مقالات

الإسلام والديمقراطية .. عناق أم فراق؟

" يقبل الإسلام ديمقراطية ترتبط بمنظومة القيم، التي تؤمن بها غالبية المجتمع وتؤلف روحه العامة، كالعدل والمساواة والحرية والتسامح، ولا يقبل ديمقراطية تخرج عن هذه القيم وتتناقض معها، وليس في الديمقراطية ما يجعل دعاتها يرفضون تلك القيم"

الدكتور عدنان بهية / مركز البحوث والدراسات / معهد أكد الثقافي

 

 يتساءل الكثير من الناس؛ هل يمكن لإنسان مسلم يؤمن بالله ويمارس العبادات والشعائر، أن يقبل الديمقراطية ويمارسها؟ هل إن الديمقراطية تنسجم مع الإسلام، أم تخالفه ولا يمكن الجمع بينهما؟ وهل يمكن أن يرفض الإسلام الديمقراطية, باعتبارها مصطلحا أجنبيا ربما يحمل مفاهيم تخالف الإسلام؟ وللإجابة على هذه التساؤلات لا بد أن نوضح ماهية الديمقراطية أولاً، باعتبارها مصطلحاً حديث العهد، دخل حيز الممارسة بين شعوب بعد انتشار الإسلام في عدة قرون من الزمن.

 

مفهوم الديمقراطية المعاصرة

 تعرف الديمقراطية المعاصرة بأنها " منظومة آليات محايدة لتداول السلطة وممارستها على أساس الاختيار الشعبي من خلال الانتخابات "، والديمقراطية هنا منهج وليست عقيدة ؛ منهج لضبط السلطة في المجتمع ولاتخاذ القرارات العامة، أما مضمون هذه القرارات فيتوقف على اختيارات متخذي القرار في ضوء الثابت من عقائدهم والذي تنص عليه الدساتير، التي تكتب في ظل الشرائع التي يلتزم بها المجتمع المعني والقيم الدينية والإنسانية التي يجلها أفراده ويسعون إلى تجسيدها في نظامه الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي. وبذلك لا تقدم الديمقراطية نفسها بديلا عن غيرها من الشرائع ولا هي عقيدة منافسة لغيرها من العقائد السياسية والدينية.

 هذا الفهم يجعل الديمقراطية مجموعة آليات محايدة، بالإمكان فك ارتباطها التاريخي عن الإطار الفلسفي والاجتماعي، الذي اقترن بظروف نشأتها تاريخيا. ويمكن أن يقبل المسلمون بهذه الآليات،غير المصطبغة بصياغة مذهبية محددة، انطلاقا من إن الإسلام لا يمنع المجتمع الإسلامي من الأخذ والاقتباس من المجتمعات الأخرى، حتى لو كانت غير إسلامية، مادامت هناك حاجة إليها، وما دامت تتصف بالحيادية التي لا تتعارض مع شيء من قواعد الإسلام ومبادئه. إن التعريف المتداول " للديمقراطية المعاصرة " يميزها عن مفهوم الديمقراطية الكلاسيكية, الذي يعرفها بأنها "حكم الشعب بالشعب وللشعب". يتألف التعريف المعاصر للديمقراطية من العناصر التالية : الآليات، الحيادية، التداول السلمي للسلطة، الاختيار الشعبي.

الآليات، إن عنصر الآليات يبعد الديمقراطية عن أن تكون عقيدة سياسية وفلسفية تحل محل العقائد التي يؤمن بها الناس. فأنت تملك الحق في أن تؤمن بما تشاء وتحافظ على إيمانك بما تعتقده، وان تكون في نفس الوقت ديمقراطيا من خلال تبني الأسلوب الديمقراطي السلمي في تداول السلطة، بعيداً عن كونك مسلما ومسيحيا، مؤمنا بالله، وملحدا، رأسماليا، واشتراكيا، طالما لا يوجد فيما تؤمن به ما يتعارض مع مفهوم التداول السلمي للسلطة . وتشمل هذه الآليات التعدد المفتوح في ظل منظومة الحقوق والحريات العامة. وهي آليات يمكن القبول بها وفق المقاييس الإسلامية ضمن دائرة المباح، حيث العبرة ليس بالآلية نفسها, وإنما بكيفية استخدامها، فجهاز التلفزيون والهاتف والسيارة آليات معاصرة محايدة لا تحمل موقفا قيميا معينا, ولا يتحدد الموقف الإسلامي منها بذاتها، إنما بكيفية استخدامها، بطريقة حرام وبطريقة حلال.

 وفي نفس الإطار لا يمكن القول إن الآليات الديمقراطية مستوردة والإسلام يحرم استيراد الأفكار والآليات. فالموقف الإسلامي على سبيل المثال لا الحصر، لا يحول بين العمال وبين أن ينظموا أنفسهم ضمن هيئة منتخبة منهم، تتولى النظر في مصالحهم، وإن مبدأ حرية العمل وحرية العامل في عمله وكسبه مبدأ أساسي في الدين الإسلامي مادام لا يدعوا إلى التخلي عن الخصوصية القيمية والعقائدية .

الحيادية، الديمقراطية لا تلتزم موقفا قيميا وعقائديا مسبقا من الأشياء, فهي لا تنحاز إلى الأيمان مقابل الإلحاد, وبالعكس, ولا للملكية الخاصة مقابل العامة, ولا لفكرة سياسية مقابل غيرها فتلك خيارات المجتمع والناخبين. الديمقراطية هنا إطار محايد للصورة, أما المضمون والمحتوى, فهو متروك للناخبين, أي للمجتمع ليقرر ذلك. ومن هنا يمكن القول انه لا توجد ديمقراطية مطلقة, إنما هي دائما محكومة بالفضاء القيمي والأخلاقي والثقافي لمجتمعها.

تداول السلطة السلمي، هو جوهر الديمقراطية وميزتها. وفي القرآن الكريم " وتلك الأيام نداولها بين الناس "، حيث لا يوجد في الإسلام ما يفيد في احتكار السلطة.أما الطابع السلمي فهو ما يميزها عن الأساليب الثورية في إحداث التغيير السياسي، ليتم سلميا عبر صناديق الاقتراع. وفي الحقيقة لا مكان للقوة المسلحة في الآليات الديمقراطية، والجيش ليس أداة للتغيير السياسي، فهو جهاز مهني للدفاع عن البلاد، يدين بالولاء الكامل للسلطة السياسية القائمة. فمن الطبيعي أن يقبل الإسلام هذا الأسلوب وهو القائل " ادخلوا في السلم كافة ".

الاختيار الشعبي، إن الحكم حق مطلق للناس, والشعب لا يختار مرة واحدة في التاريخ، إنما يعطي الفرصة لأشخاص كثيرين ليجربوا حظهم في خدمة الشعب, وليس لشخص واحد والى الأبد. إن الانتخابات هي التي توفر المضمون الجوهري لتداول السلطة .

 

مبدأ الخلافة بين الإسلام والديمقراطية

 قد يتبادر هنا سؤال! حول حق الناس في المنظور الإسلامي,في اختيار حكامهم؟ ولمن الحكم في الإسلام؟ والجواب هنا لله. فالله هو الخالق والمالك والحاكم. فمن يخلق يملك ما يخلقه, ومن يملك شيئا يحكمه, والله هو خالق الإنسان والكون فهو مالكهم والحاكم عليهم. وهذا هو معنى" لا اله إلا الله " حيث لا حاكم ولا آمر إلا الله. وهذا منظور فلسفي ومعنوي، ولكن ما الذي يقوله الله في مركز الإنسان في الكون عملياً؟ فهو يقول : " إني جاعل في الأرض خليفة ". فالإنسان بموجب هذه الآية، هو خليفة الله في أرضه، وللخليفة في اللغة العربية معان عدة، منها؛

1- يحل الإنسان خليفة بعد أن يخلو المكان من الله، وهولا يصح فالله معنا في كل مكان.

2- يخلف الإنسان الله في الزمان، وهو لا يصح فالله موجود في كل زمان .

3- أن يحل الإنسان خليفة في وجود الله، ولله هنا مقامان : مقام الخلق،ومقام الحكم .فإما مقام الخلق والتدبير، فلا نحسب انه المقصود، فلم يتبقى لنا سوى مقام الحكم .

 وهذا هو الموقع الذي أراده الله للإنسان في الأرض، فالإنسان هو الحاكم في الأرض بأمر وتخويل سبحانه وتعالى . والخليفة هنا هو المدبر للأمور. والأمور التي استخلف الله الإنسان لتدبيرها هي أمور الإنسان ذاته. ومؤدى هذا هو إن الله سبحانه وتعالى أناب البشرية في الحكم والقيادة . وعلى هذا الأساس تقوم نظرية حكم الناس لأنفسهم بأنفسهم وشرعية ممارسة الجماعة البشرية لحكم نفسها بنفسها . وليس في هذا ما يتعارض مع الإسلام، خاصة إذا تذكرنا إن الإسلام لم يشأ أن يعطي الصورة النهائية للنظام السياسي في مجتمعات المسلمين، وإنما ترك ذلك لهم, يجتهدون فيه بما يتوافق مع حاجة هذه المجتمعات ومستوى تعقيدها. لقد وضع الإسلام عناصر ثابتة للنظام السياسي على شكل قيم عليا وأحكام ثابتة ومؤشرات للسلوك للاسترشاد بها في بناء النظام السياسي. ومن هذه المبادئ والأسس: التوحيد والخلافة والشهادة والشورى والحرية والعدالة.

 تشكل هذه المبادئ قيم عليا, يتحرك المجتمع من اجل تحقيقها, وقد تناولها القرآن والسنة النبوية بالشرح والتأكيد، لكنها تبقى بحاجة إلى آليات تنظيمية لتحقيقها وتحويلها إلى واقع ملموس. وتقع مسؤولية استنباط الآليات المناسبة لتحقيق هذه القيم على عاتق المجتمع نفسه بالعنوان العام وعلى هيئاته الدستورية والتمثيلية والتشريعية بالعنوان الخاص، ولا يمانع الإسلام في أن يستفيد المسلمون من تجارب غيرهم لتحقيق ذات القيم والمبادئ والأهداف .مثلما هي الحاجة للدراسات العلمية والخبرة البشرية، وهي أمور تختلف وتتأثر باختلاف البيئات والأزمنة والظروف. وهذا أمر يقر به كبار المفكرين وبدلاً من اعتباره نقصا، فهو دليلا على مرونة الإسلام وقدرته على استيعاب المتغيرات والتطورات الفكرية التي تشهدها البشرية عبر تاريخها الطويل.

 

الإسلام .. بين السيادة الشعبية وحقوق الإنسان

 قد تكون السيادة الشعبية وحقوق الإنسان مسألتان مترابطتان يصعب تصور أحداهما دون الأخرى وتقديم احدهما على الأخر. فالسيادة الشعبية هي تجسيد نهائي لحقوق الإنسان، يقول مونتسكيو : " إذا كانت السلطة ذات السيادة في الجمهورية قبضة الشعب سمي هذا ديمقراطية " . ويقول البعض إن المدلول الأساسي للديمقراطية يكمن في كون الحكم والقرارات الأساسية لمن يحكمون قائمة على الموافقة الحرة التي يمنحها المحكومون للحاكم. وهو أن يتولى الشعب الحكم من خلال أي شكل من أشكال الحكومة يقوم هو باختياره. وهي تعبيرات مختلفة عن مفهوم السيادة الشعبية وحقوق الإنسان. وإذا كان المسلمون يرون إن الحكم محصور بالمعصوم في عصور حضوره, فان الأمر يعود إلى الجماعة البشرية في عصر وفاته وغيبته،" إن أمر الحكومة الإسلامية بعد النبي وبعد غيبة الإمام كما في زماننا الحاضر إلى المسلمين من غير إشكال ". تسري الولاية بين أفراد مجتمع المسلمين بالتساوي:" والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض, يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ". وهم يتولون ولاية أمورهم عن طريق الشورى" وأمرهم شورى بينهم " .وهذا يشمل من بين أمور أخرى اختيار الحكام واتخاذ القرارات المصيرية وتشريع القوانين الوضعية.

 وفي هذه المعاني الجوهرية يلتقي الإسلام بالديمقراطية فلا تعارض مع مفهوم حاكمية الله، الذي يعتبره البعض بديلا لمفهوم سيادة الشعب . وذلك بعدما نأخذ بالاعتبار:

1- إن الله سبحانه وتعالى لا يمارس الحاكمية بنفسه وليس لأحد النيابة عنه غير النبي والإمام المعصوم.

2-إن الله فوض الإنسان منصب الخلافة الزمنية لممارسة شؤون الحكم في ظل حاكمية الله.

3- إن حاكمية الله تعني استلهام مبادئ الإسلام كمصدر للتشريع .أي إن حاكمية الله هي سيادة الشعب الذي يمارس الحكم وفق مبادئ الإسلام " إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن من الخائنين ".

 

الشورى والممارسة الديمقراطية

 لما كانت الشورى من الأسس العامة التي لم يضع الإسلام نظاما تفصيليا لتطبيقها وممارستها تاركا ذلك لكل مجتمع وفق ظروفه وتطوره وحاجاته، ولما كانت الديمقراطية المعاصرة توفر آليات محايدة, تتيح مشاركة الناس في أمورهم العامة، فمن الممكن الأخذ بها لتطبيق الشورى التي هي العنوان العام لتولي الناس أمورهم بأنفسهم. وعندئذ يصح العمل بالآليات الديمقراطية في إطار الشورى, وتطبيق الشورى بواسطة الآليات الديمقراطية في إطار مرجعية فكرية عليا هي الدين الإسلامي، وان الخلافة التي أعطيت من قبل الله للإنسان عبارة عن استئمان, والأمانة تفترض المسؤولية والإحساس بالواجب.

 هذه المسؤولية يمكن وضعها بصيغة الحقوق والواجبات في ظل حكم العدل والمساواة. وهنا يتضح الثابت من الدين كقيم ومبادئ، وبين المتحرك منه كالقوانين والتشريعات لتسيير أمور الحكم على ضوء تلك المبادئ وهذه هي نقطة اتفاق وانسجام بين الإسلام والديمقراطية. وفي نفس هذا المقياس يمكن أن تشكل نقطة افتراق بين الإسلام والديمقراطية لو أطلق العنان للإنسان بلا مرجعية عليا. فالديمقراطية قد تسمح لبرلمان ما أن يشرع للعلاقة الجنسية بين المثليين, في حين إن الإسلام لا يجيز هذا بأي عنوان، وبذلك لا يجيزه برلمان يمتثل لقيم الإسلام.

 إن الإسلام يقبل ديمقراطية ترتبط بمنظومة من القيم الأخلاقية التي يقول بها والتي يعتبرها عامة وشاملة، وتؤمن بها غالبية المجتمع وتؤلف الروح العامة له. ومن هذه القيم العدل والمساواة والحرية والتسامح والعفو وغيرها . وهو بالمقابل لا يقبل ديمقراطية تخرج عن هذه القيم وتتناقض معها، وليس في الديمقراطية ما يجعل دعاتها يرفضون هذا التحديد والاشتراط.

 

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org