مقالات

الجمال والخراب...!

"ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون" النحل 6

د. مراد الصوادقي

alsawadiqi@maktoob.com

أي بها ء وحسن, فالجمال: الحسن ويكون في الفعل والخُلق. والجُمّال: أجمل من الجميل. وقال ابن الأثير: الجمال يقع على الصور والمعاني. والجمال: حَسَن الأفعال كامل الأوصاف. والجميل الذي يروعك حسنه ويعجبك إذا رأيته.

أما الخراب فهو ضد العمران والجمع أخربة. والخِربةُ: موضع الخراب. ودار خربة: أخربها صاحبها. والإخراب: أن يترك الموضع خربا. والتخريب الهدم. ويمكن القول مدينة خربة وبلاد خربة أي أخربها أهلها. 

الجمال حضارة وثقافة وفن وأسلوب حياة متطورة ناضجة قوية, ومفهوم عام وشامل للاقتراب من التفاعل الحي على وجه البسيطة. فهو ليس وجها جميلا أو لوحة جميلة ومنظر جميل فحسب, بل كل ذلك وأكثر بكثير جدا, وهو  جمال الروح والنفس والعقل والإبداع بكل صنوفه وفروعه الخلاقة.

الجمال نعمة من الله وعلى الإنسان أن يعبر عنها بكل ما يبدر منه بالفعل والقول والفكر. والجمال أصل الوجود وأحد أهم أسباب الخلق وبقاء الأحياء. ولولا الجمال لانتفت الأشياء, لأنه يعني البناء والتقدم والمعاصرة والارتقاء بأساليب التعامل البشري إلى أعلى درجات الانسجام والصدق والأمان.

                                         "كن جميلا ترى الوجود جميلا"

 

وقد عبر نبينا الكريم (ص) بتفاعلاته اليومية عن الجمال, فكان كل ما يصدر منه جميلا ومنسجما مع أفكار السماء التي عبر عنها أروع تعبير. فالجمال منهج الحياة القوية المتقدمة السامية. أما الخراب فأنه صوت الشر والقبح والدمار الروحي والنفسي والعقلي. وكلما أمعنا في خراب ما حولنا, فأننا نخرب أنفسنا وندمر أعماقنا ونحيلها إلى دوامة من الشرور المتأججة التي لا تمنح إلا شرا وضررا متفاقما فتزيد الأخربة وتدفع الناس إلى مرّ السوء والعذاب, وكلما قبحت أعماقنا, كلما زادت الدوافع الضارة عندنا والتي تسخرنا إلى أن نحترف التخريب ولا نخشى العقاب, فتقتل الضمير وتعمي كل عاقل بصير. والخراب حرفة وسلوك نتعلمه في حياتنا  ونقلده وفقا لما نراه  من سلوكيات قائمة ومتفاعلة من حولنا , وناشطة في تأسيس معالم بيئتنا النفسية والوجدانية والفكرية.

وبين الجمال والخراب مسافة شاسعة, كالمسافة ما بين التقدم والتأخر, فالخراب مسيرة انحدار وتأخر والجمال مسيرة ارتقاء وتقدم. وما يحصل من إخراب دائب في محيطنا الاجتماعي يعكس حجم الخراب العظيم في عالمنا الداخلي. فعندما نخرب الإنسان نصنع منه قوة مخربة للذات والموضوع. وهذا سر ما يجري في عالمنا الذي نعيش مآسيه كل يوم ونتفاعل معه بألم وحزن وقهر وإنكار.

وعندما نقارن ما بين العالم المتقدم والمتأخر, نكتشف أن في التقدم قيم أساسية اجتماعية وأخلاقية مرتبطة بالجمال, ابتداء من جمال المظهر والملبس والمسكن والمدرسة والشارع والمحلة إلى جمال المدينة والوطن بأكمله, ونجد أن هناك مسئولية جمالية وحس جمالي غيور. فابن المحلة لا يقبل أن يكون جيرانه بلا جمال منزلي, أو يتسبب بتقبيح الشارع والرصيف ويغضب لذلك كثيرا, ويناهض هذا السلوك ويثور عليه لأنه مرفوض اجتماعيا وقد يتعرض صاحبه للعدالة إذا كرر سلوكه المعادي للجمال لأن هناك تشريعات للجمال والنظافة. ففي العالم المتقدم, كل فرد يهتم بالجمال ويرفض القبح والخراب ويسعى إلى البناء والإضافة الجميلة التي يريد أن تذكرها الأجيال. أما في العالم المتأخر فأن قيمة الجمال ضائعة ومجهولة , بل أنها مدانة ومكروهة, ومن الصعب أن تتحدث عن الجمال في بيئة مزروعة بالخِرَب والدمار والهدم المتواصل.

إن من أقسى الضربات النفسية التي يتعرض لها الناس في أي مجتمع, هي التدمير الشديد لمعالم مدينته وبلدته, لأن هذه المعالم لها قيم نفسية وفكرية وروحية ومؤثرات ومدلولات وطنية وتاريخية ودينية. وقد حصل في بلادنا تخريب غير مسبوق, ودمار مرعب فتك بالأعماق وأصابها بالشدائد النفسية والانفعالية المعقدة. فتدمير الرموز الفنية  يعد جريمة بحق الجمال وتأيدا للخراب وتحطيم للذوق العام, وقد مارسناها وأمعنا بالفتك بكل ما هو جميل وعزيز على قلوب الأجيال. ولهذا تحققت ضربات قاسية وموجعة لقيمة الجمال في حياتنا  وبصورة متكررة, وتمتعت قيمة الخراب بالقوة والهيمنة والسطوة, ولهذا شاع الفعل البشع والجرائم التي ارتكبت بحق الإنسان والانسانية وحق الله والدين والمجتمع والتاريخ, وبسبب الإعلاء الكبير والمؤيد لقيمة الخراب والدمار, والتي لا زلنا نسعى تحت راياتها ولا نعي ما نقوم به من تحقيق الدوافع المضادة للحياة والأمل في أعماق الناس جميعا.

إن الخراب مرض خطير من أمراض العالم المتأخر وقيمة يتم التركيز عليها بقصد أو غير قصد, مما تدفع بالأجيال إلى الانحدار نحو مستنقعات الضياع والإتلاف الذاتي والموضوعي. والتقدم لا يمكنه أن يتحقق من غير إعلاء كبير لقيمة الجمال بكل أنواعه, ابتداء من الكلمة الجميلة والنظرة الجميلة وقسمات الوجه الجميلة إلى أفعالنا الأخرى من صغيرها إلى كبيرها. بهذا فقط نتقدم وإلا فسنعيش خرابا دائما ونذوق هوانا وحزنا لأن الله لا يحب الخراب ويريد منا فعلا وتعبيرا جميلا يقربنا إليه.

ترى هل أن الخراب علة من عللنا المعاصرة؟

وربما يكون الجواب بنعم أقرب إلى واقع أيامنا وتتابع أحداثها وتفاعلات مآسيها وتعاقب دمارها الذي لحق بكل ما يتصل بالحياة في ديارنا. فلا يوجد عندنا رمز جميل إلا وتم تدنيسه بالشرور وصبغه بالدماء والخطايا والآثام. وما حافظنا على حواضرنا ومعالمنا التي تشير إلى دورنا في الحياة وتؤكد مساهماتنا الحضارية, بل أننا قد أسهمنا بما يشوه ماضينا وحاضرنا وبكل جهودنا وتطلعاتنا الوثابة نحو الخراب والقبح. تأملوا جميع مدننا التاريخية وآثارنا الجميلة وكم من الأضرار قد  ألحقنا بها, ولولا المهتمين بالآثار من العالم المتقدم ما عرفناها ولا فهمنا قيمتها الجمالية والحضارية. وكم من مدننا الجميلة وآثارنا الرائعة قد هدمت ونهبت وبنيت فيها زرائب للحيوانات وإسطبلات للبغال والحمير, وكم من الأبواب الخشبية ذات الإبداع الفني الأصيل قد تحولت إلى طعام للتنور والموقد من أجل إعداد الخبز والطعام. وكم من القصور الجميلة التي ورثناها من حضارات قامت في بلادنا قد تم أخذ حجارتها لبناء الخرائب أو فرش أرض البيوت. فلا توجد مدينة أثرية إلا وفيها العشرات من البيوت المبنية من تلك الحجارة التي كانت مادة بناء القصور والمعالم العمرانية البديعة الصنع. وما إلى غير ذلك من المآسي التخريبية القاسية التي لا تحصى ولا تعد.

يبدو كأن الخراب دافع خطير يكمن في لا وعينا الجمعي ولهذا لا يمكن لأحدنا إلا أن يسعى إلى فعل الخراب فيما يسلكه ويقوم به من أفعال, فتراه يخرب الاتفاق والإجماع ولا يعمل مع غيره في طريق واحد, وإنما عندنا نزعة العبث بإرادة المجموع والميل إلى التفرد لأنه من شريعة الغاب والخراب والفتك والتشريد والعذاب, وعلينا أن نعيه ونحذره وأن نبعد الأجيال عنه لكي لا تقاسي وتكرر ناعور الويلات الشديد.

فالقتل خراب, والتهجير خراب, وكل فعل يضر بمصالح الآخرين خراب, وكل ما يؤدي إلى سقوط دمعة واحدة على خد امرأة إنما هو أصل الخراب وجوهره . والجمال ما يشيع البسمة والسعادة والرحمة والمحبة والألفة والسلام, ولنا أن نختار ما بين أن نكون أدعياء خراب أو جمال ومحترفي خراب أو جمال. وما بين أن نكون أقرب إلى الله أم اشد بعدا عنه. ولا يمكننا أن نكون أحباء الله إلا بالتعبير الأمثل عن الجمال بأقوالنا وأفعالنا ومناهضة كل أنواع الخراب الذي يغضب الله ويبعده عنا. وفي الحديث:   "إن الله جميلٌ يحب الجمال".

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org