مقالات

الحنين الى مدن أحببتها

كربلاء مدينة القداح والقباب الذهبية

سناء صالح / هولندا

حينما توجهت الى مدينتي كربلاء في أواخر 2003 كنت أستعجل أخي الذي جاء لاستقبالي بالسرعة لرغبتي العارمة التي تمنعني من الانتظار، أخيرا سيتحقق الحلم الذي آنس ليل غربتي البارد. هاهي المدن الصغيرة التي كنت قد مررت بها آخر مرة وأنا أغادر الوطن هربا من حملة شرسة كانت توجه ضد كل من يحمل فكرا وطنيا رافضا للذل والدكتاتورية والتبعيث، مع صغار فرضت عليهم أن يعيشوا غرباء عن أهاليهم وأصدقائهم. في الطريق الى المحمودية كانت مساحات واسعة تغطيها بقايا الدمار والخراب و دبابات وشاحنات عسكرية يأكلها الصدأ، مرورا بالإسكندرية التي اتخذ شقيقي طريقا آخر غير معروف لدي للمرور بها، وهانحن نقترب من كربلاء وصلنا المسيب لقد تركتها بما يزيد علة العشرين عاما أفضل من اليوم كل شيء لم يتغير أعني عمرانيا لم يكن لهذه المدينة الشهيرة بجسرها الذي تغنى به ناظم الغزالي أي نصيب من الرعاية والاهتمام, الشوارع الترابية والبنايات الآيلة للسقوط محدودبة هرمة، فوضى عارمة، أصوات عالية تنبعث من محلات التسجيل لقراء الحسينيات والمقتل, ولا صوت لناظم الغزالي أو زهور حسين. اختناقات مرورية وباعة بعربات خشبية يزاحمون السيارات المتوقفة لساعات حتى نعبر الى الضفة الأخرى التي ستوصلنا الى كربلاء.وبعد فترة وجيزة بدأ قلبي يضرب بشدة فهاهي المنائر الذهبية والقباب تلوح عن بعد، ازداد توتري فها أنا على مقربة من لقاء أبناء أخي الذين لم أرهم من قبل، كيف سيستقبلون عمتهم التي يعرفون فقط اسمها، اغرورقت عيناي بالدموع، استحضرت كل الوجوه كم كان بودي أن يكون وجه أبي بينهم! عاتبت أبي في سري ألم يكن لقبلك المليء بالحنان القدرة على الصمود لعامين آخرين حتى تكتحل عيناي وعيناك باللقاء!! كفكفت دموعي ونظرت من خلال النافذة أنتظر أن تلوح بساتين كربلاء الغناء بخيراتها، صعقت! تساءلت أين البساتين التي تميزها لم أر غير أحجار تتراكم على بعضها لتشكل بيوتا أكلت خضرة المدينة وأضفت قساوة وقبحا. حينما دخلت بيتنا لم أجده ذلك البيت الذي تركته، فسنوات الحروب والحصار بدت شاهدا على مرحلة بالغة القسوة مرت بالأسرة من شظف العيش تعجز كل التقارير عن توصيفها، الجدران سوداء بسبب الجولة واللالة اللتان هما المصدران الوحيدان للطاقة. بحثت في الوجوه، قليلة هي التي أعرفها، أحسست بالغربة، فمعارفي من النساء لم تعد لي معهن لغة مشتركة يكتفين في أحاديثهن بالبسملة والحوقلة والتسبيح بمناسبة أو بدونها، بنت أخي التي لم تكن تجاوزت السابعة من عمرها ينبغي أن تذهب الى مدرستها بالأيشارب وأنا عمتها لم أرتد العباءة إلاّ في سن الرابعة عشرة في الخمسينات من القرن الماضي، وجوه متجهمة ولحى ودشاديش كل شيء يوحي بانعدام الرغبة وحب الحياة.

 قصدت أسواق المدينة، البضائع بأنواعها مبثوثة بعشوائية على الأرصفة وتتوسط الشوارع, المعروض من الملابس النسائية تنم عن أذواق لم أكن أعهدها في مجتمعنا الكر بلائي النسوي، شبيهة الى حد ما بملابس ساجدة طلفاح يوم كانت السيدة الأولى، بكشاكشها وألوانها الفاقعة، منظر عجيب غريب يصادفني لأول مرة في حياتي عربة يدوية أي بعجلات يدفعها العربنجي وفي العربة يرقد شاب في مقتبل العمر يتلوى ألما وقنينة المغذي في وريده يبدو أن هذه العربة أصبحت وسيلة النقل المألوفة في كربلاء خاصة في ذلك الوقت الذي كان يشهد اضطرابات وقتال بين الصدريين والبدريين، أيام الزيارة الشعبانية، وجوه غريبة لم أعرفها، قيل لي أن أغلب سكانها من المهاجرين من مناطق الجنوبية أيام الحرب العراقية الإيرانية إبان اشتداد حرب المدن.

فرمان من الممنوعات يخص السيدات مكنوب على أبواب الحضرة ممنوع الدخول بالجبة الشيطانية ( تسمية للحجاب الذي ترتديه النساء من أهل السنة )، ممنوع الدخول بدون جوارب رجال ونساء من العاملين بأيديهم عصي في بوابة الصحن الشريف، جدار فصل داخل الحضرة بين النساء والرجال، في رحلتي كنت أبحث عن مدينتي فلم أجدها.

كربلاء مدينتي التي ولدت فيها وفي حي يعد من أهم أحيائها لكونه مركز المدينة، حي يجمع مختلف الطبقات الأغنياء والموظفين والفقراء أما زقاقنا فهو يطل على أهم شارع في كربلاء وهو شارع العباس إذ شهد هذا الشارع كل الأحداث والتظاهرات والمناسبات.

في الربيع حينما تبدأ أشجار البرتقال تزهر لم يكن هناك أزكى رائحة من قداحها الذي يرافقك من مدخل المدينة.كنت أيام الجامعة حينما أزور أهلي أيام الخميس والجمعة كان لابد أن أفتح زجاج نافذة السيارة لأعب من الرائحة التي أعشقها فهي بالنسبة لي ماتتميز به هذه المدينة المقدسة القابعة على الفرات وفي الربيع كنا نحتفل ( بالسنزبدر ) وهو عيد يكمل عيد نوروز أو مايسمى كربلائيا( عيد الدخول ) حيث كنا نذهب الى البساتين مجاميع. غالبا ماكنا ندعى من قبل الجيران الذين هم بمثابة الأهل الى بستانهم العامر بالفواكه يضيفوننا بأكلة التمن باقلاء اللذيذ والروية.

أطيب فواكه الدنيا هي في كربلاء البرتقال والمشمش واللالنكي والرمان، كم كنت أفرح بسلال التكي المنسوج عليها الورد الجوري وهي تقدم إلينا من أصدقائنا من أصحاب البساتين لم أنس جلساتنا حول الصينية العامرة بالخضرة، وشربت النارنج واللبن الخضيض الذي كنا نبتاعه يوميا في الصيف من بائعة اللبن ( مردوسة ) دوندرمة الشعرية وحلويات نزهة الفرات

أجمل مافي كربلاء صباحاتها الندية المنعشة في قيظ تموز أو آب. وفي ليالي الصيف كانت السطوح النظيفة المغسولة المرشوشة بالماء، والأسرة الحديدية والشر اشف البيضاء والعباءات القديمة نلتحف بها، نرفع أعيننا الى السماء المرصعة بالنجوم نتسابق في عدها الى أن يأخذنا النعاس فننام. كم كانت رائعة التقاليد الرمضانية حينما كانت الصحون الملأى بأشهى المأكولات والحلويات تدور بين أهل الزقاق فيكون للجميع موائد عامرة. الزيارات للحضرة الحسينية أيام الخميس والعباسية أيام السبت. الأعياد التي كنا ننتظرها بفارغ الصبر لنركب العربات ( البلشقة )مستمتعين بجريها نصدح بالأغاني الشعبية المعروفة والمراجيح المصنوعة من جذع النخل والحبال المتينة.كنا رغم بساطة عيشنا سعداء.

أيام عاشوراء كنا نحجز أماكننا على سطح الأمام العباس نجلب بطانيات لنجلس عليها ومعنا زواداتنا من الماء والطعام، كل ذلك حتى نحظى برؤية التشابيه، وقبة القاسم والمشاعل ومواكب العزاء التي تتتابع، الشباب المزهوين بعضلاتهم المفتولة الراغبين في استعراض فتوتهم وجلب نظر الفتيات الحالمات بحبيب، أطرف مافي الأمر أن ابنة عمتي كانت تتطوع دائما لحجز المكان منذ الظهيرة وفي عز الحر والشمس عمودية على رأسها وما أن يحل المغرب وتبدأ مراسيم العزاء حتى تكون قد نامت ولم تر شيئا بسبب ( صكعة الشمس ).لاأستطيع أن أنسى مجالس العزاء الذي تقيمه العوائل الكربلائية (القرايات ) في رمضان وعاشوراء. في سن الخامسة عشرة كنت أحب أن أحضر هذه المجالس لأرى التنافس بين سيدات المجتمع الكر بلائي المخملي في الهاشمي والعباءة الفرنسية المعروفة بجودتها والبويمة المنشاة التي لا أعرف سر ربطها والروائح الفاخرة التي تنبعث منهن وطريقة اللطم الأنيقة التي لاتتعدى ملامسة الصدغين برقة والأهم من ذلك كله كنت أصغي الى الملة لأعود الى بيتنا أقلدها، وهي عادة تختار حسب الوضع الاجتماعي والاقتصادي لأصحاب المجلس فالملالي درجات، والملة مهما كانت درجتها فهي تقرأ القصائد وتقص الفاجعة بعربية ركيكة حيث يختلط المنصوب بالمجزوم، وأفضل فقرة في المجلس حينما يقدم الشاي مع نوع من المعجنات (الكماج ) ثم تطور بعد ذلك حسب ما سمعت الى تقديم الآيس كريم.

لم أستطع نسيان أيام الدراسة الثانوية والربل ( العربة التي يجرها حصان ) الذي كان يستأجره والدي لي مع مجموعة من الفتيات, والأكل المشترك في الفرصة والمقالب التي كنا ندبرها بعضنا للبعض الآخر، الصديقات اللواتي قضيت معهن أحلى سنين عمري، مدرساتي السفرات المدرسية،أيام الامتحانات النهائية التوتر والقلق ثم الفرحة بالنجاح، الضحكات الصافية وأسرار البنات دون سن الثامنة عشرة التي لاتتجاوز النظرة والأبتسامة لمعجب خجول.

كل الذكريات الجميلة عن مدينتي التي شوهتها الدكتاتورية والحروب كانت إحدى واحاتي التي لجأت إليها في المنفى الذي كان اضطراريا قبل أن يتهاوى النظام, الشوق اليها كان لصيقا بي، كانت كربلاء وما تزال في خاطري ووجداني عصية على النسيان، أحفظ دقائقها وتفاصيلها، شوارعها وأزقتها وأسواقها، رائحة العطر الذي يغمر مراقد الأئمة، أصوات المؤذنين التي تترك بي إحساسا بالشجن والخشوع، شخصياتها، عاداتها وتقاليدها، نهر الحسينية ورائحة الطين والأشجار التي تحيطه، أسواقها رائحة الشاي المهيل والأستكانات النظيفة التي تسبح في ماء صاف، روائح الأكل التي تنبعث من بيوت الجيران التي تشي بالمطبخ الكر بلائي المميز، لقد كانت كربلاء زادي في غربتي كلما هزني الحنين الى مدينتي الى أهلي وجيراني وأحبابي.

 

 ملحوظة : في زيارتي الثانية بعد عامين لم أتمكن من زيارة كربلاء لاشتداد الهجمات الإرهابية على الطريق المؤدي إليها فيما سمي آنذاك بمثلث الموت.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com