مقالات

الحلة في الذاكرة (6).. مفاهي وحمامات الحلة

 الدكتور عدنان الظاهر

المقاهي

مقهيان... نعم، مقهيان من أقدم مقاهي الحلة هما مقهى (أبو سراج) ومقهى (حسين أسمة). إنتقل السيد أبو سراج إلى بغداد وكنتُ عام 1954 / 1955 أرتاد مقهاه هناك في شارع يتفرع من ساحة تواجه جسر الشهداء. وكان له شريك في المقهى رجلٌ من الحلة لا يحضرني إسمه قليل الكلام خفيض الصوت طويل القامة [[أخبرني لاحقا ً صديقي العزيز الأستاذ مؤيد عبد الأئمة سعيد من فرنسا أن هذا الرجل هو هادي المرزة، وإنه شاعر شعبي من الحلة ]].

 لم يطلْ مقام أبي سراج (وهذا لقب عائلته إذ لم يُسم أحد أولاده بإسم سراج) في بغداد فعاد إلى مدينته الحلة وإفتتح في أعوام عبد الكريم قاسم مقهى أنيقاً مزداناً بالعديد من المرايا يقع على نهر الفرات قريباً من طرف الجسر العتيق الضيق الذي يربط جانب الحلة الكبير بالآخر الصغير. أما الآخر، السيد حسين أسمة، فقد فارق الحياة مبكراً فأدار ولده (فؤاد) مقهى والده التي كانت تقع في منطقة باب المشهد في الحلة على تقاطع شارعين من شوارع تلك المنطقة الرئيسة.

كانت أغلبية مقاهي الحلة تقع على ضفاف نهر الفرات أو قريبةً منه وقد أخذت بالتكاثر الملحوظ بعد الحرب العالمية الثانية فظهرت أسماء لمقاهٍ جديدة ما كانت مالوفة قبل ذاك الزمان. أذكر مقهى (الخورنق) الهائلة المساحة مقابل مركز شرطة الحلة وكانت قبيل ذلك مقر حزب رئيس الوزراء آنذاك السيد صالح جبر ((حزب الأمة الإشتراكي!!)). وفي الطرف الآخر من الحلة مقهى (السدير) الرومانسية الموقع حيث نهر الفرات وبساتين النخيل وشجر الصفصاف تتدلى في الفرات أغصانه وليس بعيدة عنه بعض النواعير (الكرود / جرد) تجرها الحمير أو ثيران البقر. كانت هذه المقهى في الربيع والصيف خاصة ً تغص ُّ بجموع طلبة المدارس يحضرون دروسهم هناك زمن الإمتحانات أو يلهون بلعبة الطاولي والآزنيف وورق الكون كان ثم يأكلون الكبدة المشوية وقلوب الغنم مع البصل والطماطة. كان (عبد الأمير) صاحب هذه المقهى وهو خال زميلي وصديقي في ثانوية الحلة للبنين السيد (بشار حمزة محمد علي) وعم زميل آخر لي إ سمه (جواد...). غدا جواد فيما بعد مهندسَ مساحة وأصبح بشار ضابطاً في الجيش العراقي. لا يمكن أن ينسى المرء عامل هذه المقهى الحشاش (قوري)... حين يكلفه أحد مرتادي المقهى بشراء حاجة من نادي الضباط على سبيل المثال فإنه يضع دراجته الهوائية على كتفه ويسرع راكضاً عابراً الجسر... وحين يؤوب حاملاً الحاجة معه نسأله: يا سيد قوري، لِمَ وضعت دراجتك الهوائية على كتفك ثم مضيت إلى غايتك راكضاً؟ يجيب بثقة: عمّي لكي أصل إلى نادي الضباط بسرعة... الأفندي أراد مني أن أجلب له ربع عرق وقال ((أركض بسرعة جيب لي عرق حتى أسكر زين))...!! مسكين قوري الحشاش. مرة أخرى كلفه نفس الشخص أن يجلب له مشروباً من نفس النادي. ذهب ماشياً هذه المرة بعد فضيحة الدراجة الهوائية لكنه لم يلبث أن عاد مكسور الخاطر حزيناً مهموماً لا يجرؤ أن يرفع عينيه أمام مَن كلفه وهو يرد له نقوده. سأله ما بك يا قوري وأين ربع العرق؟ قال له: عمّي والله خايف منك. ليش تخاف مني، سأله؟ لم أستطع عبور النهر. لماذا يا قوري؟ الجسر مقطوع عمّي!! وما كان الجسر على نهر الفرات مقطوعاً.

ثمة مقهى أخرى تقابل مقهى السدير على الجانب الآخر من مدينة الحلة قريبةً من الجسر الجديد لا أعرف إسم صاحبها لكنها كانت جزءاً من بستان نخيلهِ الخاص (لعل إسمه عمران). ثم، وفي الطريق إلى محطة القطار كانت هناك دار سينما صيفية ومقهى في بستان يملكها السيد (حمود الهجول) والد كل من (جاسم) و (جعفر). كان جاسم حزبياً بعثياً وكان جعفر شيوعياً وكنتُ ألاطف والديهما فأساله: يا عم، مع مَن أنت من بين ولديك، مع جاسم البعثي أم مع صديقي جعفر الصغير؟ يسكت العم حمود الهجول بكل أدب ومودة ويشرق وجهه الصبوح النوراني ببسمة رجل جرّب الحياة وعركها وعركته ويظل على صمته ولا يجيب على سؤالي. الحق معه، إنه أب ونعم الأب لكلا ولديه فكيف تفرق السياسة بين والد وبنيه؟ ما زلتُ أتذكر بعض رواد مقهى حمود الهجول وكانت فيهم نسبة عالية من زملائي في الثانوية يتوسطهم رجل أنيق يرتدي صيفاً ملابس بيضاً مع كوفية وعقال وعباءة جوزية اللون لا علاقةَ له بعالم الطلبة. كان يطلب يومياً من عامل المقهى أن يبتاع له (ربع بطل عرق) من نادي الضباط فينتشي ويتم سروره محاطاً بطلبة المدارس من أبناء أصدقائه أو أقاربه. كان في غاية الأدب والهدوء وكان موضع إحترام وحب الجميع. إنه السيد [عباس غلام].

أما مقهى (سومر) في مركز المدينة فكانت هي الأخرى من المقاهي المتميزة جداًُ بحسن إدارتها وتنوع ما تعرض لمرتاديها من مشروبات ومأكولات بفضل إبداعات ذويها ولا سيما الصديق (جبار عبود العجمي / جبار أبو الشربت في بغداد فيما بعد) وشقيقه (نجم عبود العجمي). ففضلاً عن دوندرمة الصيف الممتازة كانت البقلاوة شتاءً والهريسة فطوراً للصباح وهما أمران ما كانا معروفين من بين تقاليد مقاهي الحلة. لا يفوتني بالطبع ذكر مقهى (السيد شاكر الشلاه) مقابل مركز شرطة الحلة والدور الذي لعبه بعض مرتاديها في الإجهاز على ثورة تموز 1958 وكنتُ قد فصلت ذلك في الجزء الأول من مذكراتي المنشورة.

من مقاهي الحلة التي خصصت أساساً لطلبة المدارس للدراسة واللهو مقهى (حسوني آل حجاب) في منطقة الجامعين على ساحل الفرات تماماً تجاورها دار سينما صيفية. ثم إلتحق الصديق الرياضي الأشهر في الحلة السيد

(حساني كاظم الموسوي) فكانت مقاهيه المحاذية للنهر تعج بالطلبة حيث طورها فخصص فيها مكانات للتبول وصار يبيع فيها أكلة (الكص / الشاورما / الدونر كباب).

مقاهي الحلة كثيرة جداً في كلا جانبي المدينة لكني ركزت على أكثرها شهرةً ثم تلك التي كنتُ أرتادها مع أصدقائي خلال شهور الصيف أو الشتاء طالباً ومدرساً في سلك التعليم الثانوي.

 

حمّامات الحلة

في الحلة بضعة حمامات عمومية لكنَّ أكثرها شهرة هما الحمام الواقع في منطقة الحشاشة في وسط الحلة. ثم حمام في منطقة أو محلة المهدية. هناك حمامان آخران هما حمام الحسين وحمام عمر أغا يقعان في وسط درابين ضيقة يخصص أحدهما يوماً واحداً في الأسبوع لإستقبال النساء. تذهب نساء الحلة إليه مبكراً محملات بالأطعمة وفاكهة النارنج بشكل خاص ومعدات الإستحمام الطويل من (طين خاوة) والأمشاط الخشبية وحجر أسود لصقل وتلميع الأقدام و(الديرم) والحناء ويقضين هناك أوقاتاً طويلة. أما الرجال فلهم طقوسهم الخاصة وعاداتهم كإزالة الشعر بمسحوق دواء الحمام (دوة حمام / خلطة من النورة والزرنيخ)، ثم تدليك المدلكين مع المساجات، ثم الغطس في أحواض الماء الفائق الحرارة وإسم واحدها (قزان)... من خزان. وحين ينتهي أحد الزبائن من الإستحمام ينادي المدلك بصوت ٍ عالٍ: هوووووو... فيأتي شخص آخر مع بضعة مناشف يغطي بها جسد المستحم الذي يأخذ طريقه إلى مكانه حيث ترك ملابسه هناك. يستريح قليلاً ثم يطلب قدح (ستكان) دارسين. يجلب أغلب المستحمين مناشفهم معهم خوفاً من الإصابة ببعض الأمراض الجلدية. تغدو عملية تجفيف المناشف شتاءً صعبة خاصة ً إذا كان اليوم غائماً أو مطيراً. وكان هذا سبباً آخرَ معقولاً ليجلب المستحمون مناشفهم معهم من بيوتهم.

إكتشفتُ من باب الصدفة أنَّ حمام منطقة الحشاشة يصرِّف مياه الغسيل والإستحمام خلال قناة ضيقة تحت الأرض إلى نهر الفرات وما كان بعيداً عن موقع الحّمام!! مياه فيها سموم الزرنيخ تنتهي في نهر الفرات، مصدر مياه الشرب للناس والمواشي والبساتين والزروع!! جريمة كبرى كيف فاتت المسؤولين عن الحلة وعن صحة أهاليها طوال حقبة طويلة من الزمن. لا أعرف كيف تصرف باقي الحمامات مخلفات مياهها القذرة ومحتوياتها السامة؟

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com