مقالات

جوهرة العراق " نازك الملائكة "*

د. شاكر الحاج مخلف / رئيس تحرير جريدة المدار الأدبي / الولايات المتحدة الأمريكية

النجمة العراقية المتلألئة

المدينة المشحونة بالأساطير وألوان المجد وحكايات شهرزاد تجتاز حرارة آب من عام 1923 عندما دقت أبواب الفرح لتعلن عن ولادة طفلة في أفياء بغداد سيكون لها شأن عظيم ، مجد العراق حفزها وهي أسلمت أمانيها وأحلامها للقدر الذي رسم لها مسيرتها من لحظة الولادة التي صارت تتكرر مع ولادة كل قصيدة حتى صارت راية عالية في ديوان الشعر والأدب العربي ، تدرجت في دراستها من الابتدائية إلى المتوسطة والثانوية التي تخرجت منها في العام 1939..

منذ صغرها رصد الذين أحاطوا بها ميلها الشديد إلى اللغة العربية والإنجليزية وكذلك علوم التاريخ والموسيقى ، كانت تهوى كثيرا علم الفلك وقوانين الوراثة والكيمياء، وتنفر كثيرا من دروس الرياضيات، وفي حقيقة الآمر أن نازك الملائكة كانت منذ بداية تفتح وعيها وهي تحلم بدراسة الآداب، وكان لها ما أرادت عندما دخلت إلى دار المعلمين العالية لتستكمل بلوغ حلمها الكبير باشرت الدراسة في فرع اللغة العربية وتخرجت في العام 1944 بعد حصولها على ليسانس الآداب من مرتبة الامتياز، وخلال سنوات دراستها تعرفت إلى موضوع الفلسفة ووجدت أن تلك العلوم تترك في نفسها ووعيها تحولا كبيرا، لذلك هي اندفعت لدراسة الكتب والمصادر المتعلقة بذاك العلم الواسع وتمكنت من تأسيس قاعدة معرفية هامة توضحت فيها الأسس التي تنطلق منها الفلسفة في تفسير وتحديد الظواهر والأشياء والمواقف، ساعدتها على تكوين ذهنها وترتيب منطلقاته وفق منطق جديد أتاح لها إضافة معلومات جديدة والاقتراب من أعماق ينابيع الفلسفة القديمة ، التي انعكست فيما بعد في أشعارها اللاحقة وأعطتها رؤيا ثاقبة وأحكاما فيها من الاتزان والحكمة الشيء الكثير.

 

الشاعرة الصغيرة

في سن مبكرة جدا ظهر على ميلها وموهبتها في نظم الشعر ، وكان ذلك بمثابة مفاجأة للجميع من الذين يتابعون تفاصيل حياتها آنذاك، تذكر في مذكراتها:" سمعت أبويّ، وجدي يقولون عني إنني شاعرة قبل أن افهم معنى هذه الكلمة، لأنهم لاحظوا عليّ التقفية وأذنا حساسة تميز النغم الشعري تمييزا مبكرا ، وبدأت بنظم الشعر العامي قبل عمر سبع سنوات " في سن العاشرة نظمت نازك أول قصيدة فصيحة وكانت في قافيتها غلطة نحوية، عرضتها على والدها وعندما قرأها رمى القصيدة على الأرض بقسوة وقال لها في لهجة حازمة وبتأنيب كبير " أذهبي أولا وتعلمي قواعد النحو ثم بعد ذلك أنظمي الشعر "عندها كشفت لوالدها عن السبب الحقيقي الذي يعود في الأصل إلى أن مدرسة النحو في المدرسة لا تميز الفاعل من المفعول ، بينما هي تتمنى أن تعرف الطريق الصحيح إلى اللغة العربية ، أضطر والدها إلى أن يتولى تعليمها قواعد النحو بنفسه وحين دخلت مرحلة المتوسطة وخلال شهر واحد وجدت نفسها تتفوق على الطالبات وتحصل على أعلى الدرجات في النحو . كما لاحظ أبواها أن نازك موهوبة كثيرا في الشعر الذي يستولي على خيالها وعقلها لذلك اتفقا على إعفائها من المسؤليات العائلية والمنزلية إعفاءا تاما وساعداها في أيجاد الوقت والمناخ الملائم للمطالعة والتفرغ لرسم خطوات المستقبل والتهيؤ للأدب والشعر بفكر خالص .

 

الأم الشاعرة والأب المربي الكبير

في سنواتها الأولى بدأت بواكير الشعر تتفتح لديها ، والدتها تنظم الشعر وتنشره في المجلات والصحف العراقية ، توقع أشعارها باسم " أم نزار الملائكة " وهو اسمها الأدبي الذي عرفت به ، وكانت قصائدها تجد القبول والاهتمام وهي تدور في مدار البيئة العراقية ، بينما كان والد نازك يعمل مدرسا للنحو في الثانويات العراقية أي بمثابة موجه عام أو مفتش حسب نظام التعليم السابق ، وكانت له دراسة واسعة في النحو واللغة والأدب وقد ترك مؤلفات كثيرة أهمها موسوعة في عشرين مجلدا عنوانها " دائرة معارف الناس " تقول نازك " أن والدها عمل في وضع تلك الدراسة طيلة حياته واعتمد في تأليفها على مئات المصادر والمراجع، ومع انه لم يكن شاعرا لكنه كان ينظم الشعر وله قصائد كثيرة، ومنها أرجوزة في الشعر تقع في ثلاثة آلاف بيت ؛ وصف فيها رحلة قام بها إلى إيران عام 1955 ، تتذكر من والدها صفات التواضع التي كانت تغلب على شخصيته فهو مع تبحره باللغة العربية وعلومها ونظمه للشعر إلا انه لم يرض يوما أن يسمي نفسه شاعرا مع سرعة بديهته، وقدرته على الارتجال، وظرفه ، كان لأبويها تأثير عميق في حياتها الفكرية، والشعرية ، أما والدها فقد قالت نازك في تفاصيل سيرة حياتها انه ظل أستاذها في النحو حتى أنهت دراسة الليسانس ، " كنت أهرع أليه ، بكل مشكل نحوي يعرض لي ، وأنا أقرأ ابن هشام والسيوطي ، والاشموني ، وسواهم، والحق أني كنت ، ولم أزل، شديدة الولع بالنحو ".

 

العلامة مصطفى جواد

تتكشف تأثيرات البيئة التي ساعدت في إنضاج التكوين الذي ظهر فيما بعد في نتاج شاعرة العراق والعرب " نازك الملائكة " المدار الثقافي في عاصمة المجد والحضارة والتراث العلمي والفكري إلى جانب اهتمامات الأم والأب والاستعداد الفطري لديها، وتفتح الموهبة المبكرة ،لقد فرش والدها لها طريقا ممهدا ورائعا ، عندما وضع بين يديها مكتبته التي كانت تحوي على متون كتب النحو وكذلك كتب الشواهد جميعا ، وكانت نازك من الثقة والمعرفة والتمكن الأمر الذي دفعها لتكون الطالبة الوحيدة بين طلبة قسم اللغة العربية التي اختارت رسالة لمرحلة الليسانس في موضوع نحوي، هو " مدارس النحو " وكان المشرف على تلك الرسالة علامة العراق الكبير " الدكتور مصطفى جواد " تقول عنه" له في حياتي الفكرية اعمق الأثر، رحمه الله ، وجزاه عنا نحن تلاميذه أجمل الجزاء، ولم تزل رسالتي هذه في مكتبة كلية التربية، وعليها تعليقات بالقلم الأحمر، كتبها الدكتور مصطفى جواد في حينه " ولعل الأثر الكبير والواضح في حياة نازك الشعرية يعود بالدرجة الأولى إلى والدتها" حيث كانت تعرض عليها قصائدها الأولى، فتوجه أليها النقد، وتحاول إرشادها وكانت تدور بينهما مناقشات ساخنة بسبب التوجه الذي تسلكه نازك في بواكير شعرها والذي يبدو غريبا لدى الشاعرة الأم ، تقول " كنت أناقشها مناقشة عنيدة ، فقد لاح عليّ ، منذ مرحلة الثانوية، التأثر بالشعر الحديث، شعر محمود حسن إسماعيل وبدوي الجبل وأمجد الطرابلسي، وعمر أبو ريشة وبشارة الخوري وأمثالهم ، بينما كانت أمي تعجب بشعراء أقدم مثل : " الزهاوي " الذي تعتبره شاعرها الأثير، وكان اهتمامها بالشعر القديم اكبر من اهتمامي ، ولذلك كان تأثيره في شعرها أبرز، ولكن ذوق أمي بدأ يتطور، كما يلاحظ من يدرس شعرها الذي طبعت المنشور منه ، بعد وفاتها في ديوان سميته - أنشودة المجد - وقد بدأت أمي تتجه نحو الشعر الحديث إلى درجة ملحوظة، وكانت تعجب خصوصا بشعر إبراهيم ناجي وصالح جودت ،ولكن اتجاهاتي الشعرية بقيت مختلفة عن اتجاهاتها، بسبب معرفتي للإنجليزية والفرنسية وكثرة قراءتي لشعرائهما، ورغم ذلك فقد بقينا ، أنا وهي صديقتين، فكانت تقرأ لي قصائدها، وأقرأ لها قصائدي حتى وفاتها عام 1953 "

 

قصائد للثورة القومية العظيمة

كما تغنى الرصافي والجواهري والسياب بمأثرة ثورة مايس الوطنية التحررية العظيمة تغنت نازك أيضا وكتبت هي ووالدتها حيث نظمت حولها القصائد المتحمسة والتي لم تنشر منها أي شيء، هزت كيانها كما العراقيين جميعا تلك الثورة المعجزة التي قادها رشيد عالي الكيلاني ومجموعة من الضباط الأشاوس الذين هزموا بشجاعة نادرة قوى العمالة والخيانة وسيطروا على البلاد لكن قوى التآمر استطاعت وأد الثورة وقتل قادتها والتنكيل بالوطنيين من ضباط وأفراد القوات المسلحة ، تقول الشاعرة عن تلك الثورة : " سرعان ما أنتصر الحكم البوليسي في العراق، ونصبت المشانق للأحرار، ولم يعد في العراق من يستطيع التنفس، ولكننا، أنا وأمي استمرينا ننظم القصائد الثائرة سرا ونطويها في دفاترنا الحزينة" وكانت نازك في تلك الفترة قد أخذت تساهم في حفلات دار المعلمين بإلقاء قصائدها ، والصحف العراقية تنشر تلك القصائد في حينها، غير أن الشاعرة أهملت ذاك النتاج المبكر ولم تدرج منه شيئا في مجموعاتها الشعرية ومع حدوث الثورة العظيمة عام 1941 تكون نازك الملائكة قد اقتربت من النضج في كتابة القصيدة واختيار المضامين والأشكال المتطورة والجديدة ، لقد انطوت أحداث تلك الثورة لكنها تركت جرحا غائرا في الأعماق وحزنا يغلف النفوس ويلقي بظلاله على نتاج الأدباء والشعراء ، وهذا ما نلمسه في قصيدة " الشهيد " للشاعرة نازك الملائكة:

 

في دجى الليل العميق

رأسه النشوان ألقوه هشيما

وأراقوا دمه الصافي الكريما

فوق أحجار الطريق

وسيبقى في ارتعاش

في أغانينا وفي صبر النخيل

في خطى أغنامنا في كل ميل

من أراضينا العطاش

فليجنوا أن أرادوا

دونهم.. وليقتلوه ألف قتله

فغدا تبعثه امواه دجلة

وقرانا والحصاد …

 

عاشقة الليل

في عام 1947 كان العراق على موعد مع تأسيس تيار جديد للشعر العربي أطلق عليه فيما بعد " الشعر الحر " وتأكد ذلك مع صدور أول مجموعة شعرية لشاعرة واعدة وذات منهج مختلف هي نازك الملائكة وقد أعطت لديوانها الشعري اسم " عاشقة الليل "

تعلل اختيارها لذاك الاسم بأن الليل يرمز لديها إلى عوالم الشعر ولحظات الخيال الجامح وكذلك الأحلام المبهمة التي تثير في العقل والنفس أكثر من سؤال وبريق شعاع يصل أليها من تلك النجوم والقمر الذي يترك بهجته في لمعان ساحر أخاذ على صفحة

 " الدجلة الخالد " تقول نازك الملائكة : " كنت أعزف في الليل على عودي في الحديقة الخلفية للبيت بين الشجر الكثيف، حيث كنت أغني ساعات كل مساء ، وقد كان الغناء سعادتي الكبرى منذ طفولتي، وكنت أحبس أنفاسي إذا ما سمعت صوت أحد أثنين صوت عبد الوهاب أو أم كلثوم يحمله ألي جهاز حاك " غراما فون " يدور في بيت الجيران وكنت سريعة الحفظ لأي أغنية أسمعها وكانت أمي لا تفتأ تندهش دهشة كبيرة عندما تسمعني أغني، ومازلت أذكر صوتها في صغري وهي تتلفت ، وتقول ،: يا إلهي_من أين حفظت أبنتي كل هذه الأغاني؟ ومتى سمعتها، وكيف ؟.. " لم تكن الأم تدري أن ابنتها عندما تسمع حاكيا يدور بأغنية كانت تقف متسمرة في مكانها حتى لو كانت في الشارع، في تلك الأيام البعيدة لم يكن المذياع قد دخل الحياة بعد، وكان الاستماع إلى الأغاني لا يتم إلا عن طريق الأسطوانات وكذلك فإن إذاعة بغداد لم تباشر البث إلا في سنة 1935 …

 

عد بنا يا قطار

فالظلام رهيب هنا والسكون ثقيل

عد بنا فالمدى شاسع والطريق طويل

والليالي قصار

عد بنا فالرياح تنوح وراء الظلال

وعواء الذئاب وراء الجبال

كصراخ الأسى في قلوب البشر

عد بنا فعلى المنحدر

شبح مكفهر حزين

تركت قدماه على كل فجر اثر

كل فجر تقضى هنا بالأسى والحنين

شبح الغربة القاتلة

شبح الوحدة القاتلة

عد بنا لبغداد أم الدروب

فهناك وراء الفيافي البعيدة البعيدة قلوب.

 

الكوليرا

بعد صدور ديوانها عاشقة الليل بأشهر قليلة انتشر وباء الكوليرا في مصر الشقيقة، وبدأت الشاعرة كغيرها من أبناء الشعب العربي تشعر بالقلق على مصير أبناء مصر ، وصار الناس يتابعون الإذاعة التي تنقل الأخبار المريعة التي تذكر أعداد الموتى يوميا، وحين بلغ العدد ثلاثمائة في اليوم انفعلت نازك الملائكة انفعالا شعريا ، وجلست تنظم قصيدة استعملت لها شكل الشطرين المعتاد مع تغيير في القافية بعد كل أربعة أبيات أو نحو ذلك ، وبعد أن انتهت من كتابة القصيدة ، قرأتها فأدركت أنها لم تعبر عما في نفسها ، وأن عواطفها مازالت متأججة وهكذا عمدت إلى إهمال القصيدة واعتبرتها من شعرها الخائب وعندما وصل عدد الموتى بالكوليرا إلى ستمائة في اليوم ، جلست ونظمت قصيدة شطرين ثانية تعبر بها عن إحساسها ، اختارت لها وزنا غير وزن القصيدة الأولى ، وغيرت أسلوب تقفيتها وهي تظن أن ذلك سيروي ظمأ التعبير عن حزنها ولكنها حين انتهت منها وجدتها لم ترسم صورة إحساسها المتأجج وقررت مع نفسها إن القصيدة قد خابت كالأولى ولكنها في نهاية المطاف كتبتها وهي تصور جثث الموتى التي كانت تحمل من الريف المصري مكدسة في عربات تجرها الخيل:

سكن الليل

أصغ إلى وقع صدى الأنات

في عمق الظلمة، تحت الصمت، على الأموات

صرخات تعلو، تضطرب

-حزن يتدفق، يلتهب

يتعثر فيه صدى الآهات

في كل فؤاد غليان

في الكوخ الساكن أحزان

في كل مكان روح تصرخ في الظلمات

في كل مكان يبكي صوت هذا ما قد مزقه الموت

الموت الموت الموت

يا حزن النيل الصارخ مما فعل الموت.

 

نكبة بغداد

في عام 1954 اجتاح الفيضان مدينة بغداد وهب أبناء الشعب لدرء الخطر الكبير عن مدينتهم الخالدة ومع تلك الجهود المتواصلة حدثت خسائر كبيرة في الأموال والأرواح والممتلكات وسجل الأدباء والشعراء ذاك الحدث الحزين ومن بينهم تنفرد نازك الملائكة في قصيدتها الرائعة " المدينة التي غرقت " والتي عبرت فيها عن حزنها العميق واعتبرت تلك القصيدة بمثابة مرثية للمدينة التي تغرق أمام عيون أبنائها:

وراء السداد التي ضمدوا جرحها بالحصير

وخلف صفوف الصرائف حيث يعيش الهجير

يسير طريق تدثر بالطين نحو المدينة

وأطلالها حيث بات يعيش اصفرار السكينة

وحيث الشوارع باتت وحولا ومستنقعات

وكانت تجيش وتزخر ساحاتها بالحياة

وجاء الخراب وسار بهيكله الأسود

ذراعاه تطوي وتمسح حتى وعود الغد

وتصحو المدينة ظمأى وتبحث عن أمسها

وماذا تبقى سوى الموت والملح في كأسها.

 

البحث عن العلم والمعرفة

تتعدد اهتمامات الشاعرة نازك الملائكة إلى جانب الشعر والأدب والترجمة ففي العام 1942 بلغ نشاطها الأدبي والشعري واللغوي والفني أوجه، فاندفعت تطلب الثقافة والعلم في نهم شديد ففي ذات العام باشرت الدراسة في معهد الفنون الجميلة في فرع العود لدراسة الموسيقى وكذلك صارت طالبة في فرع التمثيل وانتمت إلى صف الدراسة اللاتينية وكانت توزع وقتها للدراسة والمثابرة وقد استفادت كثيرا من تلك الدراسات في تطوير موهبتها الشعرية حيث قدمت لها الدراسات الموسيقية تنمية الذوق الفني والحس الموسيقي في بناء القصيدة، كما عززت دراستها التمثيل قدراتها في الإلقاء وفهم إمكانية تعاملها مع تلوين المساحة الصوتية وأيضا اطلعت على المنهج الثقافي الصارم الذي يطبقه قسم الدراسات المسرحية للميثيولوجيا الإغريقية كما درست نتاجات اسخيلوس وسوفوكليس واريستوفان ويوربيدس ، وأيضا درست اللغة اللاتينية واطلعت على نصوص شيشرون وكوتولوس ، وفي العام 1949 صدرت ببغداد مجموعتها الشعرية الثانية " شظايا ورماد " وقد ضمنتها مقدمة وافيه شرحت فيها نظريتها العروضية لشعرها الجديد وضمت المجموعة عشر قصائد وما كادت تظهر حتى أشعلت النار في الصحف والمنتديات الأدبية وقامت حولها ضجة كبيرة وكتبت عن المجموعة مقالات كثيرة متلاحقة تميزت بالرفض تارة والوقوف مع التيار الجديد تارة أخرى .

-وفي عام 1949 بدأت بدراسة اللغة الفرنسية في البيت مع شقيقها نزار من دون مدرس ثم دخلت دورة في المعهد العراقي وصارت تقرأ كتب الشعر وقصص دوديه وموباسان وموليير إضافة إلى ذلك دخلت دورة في المعهد الثقافي البريطاني لدراسة الشعر الإنجليزي والدراما الحديثة استعدادا لأداء امتحان تقيمه جامعة كامبردج ، ثم سافرت إلى الولايات المتحدة لدراسة النقد الأدبي في جامعة برنستن وبعد عودتها إلى العراق اتجهت نازك الملائكة لكتابة النقد الأدبي ..

 

مواسم الأحزان

في العام 1953 مرضت والدتها مرضا شديدا ورافقتها إلى لندن لأجراء عملية جراحية وفي لندن شاهدت والدتها وهي تحتضر في مشهد تقول عنه انه هز حياتها ، كانت تحب أمها حبا كبيرا وظل الحزن يحفر في قلبها وكتبت بعد وفاتها قصيدة سمتها " ثلاث مرات لأمي " استعملت فيها أسلوبا جديدا في الرثاء لم يسبقها أليه أحد وسرعان ما ذاعت قصيدتها تلك واستقبلها الشعراء بحرارة وإعجاب بالغين تقول نازك في تقديمها للقصائد الثلاث" قد يكون الشعر بالنسبة للإنسان السعيد ترفا، غير انه للمحزون وسيلة حياة :

أفسحوا الدرب له ، القادم الصافي الشعور ،

للغلام المرهف السابح في بحر أريج

ذي الجبين الأبيض السارق أسرار الثلوج

انه جاء إلينا عابرا خصب المرور

انه أهدأ من ماء الغدير

فحذروا أن تجرحوه بالضجيج

انه حزننا الصبي لقيناه

على غير موعد وانتظار

لم يزل هادئا خجولا كما كان

ومازال غامق الأسرار

جاءنا دافئا أرق من الدمع

وأحلى من رعشة الأوتار

ففرشنا له طريقا من اللهفة

والحب والدموع الغزار

 

تحية للجمهورية العراقية

في عام 1957 صدر لها في بيروت مجموعة شعرية ثالثة " قرار الموجة " ، وفي عام 1958 حصل انقلاب عسكري في العراق غير نظام الحكم الملكي إلى نظام جمهوري وأوصل مجموعة من العسكريين إلى حكم العراق وقد اثر ذاك الحدث في حياة نازك الملائكة وقد استقبلت قيام الجمهورية بقصيدة" تحية للجمهورية العراقية ":

فرح الأيتام بضمة حب أبوية

فرحة عطشان ذاق الماء

فرحة تموز بلمس نسائم ثلجية

فرح الظلمات ينبع ضياء

فرحتنا بالجمهورية

في أضلعنا يا وردتنا الجمهورية

في أعيننا نامي فلصوص الورد كثار

أعداء العطر العابق، تجار الأزهار

أيقظ عطرك فيهم أشواقا ذئبية

السوق صحا يا ورد حذار

من نقمته الصهيونية

ومخالبه الأمريكية.

 

الشاعرة الكبيرة

عندما يتناول كاتب أو ناقد تجربة الشاعرة العراقية الكبيرة " نازك الملائكة " يجدها مثيرة جداً ، وكذلك قوية واضحة المعالم، يتجاور فيها بقوة ووعي وإصرار الإبداع في تأليف القصيدة مروراً إلى وعي أهمية النقد الأكاديمي وتطبيق مفاهيمه وإخضاع المضامين والأشكال الذاتية إليه ، تتعدد أوجه الخلاف بينها وبين رواد الشعر الحديث كالسياب والبياتي وغيرهم، مسيرة نازك الملائكة هي ذات تأثير كبير ومباشر حرك إبداعها بحر الشعر العربي وتمكنت بقوة من إخراج الدر الكامن فيه إلى شطآنه، علامتان مضيئتان في عقل وجسد واحد ، الشاعرة الناقدة ، موهبة كبيرة وأصيلة تسير في اتجاهين مختلفين غير متباعدين كل منهما يكمل الآخر ، تلك النجمة المضيئة التي حلقت عالياً في سماء العراق والعرب ونثرت في دروبنا القصائد الجميلة وصارت باعتراف الكثير من النقاد والشعراء والباحثين، المجددة والرائدة تقول في قصيدتها الأخيرة :

 

كان ليل ، كانت الأنجم لغزا لا يحل

كان في روحي شيء صاغه الصمت الممل

كان في حسي تحذير ووعي مضمحل

كان في الليل جمود لا يطاق

كانت الظلمة أسرارا تراق

كنت وحدي لم يكن يتبع خطوي غير ظلي

أنا وحدي ، أنا والليل الشتائي وظلي

لم أكن احلم ، لكن كان في عيني شيء

لم أكن أسم ، لكن كان في روحي ضوء

لم أكن أبكي ، ولكن كان في نفسي نوء

مربي تذكار شيء لا يحد

بعض شيء ما له قبل وبعد

ربما كان خيالا صاغه فكري وليلي

وتلفت، ولكن لم أقابل غير ظلي .

 

رصدت الشاعرة المجددة بعين ثاقبة تجربتها الشعرية الخاصة وانفتحت على تجارب الآخرين وقصرت من قامتها للجيل القادم من شعراء العربية عندما واكبت المسار في تقديم الملاحظات جاهدة لوضع الإطار النظري أو الأسس التي يتم بموجبها فهم القصيدة الحديثة أو ما يراد به تكوين المقترح في البناء أو الأسلوب والشكل ، كانت نازك الملائكة تدرك عن قناعة تامة أهمية أن تندفع التجربة بعنفوان وعلم ووعي نحو فضاءات آمنة يطرزها الإنجاز المدهش والجديد بما يعيد للثقافة العربية تأثيرها الملموس وإلى الشعر العربي بريقه الأخاذ، في قصائدها نلمس الأفق الرومانسي الذي لا يتردد عن الدخول في مغامرة موشاة بنزعة تمردية ثورية الهدف تقود في الغالب نحو أجواء الحرية الواسعة .

 

كان صمت راكدا حولي كصمت الأبدية

ماتت الأطيار أو نامت بأعشاش خفية

لم يكن ينطق حتى الرغبات الآدمية

غير صوت رن في سمعي .. وغابا

لحظة لم أدر حتى أين غابا

آه لو أدركت من ألقاه في الصمت الممل

أتراني لم أكن أمشي أنا وحدي وظلي

كانت الظلمة تمتد إلى الأفق الغريب

كل شيء مفرق فيها كقلبي ، كشحوبي

ظلمة ممتدة ، كالوهم ، كالموت الرهيب

غير ضوء خافت مرّ بجفني

لحظة لم تدر ، ماذا كان ، عيني

كان ضوء لونه لون خيال مضمحل

مرّ بي لمحا ، وأبقاني أنا وحدي وظلي

 

 وجدت " الملائكة " خطواتها في درب التمرد المحسوب ومع الثقة والمعرفة والوعي أطلقت صرختها وكانت بمثابة احتجاج ضد الأساليب القديمة في النظم والتي كانت سائدة قبل ظهورها ، هي من بين ثلاثة شعراء عظام ينتسبون إلى أفق الحضارة المزدهرة في وادي الرافدين ، ما بين البداية والصعود إلى القمة لم تتوقف يوماً عن البحث وتأصيل التجربة ووضع الحلول والمقترحات حتى توسع ذلك الأخدود ليصبح بحراً زاخراً، لقد استجابت الشاعرة لتلك الأحلام التي رافقت قصيدتها المشهورة " الكوليرا" التي غيرت خريطة الشعر العربي ، لدى الملائكة وخلافاً للكثير من الشعراء يتدفق الشعر مستنداً إلى الحالة الإنسانية الصافية ، تمردها العنيف يطال كل الكوابح والقيود والتقاليد مهذباً سامياً يترك أثراً في النفس والعقل .

 

كان في الجوّ الشتائي ارتعاش وجمود

جمد الظل من البرد ، وغشاه الركود

ليلة يرجف في أجوائها حتى الجليد

غير دفء طاف في قلبي الوجيع

فزت فيه من شتائي بربيع

وإذا في عمق قلبي فرحة الفجر المطل

غير أني كنت في الليل أنا وحدي وظلي

 

اجتهدت " نازك الملائكة " في إصدار البيانات والملاحظات والدروس النقدية من موقف الحرص لكي يظل جيل الشعراء الذين يتابعون خطواتها بمنأى عن الزلل ، ذات السبب الذي فرض عليها مغادرة القواعد القديمة الصارمة جعلها تفكر بجدية وتفتح نوافذ واسعة للعقول لكي تدرك مسار التأسيس ، مع ضجة ديوانها" شظايا ورماد " تصاعدت ضجة أخرى تمثلت في بيان للشعر كتبته وأعلنت فيه ولادة الشعر الثوري الجديد حددت فيه قواعد الانطلاق وفضاء المتابعة ، وعندما أصدرت كتابها اللاحق " قضايا الشعر المعاصر " لم تغفل عن قضيتها الأساسية فضمنته الآراء التي شكلت بحق موجة تمرد معاكسة لتيار الشعر الذي وجدته يخبو ويتحرك متعباً ، في العقد الخامس والسادس من القرن الماضي كانت التجربة " الملائكية" تترسخ وتعلن عن فصول المنهاج النظري والنقدي متابعة حالة الكشف والتعارض الواضح بين منهجين مختلفين في عالمين قديم وحديث ، وفي القرن الماضي وصولاً إلى لحظة الكتابة ، كان الشعراء الثلاثة يخوضون صراعاً يتبلور بشكل تصاعدي وتكشف عن مفرداته تلك القصائد التي ظلت شواهد واضحة على عمق المعاناة والمواجهة مع تلك القوى القسرية اللاشرعية التي تقود حالة التصادم .. للملائكة والسياب والبياتي رؤى واضحة وصحيحة وناضجة إزاء قضايا متعددة منها ، البعد الاجتماعي والوطني والعربي وحالات التضامن مع قوى الخير في كل مكان ، وهذا الأمر هو السبب الأساس في الاهتمام الكبير بإنتاجهم الشعري لدى الكتاب والباحثون وطلاب الدراسات الإنسانية .

كان في روحي فراغ جائع كاللانهاية

كان ظلي صامتا، لا لحن ، لا رجع حكاية

باهتا يتبع مسرى خطواتي دون غاية

غير كأس عبرت حين صرخت

قطرة واحدة ثم ارتويت

أتراه كان أكذوبة إحساسي المضل

أو ما كنت أنا وحدي وظلي

كان قلبي متعبا يسكنه حزن فظيع

رقصت فيه ، وشدته إلى الجرح ، دموع

صور في عمقه يصبغ مرآها النجيع

كان ... لكن يدا مرت عليه

حملت بعض تحاياه إليه

باركت آلامه السوداء ، كانت يد طفل

أي طفل ، لم يكن في الليل غيري ، غير ظلي

 

 · نشرت هذه الدراسة في العدد المكرس من قبل جريدة المدار الأدبي احتفاءا بشاعرة العراق العظيم وذلك بتاريخ 4/ 4 / 2003 ، ثم صدرت في كتاب يحمل عنوان " شعراء من العراق – النجفي – نازك – السياب – البياتي " وهو منشور على شبكة الكتب الإليكترونية في مصر – كتب عربية – مؤسسة اوروك للصحافة والنشر والترجمة .. على الرابط التالي ..

http://www.kotobarabia.com/AdvancedResults.aspx?title=&subject=0&author=0&type=publisher&publisher=6239

-كما نشرت الدراسة في موقع الكادر بعد رحيل الشاعرة الكبيرة مباشرة

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org