مقالات

الحلة في الذاكرة (3)..  أولاً / في العهد الملكي (1948  / 1958)

 

 

 الدكتور عدنان الظاهر

قصتي مع الزميل القديم المربي ( عبد المولى جليل ) وهذا إسمه

الكامل

وليس

( مولى جليل ) .

دخلنا شهر أيلول عام 1948 الصف الأول في متوسطة الحلة

 للبنين سويةً

، المدرسة التي تتوسط مدينة الحلة والواقعة على ضفة نهر الفرات من جهة وأحد دور السينما من الجهة الأخرى والقريبة من المدرسة الشرقية الإبتدائية ثاني أقدم مدارس الحلة بعد المدرسة الغربية . كما إنها كانت قريبة من محلات الجامعين

والطاق وجبران ومحلة السنية وسوق الحشاشة وسوق المكتبات الرئيس ومركز شرطة الحلة

 القديم. وكان معنا من ضمن مجموعة الصف الأول [ آ ] الصديق العزيز المرحوم

( هادي

 حميد طخة )

 ومجموعة أخرى من الطلاب ما زلت أتذكر أسماءهم جميعاً ... منهم مثلاً المربي والصديق ( فاهم حسين السرحان ) الذي تفضل أخونا العزيز ( ذياب مهدي آل غلام )

فتطرق إلى ذكره في مقالة له نشرها قبل بضعة أيام . 

غدا من مجموعتنا تلك الضابط والمحامي والحاكم والطبيب

 (   نعمة محمد العكام ) و ( طارق أحمد كعيّد الحلي )

وفيهم الدبلوماسي ( المرحوم قيس نايف الكرخي الذي وافاه الأجل

قبل أقل من عام في العاصمة الألمانية برلين ) ...

ومارس أغلب الباقين مهنة التعليم الإبتدائي وكان عبد المولى

واحداً من هؤلاء سويةً مع هادي حميد طخة . وكان كذلك معنا البعثي المخضرم فاهم كامل

 الصحاف ( إبن عم محمد سعيد الصحاف )...

كان عبد المولى جليل  معروفاً بيننا بصوته الجهوري المخيف

وبعينيه الواسعتين جداً وشاربيه الكثين ومتانة جسده وقامته المربوعة . ثم كان يشعر

بأنه ذو ميزة على باقي زملائه في المدرسة : أنَّ عمه ـ عبد اللطيف  أبو شوارب ـ

 كان مختار محلة

 الجامعين وربما الطاق كذلك ، وكان لمخاتير ذلكم الزمان صولات على الصعيدين الأهلي

 والحكومي . وكان أخوه الأكبر منه ( غفار على ما أحسب ) يدير محلاً صغيراً على

 الشارع العام الذي يفصل النهر عن محلتي الطاق والجامعين . وكان عبد

المولى يدير بدل

 أخيه هذا الدكان في بعض الأحايين .

كان جريئاً وكان جسوراً لكنه ما كان عدوانياً ولم يعتدِ على أحد

من زملائه في الصف الأول ، وكان ( عبد المجيد الفلوجي ) هو مدير هذه المتوسطة .

خلاف عبد المولى جليل ، كان هادي حميد طخة عدوانياً بعض الشئ .

 ضربني ذات يوم أثناء الفرصة الكبيرة على وجهي بدون ذنب فسارعت أشكوه لأخيه الصديق

العزيز ( رضا حميد طخة / كان يسبقنا في نفس المدرسة بعام أو عامين ) فظل هذا الصديق

يتذكر هذا الحادث ويذكرني به بعد أن كبرنا ومارسنا التعليم على مستويين في مدينة

 الحلة .

فاجأنا مدير مدرستنا صباح أحد الأيام بدخول صفنا وفي يده ورقة

قرأ فيها علينا أسماء بعض طلبة المدرسة المفصولين لأسباب سياسية . كان فيهم رضا

حميد طخة و صاحب عبد جابك ( الطبيب من تركيا فيما بعد ) ورضا عيدان ولم يكن في تلكم

القائمة لا إسم عبد المولى ولا هادي حميد طخة . ثم دار المدير عبد المجيد فلوجي والقائمة التي يحمل في باقي الصفوف وكرر ما فعله في صفنا . أخرج الطلبة المفصولين فوراً من المدرسة .

لا أتذكر جيداً ما فعله الزمان بالصديق الزميل عبد المولى

 

 إذ

واصلت دراستي في الفرع العلمي من ثانوية الحلة للبنين الواقعة هي الأخرى يومذاك

 

على

نهر الفرات مقابل نادي الضباط العسكري ... وكان معي أغلب طلبة دفعتنا

 في السنة

الأولى في متوسطة الحلة للبنين ... منهم من كان معي في الفرع العلمي ومنهم من إختار

الفرع الأدبي مثل هادي حميد طخة . كما وجدنا أمامنا السيد عبد المجيد الفلوجي مديراً للمدرسة الثانوية فكان على معرفة جيدة بنا وبمستوياتنا الدراسية وبأهالينا وهو إبن الحلة .

مارس في العهد الملكي كل من هادي حميد وعبد المولى التعليم

الإبتدائي في بعض مدارس الحلة وكان هادي مولعاً  بالرياضة وكان مثلي يمارس السباحة

صيفاً في نهر الفرات فكنا نلتقي ومجموعة من الأصدقاء في بستان يقابل ( مقام جعفر

الصادق ) نمارس الرياضة الخفيفة هناك ثم نلقي بأنفسنا في نهر الفرات نتسابق في

 السباحة أو في رمي أنفسنا من شاهق أو شجرة أو نخلة

 ( نذب زرك على رؤوسنا ) ...

كان هادي في تلكم الفترة لا يكاد يفترق عن صديقه

 السيد

 ( محمد عَبَس )

 . أبداً ...

محمد هو شقيق الصديق والشيوعي القديم كاظم سعيد عَبَس .

 

ثانياً

بعد ثورة الرابع عشر من تموز 1958

 

أكملت دراستي في دار المعلمين العالية في حزيران 1959 وتم تعييني

مدرساً على الملاك المتوسط . توثقت علاقتي بالصديق هادي حميد طخة إعتباراً من شهر

أيلول 1959 

 وكنا في مستوى تنظيمي واحد يحمل إسم ( لجنة المعلمين )

 

أو لجنة المثقفين ... وكانت الأوضاع السياسية آخذةً بالتدهور

السريع يومذاك ... فإنسحب من الحزب مَن إنسحب وإستقال مَن إستقال وهرب مَن هرب

وإعتذر أحد المعلمين في معرض تبريره للإنسحاب من الحزب إعتذاراً غريباً بل ومضحكاً

 . قال (( إنه مطعون في شرفه أيام طفولته لذا فإنه لا يصلح للعمل الحزبي . شريف ، والله شريف . قدم عذراً وإنسحب بهدوء ))

وعضو حزبي آخر كتب مبرراً إنسحابه من الحزب (( إنه جبان وإنه لا

يستطيع الصمود بوجه إهانة أو ضرب أو تعذيب خاصة وإنه من عائلة معروفة في أوساط

الحليين )) .

أما مسؤول لجنتنا وكان من بعض القرى المجاورة

 للحلة

 [ عنّانة أو الجمجمة أو كويريش أو برنون القربية من خرائب بابل ]،

فلقد بلغ به التوتر والخوف حدَّ أن تشاجر مع بعض رفاق اللجنة بدون سبب معقول ...

جرى ذلك في بيته أثناء إجتماع للجنته الحزبية ثم أمرنا بفظاظة 

 وغلظة وسوء أدب

 أن

 نغادر منزله على الفور

 

. غادر في هذه الظروف الشديدة والبالغة التعقيد المرحوم هادي حميد

طخة ... غادر العراق لدراسة هندسة النفط في موسكو بزمالة على الحساب الخاص كما كانت

 تُدعى يومذاك .

ما كان عبد المولى جليل في التنظيم حينذاك ، ولا أعرف أكان ذا

صلة فردية ببعض رفاق الحزب أم لا حتى وصلنا فترة إنتخابات نقابة المعلمين لدورة عام

1961

التي فصّلت دوري فيها في ذكرياتي الخاصة بذلكم العام والعام الذي تلاه . كنت أناقش وأحاول إقناع بعض المعلمين المستقلين والديمقراطيين للدخول في قائمتنا لخوض

إنتخابات نقابة المعلمين ،

 

 وكانت قائمتنا

تحمل إسم (( القائمة المهنية

الموحدة  ))

 . كلفني الصديق والزميل الشيوعي السابق والمعلم ( عدنان أحمد دنان ) أن أتصل بعبد

المولى جليل وأفاتحه بمسألة دخوله في عضوية مرشحي قائمتنا .ذهبت إليه في محلة

الجامعين حيث سكناه في بيتهم القديم  فإلتقيته في الشارع العام هناك مقابل مقهى الصديق ( حسوني آل حجاب ) أو مقهى صفي الدين كما كانت تُسمى يومذاك . فاتحته

بالموضوع ففوجئ ... ذُهل ...أغمض عينيه نصف إغماضة ... شرد

بعيداً عني وكنت أراقب

 بدقة حقيقة ما كان يدور في ذهنه وما فيه من خلجات وذكريات عزيزة عليه . سألني بلطف

 

وبصوت جدَّ خفيض مع شئ من الإنكسار :

 {{

 هل صحيح أنَّ الحزب كلفك بمفاتحتي بهذا الأمر }} ؟

ما كان ليصدق أن مكانته لم تزل عالية في صفوف رفاق الحزب وأنَّ

ثقة الحزب فيه مضمونة . قال موافق ، سجلوني معكم ... ثم أضاف : هل تدري ؟

 كنت يوماً

 مسؤول لجنة مدينة الحلة الحزبية .

 

فاتحت بعد ذلك بيوم أو يومين الصديق البصري حميد الجرس إذ زرته

في غرفته في فندق يقع فوق مقهى سومر من أملاك المقاول السيد

( توما ، والد لطيف ) ...

فوافق الصديق على الفور ... ثم جرى ما جرى لكليهما بعد

الإنتخابات التي زورها البعثيون والقوميون بالتعاون والتواطؤ مع سلطات عبد الكريم

 قاسم العليا وبعض ضباط الجيش من البعثيين .

الأخ البصري حميد الجرس كان زميلي في دار المعلمين العالية خلال

الأعوام 1955 / 1959 ... درس اللغة العربية والأدب العربي وكنتُ أنا في قسم

الكيمياء .

غادرت الحلة والعراق في السادس من شهر آب عام 1962 ولا أعرف ما

جرى للتنظيم بعدي وما جرى للصديق العزيز عبد المولى جليل ... الشجاع ذي الصوت الأجش

 الجهوري والقامة المربوعة والشاربين الكثين .

أخبرني المرحوم هادي حميد في موسكو عام 1964 أن شخصاً حلاوياً

ذكر لي إسمه أعتقل ( عام 1954 ) فأفشى أسراراً حزبية

وأعلن براءته من الحزب الشيوعي وكشف الخطوط فتم فصل هادي حميد من التعليم ... ولعل عبد المولى كان أحد الذين كشفهم هذا الخائن الجبان الذي أُعيد له إعتباره بقدرة قادر فوجدته في موسكو يصول ويجول وفي يديه مفاتيح تنظيمات الحزب هناك  وهوية الكمسمول السوفياتي وربما هوية شرطة رجال الأمن ...

 هذه ذكرياتي كما أتصورها حية في رأسي ووجداني وهي عزيزة عليَّ كما هي عزيزة على غيري ممن عاصرني وعاصر تلكم الأحداث .

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com