسائل فنية مختلفة فقد برع في تحليل شخصياته من الناحية النفسية مبرزا ً بذلك الصراعات الداخلية للذات الإنسانية عبر ثنائية الرغبة والإرادة بدء ً بمسرحية بيت الدمية والبطة البرية ووصولا ً إلى مسرحيته دعائم المجتمع وهو ما جعل النقاد والمحللين يلقبونه ب ( فرويد المسرح العالمي ) ولعل أبرز ما يميز أعماله هو احتفاظها بحداثتها وملاءمتها للتقديم حتى يومنا هذا نظرا ً لطبيعة موضوعاتها وأفكارها وأسلوبها في الطرح، واليوم وبعد مرور مئة عام لازال العالم يحتفي بالأديب الشهير هنريك أبسن فكل عام نشهد العديد من الاحتفالات التي تنظمها المراكز الثقافية والجامعات الفنية والمتاحف والمكتبات العريقة حيث يتم تقديم العديد من أعماله على خشبات هذه الأمكنة وسط حضور رسمي وأكاديمي، ولابد من الإشارة أن أبسن على الرغم من إنتاجه للنص المسرحي الواقعي إلا ان نصه لا يخلو من عنصر الشعرية ذلك لأن هنريك أبسن كان شاعرا ً كبيرا وله مجموعة شعرية ومن المؤكد أن تلقي تجربته الشعرية تلك بظلالها على بنية نصه المسرحي.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com