مقالات

الحلة في الذاكرة(7).. مواكب عزاء عاشوراء

 الدكتور عدنان الظاهر

عاصرتُ هذا التقليد لقرابة العقدين من الزمان، وكان تقليداً راسخاً تفتخر الحلة وأهلوها به وتحتفل وتجدد طقوسه مرة ً كل عام ولمدة عشرة أيام من الشهر (المحرَّم) الحرام. كان لكل منطقة من مناطق الحلة بجانبيها الكبير والصغير موكبها الخاص وقارئها الخاص( الرادود) وبعض التفاصيل الخاصة. كنا نسمّي المنطقة [طَرَف]. ففي الجانب( الصوب) الصغير ثلاثة أطراف هي الوردية والكلج وكريطعة. وفي الصوب الكبير: الجامعين والطاق وجبران والمهدية والجباويين والكراد والتعيس... ولست متأكداً هل كان للهيتاويين { من هيت } طرف خاص بهم يحمل إسمهم أسوة ً بالجباويين { من قرية جُبّة } أم لا ؟! كانت تبدأ طلائع مسيرات هذه المواكب قريباً من الجسر الجديد شاقةً طريقها خلال أحد الشوارع الرئيسة في مدينة الحلة. ينتظم أقوياء الرجال والشباب وبعض الصبية في صفين يرتدون ملابس سودا ً لاطمين صدورهم المكشوفة حاملين مصابيح نفطية( فوانيس) أو( برقيات، جمع برقي / لوكسات، مفردها لوكس) وهو مصباح شديد الإضاءة يتوهج داخل فتيلة بيضاء اللون من الحرير الزجاجي المقاوم للحرارة. وكانت الحلة قاطبة ً تقريباً تصطف صفوفا ً صفوفاً على جانبي الشارع وخاصة النساء والأطفال لإعلان التضامن مع محبي الحسين وآل البيت الأمر الذي يزيد من حرارة وحمية اللاطمين صدورهم فتبكي النساء والرجال على حد سواء. تنتهي هذه المواكب في دار السيد (جعفر القزويني / أبو موسى) الواقعة في محلة الطاق بعد أن تخترق درابين ضيقة يتزاحم خلالها الجمهور لاطمين ومتضامنين. يقف في تلكم الدار أو يجلس على كرسي عالٍ قارئ أو رادود الطرف يقرأ المقاتل وملاحم معركة الطف في كربلاء ملتزماً بمخطط زمني ـ تأريخي دقيق يُخصص بموجبه لكل قتيل من آل الحسين بن علي بن أبي طالب سقط في كربلاء يوماً معيناً أو ليلة بعينها. فهذا يوم العباس وذاك يوم القاسم الذي كان ذا ميزة وطقس خاص فإنه [[العريس]] الذي لم تتم مراسم عرسه ربما على إبنة عمه الحسين فهو القاسم بن الحسن بن علي. تعج المواكب الحسينية في ليلة القاسم بأغصان شجرة الياس والحناء إحتفاءً بعرس القاسم الذي قص َّ الأعداء رأسه في كربلاء عام 61 للهجرة. أتذكر بعض(( ردّات النسوة)) في هذه المناسبة من قبيل: حو يا قاسم يا غنص يا زهوة الحربية // حطيتْ طاسة بطاسة عريس كصوا راسه // حو يا قاسم يا غنص... كان اليوم العاشر مخصصاً للحسين شهيد طفوف كربلاء الأكبر وكان يوم حزن عميق في أوساط الحليين وغالبيتهم العظمى من الشيعة الجعفرية. وهو يوم كبير تجري طقوسه نهاراً خلافاً للقاعدة المتبعة ويسمى(( الطبُك / أي إنطباق أو جمع الأيام العشرة في يوم واحد هو مسك الختام)).

 سارت أمور وطقوس الأيام العشرة هذه دونما تغييرات جوهرية عداً واحداً يلفت النظر. شرعت المواكب الحسينية بإستخدام مولدات كهربائية خاصة بكل واحد منها لإضاءة طريقها بالأضواء القوية الساطعة المدلاة من حبالها على جانبي صفوف مجموعات اللطم فكانت الشوارع تعج بالضوء وأصداء أصوات ضرب الصدور العارية بالأكف القوية الفتية تضامناً وحزناً على شهداء الإسلام من عترة النبي وأبناء إبنته فاطمة الزهراء. قوة ضرب الصدور تتناسب مع شدة حب اللاطم للحسين وآله.

حادثة أخرى سياسية المغزى والهدف إذ حاولت مجموعة من أعضاء حزب نوري السعيد(( حزب الإتحاد الدستوري)) منافسة خصمهم السيد جعفر القزويني وكسر هيبته الدينية والسياسية فأقدمت على تنفيذ مغامرة هزيلة خرقاء فشلت فشلا ً ذريعاً ولم يكتب لها أي نجاح !! حاولت هذه المجموعة المسيسة وبعض أتباعها وهم قلة أن يسحبوا أهل الحلة وإقناعهم بممارسة بديل < حضاري > بدل ممارسة الطقوس المألوفة المعقدة... أتخذت من حسينية( إبن طاووس) الواقعة في وسط الحلة على الشارع العريض العام المؤدي إلى باب المشهد... إتخذت هذه الحسينية مقراً لقراءة الفاتحة مع بعض الردات الحسينية لكنَّ المحاولة لم تستمر وماتت في مهدها إذ قاطعتها جماهير الحليين بشكل منقطع النظير وكان في هذه المقاطعة أكثر من مغزى وعِبرة، كان فيها الدين والسياسة معاً: مقاطعة حزب نوري السعيد وعموم سياساته المعروفة بولائها للمستعمر الإنجليزي يومذاك. لا أتذكر هل كان السيد جعفر القزويني موالياً أو عضواً في حزب السياسي الشيعي السيد صالح جبر(( حزب الأمة الإشتراكي)) المعارض ـ إفتراضاً ـ لنوري السعيد وحزبه الطنان الإسم ؟؟ لا أستبعد ذلك.

من طرائف ومفارقات عشرة عاشوراء: طلب أهل قرية الدولاب( أو الديلاب) وهي قرية غير بعيدة عن الحلة على نهر الفرات... طلبوا أن يُخصص لهم مكان مع المواكب الحلية المعروفة لإستعراض ممثلي القرية من شبابهم وعلى راسهم قارئهم الخاص. إعترض القائمون على تنظيم وتسيير المواكب بأن َّ الدولاب قرية صغيرة وغير مستوفية للشروط. ثم إقترحوا على أهل الدولاب ـ حلاً للمشكل ـ أن ينظموا موكبهم الخاص ولكن... أن يكون جزءاً من موكب محلة أو طَرَف كريطعة من جانب الحلة الصغير فالدولاب هناك على ذلك الجانب. قبل الدولابيون هذا العرض وإندمجوا في موكب أهل كريطعة ولكن: حينما وصلوا وسط مدينة الحلة صدحوا بأهزوجة أعدوها بشكل جيد فيه ذكاء كبير مع شئ من الإحتجاج العاتب وإقرار بقبول الأمر الواقع الذي فُرض عليهم. أخذزا بعالي اصواتهم يصدحون:

إنما الدولابُ فرعُ للوا

أينما سار اللوا فهو يسيرْ

... اللوا تعني اللواء، لواء الحلة كما كانت الحلة تسمى وقتذاك.

في اليوم العاشر من شهر محرَّم الحرام [[الطبك]] تجهز المواكب والكثير من العوائل أكلة الهريسة في قدور نحاسية( صفر) ضخمة في البيوت والشوارع والساحات العامة والحسينيات فداءً للحسين وآله وقرباناً لدمه الطاهر الذي أُستبيح على تراب كربلاء أو كر وبلاء !!

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com