مقالات

قصة سلمان البراك و اليهودي العراقي

في أحيان كثيرة يكون جزء من التأريخ مفقود، وقد يعثر عليه مصادفة وهذا ماحصل معي. أنها قصة تبين كيف كان المجتمع العراقي نسيج متماسك على الرغم من تلونه بأطياف مختلفة.

أود أن أتشارك معكم بهذا الجزء من تأريخ مدينة الحلة وجدي الأكبر سلمان البراك "رحمه الله" أنه تأريخ يشرفنا أستذكاره لنستقي منه الدروس والعبر.

نبأ البراك / أستاذ جامعة بغداد

قصة سلمان البراك و اليهودي العراقي

أمل صالح معلم نسيم

عندما أحتل الأتجليز العراق أبان الحرب العالمية الأولى وبعدها عينوا حاكما سياسيا أنجليزيا في مدينة الحلة وبحثت مس جرثرود بل السكرتيرة للشؤون الشرقية عن عراقي مسلم ليشغل منصب مساعد الحاكم فلم تجد من له المؤهلات الكافية لأشغال هذا المنصب فأضطرت أضطرارا (لأن الأنجليز كان همهم أرضاء المسلمين وليس اليهود) أضطرت الى تعيين جدي اليهودي أبراهيم حييم معلم نسيم في هذا المنصب نظرا لمؤهلاته التي جعلت الوالي العثماني ناظم باشا يعينه مساعدا له حقبة من الزمن وكذلك بسبب أضطلاعه بعدة لغات منها التركية والعربية والأنكليزية. حاكم الجنوب في تلك الأيام معناها الحاكم بأمره. كل السلطات في يده وكذا مساعده.

ثار الشيخ سلمان البراك على الأنكليز وسبب لهم المتاعب فقرروا القبض عليه ومحاكمته والأنتهاء منه بأي ثمن، ولكن أنى لهم ذلك وسلمان محصن في الجهة الثانية من الفرات في داره المنيعة ومعه رجال مدججون بالسلاح وعشيرة بأكملها وراء ظهره حتى لو أستطاعوا القبض عليه فمعناه على جثث ضحايا من جنودهم، وقع الأختيار على جدي ليقوم بالمهمة، ولماذا جدي لاأدري! وافق جدي ولكن أشترط ألا يرافقه ولاجندي واحد أنكليزي، وعبر الجسر يرافقه فقط حارسه الخاص سطاي. وطرق باب دار البراك ودخل الديوان وحضر رجال البراك أسلحتهم وأخرجهم الشيخ من الديوان بأشارة " أتركوني مع أبو سامي"

أقتنع  الشيخ بتسليم نفسه ورافق جدي الى الجهة الثانية.

ومما قص على أن جدي قال له وهما خارجان، أنظر ياسلمان الى هذا المفتاح أنه مفتاح سجنك فكما سأقفل به عليك سأبذل جهدي لأفتحه به لأخراجك.

بعد بضعة أيام قدمت وضحة أخت سلمان البراك ومدبرة بيته في ساعات الصباح المبكرة الى دار جدي ودخلت الديوان الذي كان فارغا من الغرباء في تلكم الساعات. سمعت نسوة العائلة صوتها فنزلن من الحرم وأحداهن حاملة أخيها الطفل سامي فلما رأتهن وضحة وكانت تحمل في يدها وبرية ملفوفة ( الوبرية حسب ماأفهمتني أمي هي عبارة  عن منديل كبير مصنوع من حرير ثخين كان يسمى حرير الشام)  وضعت وضحة الوبرية على الأرض وفتحتها فأشرق بريق الليرات الذهبية " خذ أبو سامي هذه الليرات هدية لسامي، فقط أنقذ سلمان، وكانت أجابة جدي أن سلمان أخي أجمعي ليراتك ياوضحة فأذا ما مكنني الله من أنقاذ سلمان فسأكتفي منه بوردة، وأذا لم أتمكن فأصرفيها على أولاده، وأياك الذهاب الى غيري لأنهم سيخدعونك ويأخذون مالك ولا يفعلون شيئا. وذهبت وضحة وسعى جدي لأنقاذ سلمان ونجى الشيخ من حبل المشنقة وغادر جدي الحلة الى بغداد بعد قدوم الأمير فيصل اليها والغاء الحاكمية الأنكليزية في الحلة. وخرج قبل مغادرته الى سوق الحلة مودعا وودعه أصحاب محال السوق من أكبر تاجر الى أصغر بائع بالأحضان والتقبيل رغم أنه كان حاكما قبل أيام وحاكما يهوديا بل أن قسما من صغار الباعة ودعوه بتقبيل يده. وبعد مدة غادر سلمان البراك الى بغداد وتحول الشيخ من محكوم الى حاكم بحكم أن السلطة هي للأكثرية وأكثرية العراق مسلمة. وتحول جدي من حاكم الى محكوم مهما علا مركزه بحكم كونه من الأقليات. وأرتقى سلمان في المناصب الى أن وصل الوزارة وأرتقى جدى الى منصب نائب في مجلس النواب لاأكثر. ونسي جدي أو تناسى فضله على سلمان ولكن هل  نسي سلمان وهل أنكر؟ وهل غرته مناصبه؟

بعد فترة من الزمن، مرض خالي سامي مرضا شديدا نازع فيه الموت، وصل وضعه الى أن العائلة لم يبق أمامها  ألا أن ترفع أعينها الى رب السماوات طالبة الرحمة. ووصل الخبر سلمان وجاء مع مرافق له لاأدري أذا كان سائقه أو حارسه قاطعا عقد النصارى الملتوي والضيق مشيا لأن العقد لاتستطيع دخوله سيارة، ورفض الدخول الى داخل الدار والجلوس في الصالون لئلا يكون سبب أزعاج للنساء المسكينات ويحد من تصرفهن وهو الرجل الغريب بعلمه أن جدي كان محافظا. وجلس ومرافقه على أريكة وضعت قبال باب الدار في الممر المؤدي الى ساحتها. وبقي جالسا لم تغمض له عين طول الليل كما لم تغمض لأهل الدار. وأشرقت شمس الصباح لتدخل الأشراقة في نفوس الجميع فقد حدثت الأعجوبة وأنقذت رحمة الله خالي من الموت. وترك الصديق الحميم الساهر دار جدي ليذهب الى داره ليغتسل ويغير ملابسه ويذهب الى جلسة مجلس الأعيان فأنه كان رئيسا للمجلس في ذلك الوقت.

لاأستطيع أن أنهي قصة هذه الصداقة التي لم تنل منها لا التحريضات النازية ممثلة في السيد "الهر غروبا" ولا التحريضات الفلسطينية ممثلة في مفتي القدس ألا بذكرى لطيفة بالنسبة لي لها علاقة بالقصة، فأنه في كل موسم كنا ننتظر نحن الأحفاد الصغار غلة وخيرات الجنوب التي كانت تصل دار جدي من أراضي آل البراك ومواشيهم. وكان جدي لايملك ألا داره. ننتظرها لنأكل ونتذوق منها ما نحب وما يمكن أكله ولنبعثر منها مانبعثر، وتنتظر جدتي بصبر أنتهاء هؤلاء الفوضويين الفضوليين لتضع كل شيء مكانه ويعود للدار نظامها.

هذه هي الحلة التي بنيت على الشعور الأنساني النبيل الذي تغلب على كل العقبات، وكم كانت كثيرة.

فهل سيأتي اليوم الذي ستتحول فيه غلة الصواريخ والمدافع والمتفجرات والدم الى غلة خضراء وعسلية وبيضاء كتلك التي كان يرسلها لنا آل البراك فيشبع أطفال العراق بطونهم. ربما أنها أضغاث أحلام أو تخريف أمرأة مسنة جليسة الدار. دعوني أحلم ودعوني أخرف.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org