مقالات

الحنين الى مدن أحببتها

 بغداد الصبية التي لاتشيخ

مهداة الى من كانت بغداد ملهمته فارتحل دون أن يعود إليها 

سناء صالح / هولندا

بغداد، المدينة الساحرة التي تلهب خيال من يسمع عنها ويقرأ  كيف لا واسمها مقترن في الأذهان بحكايا ألف ليلة وليلة  وسحر الشرق وعطره وألوانه الساخنة التي تبعث البهجة في النفوس.حينما تدخل مدينة الملاهي في هولندا ( ُefteling) هناك جزء يسمى الفاتا مرجانه إذ  تجوب  في قارب أماكن  شبيهة بأزقة بغداد القديمة بغداد العصر العباسي  وقبابها وسمائها المرصعة بالنجوم وبشهريار ها وشهرزاد بين يديه السند باد البحري والطائر المرافق له، القراصنة    عوالم تخيلها العقل الأوروبي فوضع صورة زاهية لمدينة هي اليوم  مدينة  الرعب,  مدينة الجثث المغدورة الملقاة على قارعة الطريق.

أذكر ونحن في الغربة وحين كان أحد المعارف المغرم بالغناء يحلو له أن يردد ما يغنيه القبانجي عن بغداد (هذي هي بغداد أم المصايب ) كنا نقاطعه لأننا لانتخيلها عجوزا مهمومة  مجللة بالسواد  فبغداد لم تكن أما بل كانت معشوقة حبيبة حسناء مزهوة بجمالها  لايمكن أن تكبر وتتجعد هذه هي بغدادنا التي ظلت صورتها مطبوعة في قلوبنا وفي صفحات الذاكرة.

وأنا في الطريق الى فاتنتي ومعبودتي  بعد أعوام الغربة كنت أعد العدة للقائها كنت ظمأى إليها أن أبحث في ثناياها عن أشياء ثمينة فقدتها سقطت من حياتي في خضم الحياة وأمواجها  فافتقدتها،أشياء أضاعتها الغربة والهموم والرتابة،  عدت لأبحث عن دفء مفقود, عن وقع أقدام شابة على شوارع بغداد وزواياها، وقلوب عامرة بالحب، في الطريق إليها استذكرت كيف أعددت العدة يوم قبلت في كلية التربية  وتعين علي أن أسكن بغداد التي طالما تمنيت سكناها  رغم أنني كنت أزورها بحكم وجود الأقارب في العطل، يومها كان الجميع من أفراد أسرتي فرحين وتجهزت بالملابس كما تتجهز العروس ، إذ خيطت ملابسي عند خياطة مشهورة في النجف. كانت بغداد قد فتحت ذراعاها لي, كم كنت ملهوفة تسبقني أحلام عريضة، ، تذكرت أول يوم لي في كلية التربية  قسم اللغة العربية، طلبة بمختلف اللهجات،تميزهم من  لهجتهم ولون بشرتهم.كان كل شيء جديدا، قاعة الدرس والأستاذ الذي لانحتاج أن نقف له ، الاختلاط بين الجنسين  الذي لم نعتده في حياتنا، مكتبة الكلية وناديها  الذي كان يشهد لقاءات أسبوعية لنا  في مطاردات شعرية ونوادر، حفلات التعارف التي كان ينظمها الطلبة القدامى لزملائهم الجدد، المهرجانات الأدبية التي تنظمها الكلية للأدباء الشباب من الطلبة والتي  أنتجت شعراء مميزين   .   السفرات الجامعية الممتعة, ومطعم الكلية الرخيص  والأكلة المفضلة (اليابسة والتمن )، عربات اللبلبي  والباقلاء والشلغم،   رائحة الشاي  والمنقلة والسميط في صباحات الشتاء الباردة، ، تذكرت أياما جميلة في القسم الداخلي والمشرفة التي كانت بمثابة السجان ،  والبوابة الموصدة في الساعة السادسة، والمقالب التي كنا ندبرها بعضنا للبعض الآخر, المشاكل البسيطة التي كنا نضخمها والمعارك الطاحنة حول الأسبقية في الاستحمام، أو السطو على أكلة فاخرة تكون إحدانا قد جلبتها من الأهل  في نهاية الأسبوع، بعد أن تحجرت بطوننا من التمن الأحمر ، الهمسات والحديث الخافت عن المعجبين، سماع أم كلثوم وفيروز وأحلام عن حياة عامرة بالحب والاستقرار والبيت السعيد، شوارع  الوزيرية النظيفة  المظللة بالأشجار تقي روادها من العشاق الشمس المحرقة وأعين الفضوليين ،  المركز البريطاني، سوق السراي والكبة الشهيرة، شارع النهر والملابس الراقية ،  حلاقة مالك وجوزيف، شارع المتنبي وجولاتنا في البحث عن مصادر، الانتخابات الطلابية   والنشاط المكثف للطلبة المنتظمين في الأتحاد، روح التضامن التي كانت تميزنا وحملة التبرعات بالدم والمال لزميلتنا التي أصيبت بمرض خبيث فارتحلت،   الإضراب العام لطلبة كليتنا وكيف كان للراحل لفتة بنيان  دور قيادي فيه والمنشورات التي تطالب بإطلاق سراحه مع زملائه، وإضرابهم البطولي عن الطعام  كل هذا مر في خاطري وأنا منزوية ملتصقة بزجاج نافذة البهبهاني في رحلتي الأولى بعد فراق يزيد عن العقدين مع صديقة. كنت أحاول أن أقضي على خوفي من مجاهل الطريق بالركون الى ذكريات هي واحتي التي ألجأ إليها. وحينما وصلت إليها ووطئت قدمي أرضها تمتمت بأبيات لأبي باسل ضمن قصيدة سماها (بغداد حبيبتي  ) فازت بالجائزة الرابعة في مهرجان كلية التربية الشعري لعام  1968يقول فيها

ضمّي لصدرك يابغداد حيرانا    واسقيه إذ لم يزل للحب ضمآنا

وعانقيه فكم يهوى معانقة       يطفي بها من لهيب الوجد نيرانا

لألاء ثغرك يابغداد يسكره        إذا ابتسمت يخال الدهر نشوانا

لاتخذليه أيا بغداد إن له           إن شئت قلبا ذوى أو شئت بركانا

فكم رشيد سواد العين كنت له    أثبته رغم ما أعطاك نسيانا

إني حملت أيا بغداد أمتعتي         وحامل الشوق صب أينما كانا

 

باقة ورد لروح أبي باسل الذي  حمل الوطن وبغداد بين جوانحه وأطبق عيناه على حلمه الذي  لم يتحقق حلم العودة لبغداد الحبيبة.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com