مقالات

 اشكالية التنظيمات السياسية بين الأسلمة والعلمنة في دائرة العنف بالعراق

 نحو مجتمع مدني ديمقراطي لكل العراقيين

 القسم الأول

 د. خالد يونس خالد - السويد

 المطلوب هو مجتمع مدني يستوعب الديمقراطية بالفكر والممارسة الواعية، والديمقراطية كما قال ونستون تشرشل "أفضل أشكال الحكم ولكنها لا تخلو من عيوب".

 أعالج في هذه المقالة اشكالية التنظيمات السياسية بين الأسلمة والعلمنة باختصار واقتضاب في قسمين إثنين. وفي هذه الاشكالية أحاول أن احدد المحور بتحديد الإسلامية والإسلاموية والعلمانية والعلمانوية، وأحدد أيضا نسبيا وطني الذي أحبه وأريده ديمقراطيا لكل العراقيين، وطنا موحدا بعيدا عن التجزءة والتقسيم، وبعيدا عن السلطوية والحكم الشمولي دينيا كان أو علمانيا، إنما مجتمعا مدنيا بكل المقاييس يساهم في بنائه الجميع بعيدا عن القومجية والعرق، مع حرية الجميع في ممارسة الإرادة الحرية والتعبير عن الرأي سياسيا وعقائديا. ((لا إكراه في الدين قد تبين الرّشد من الغيّ)) سورة البقرة / 256.

 إلى أي حد يمكن قبول تنظيم سياسي ديني أو علماني في المحك العملي، في مجتمع مسلم أو مجتمع شبه قبلي أو مجتمع مدني إن صح التعبير؟ كثيرا ما نقرأ ما يخطه بعض الكتاب ذو توجه ديني بحت برفض التنظيمات العلمانية مؤكدا على التنظيمات السياسية الدينية بديلا لما تعانيه مجتمعاتنا الشرق أوسطية من تخلف، معتبرين العلمانية والعلمانوية دون تمييز بينهما، سببا للتخلف والصراع. وذهبوا أكثر من ذلك بتكفير كل مَن دعى إلى الديمقراطية أو قال بفصل الدين عن الدولة وفصل السياسة عن الدين، دون أي تمييز بينهما أيضا. فهؤلاء لايميزون بين العلمانية والعلمانوية، كما لا يميزون بين مفهوم فصل الدين عن الدولة ومفهم فصل السياسة عن الدين.

 ومن جهة أخرى نقرأ ما يكتبه بعض العلمانيين والعلمانويين برفض التنظيمات الدينية، والدعوة إلى علمنة المجتمع على كافة المستويات، ورفض الدين وجعله سببا للتخلف، بل العمل على محاربة الدين والعداء له واتهامه بالارهاب بدون تحديد لتوجه سياسي ديني او حركة سياسية دينية معينة، معتبرين العلمانية الديمقراطية، بل وحتى العلمانوية الاستبدادية المتشنجة المعادية للعقائد السماوية دينا دنيويا بديلا عن الأديان السماوية، وكأن الله تعالى أرسل رسله لمحاربة البشرية. فهؤلاء أيضا لايميزون بين العقائد السماوية التي تدعو إلى السلام والتعايش السلمي وبين الذين جعلوا الديانات وسائل وحركات سياسية من أجل السلطة الدنيوية.

 الهدف للجانبين هو أن يقبض كل جانب على السلطة لإلغاء الآخر بكل الوسائل المتاحة، لغرض حكم إيديولجية سياسية معينة بأسم الدين، أو حكم إيديولجية سياسية معينة بأسم العلمنة.

 هذه الاشكالية الإيديولوجية من كلا الجانبين خلقت شرخا كبيرا في المجتمعات الشرق أوسطية، ولاسيما في عراقنا اليوم. كل فريق يحتكر الحقيقة لنفسه، ويرفض الآخر، وكل فريق يسيء للمجتمع المدني، وكلاهما أيضا لايعطيان للديمقراطية حقها، ولا للدين حقه، وكلاهما أيضا يستغلان الحقيقة لنفسه لقتل الآخر بوسائل إيديولوجية ديماجوجية، مما أدت إلى جعل المجتمع العراقي مجتمع الميليشيات العسكرية والمذهبية والطائفية. إنه مجتمع الاحتلال الذي تحكمه الولايات المتحدة بأسم الديمقراطية يوما وبأسم الدين يوما آخر. فلا العراق مجتمع مدني ديمقراطي ولا هو مجتمع مدني اسلامي. إنه مجتمع البؤس والخوف والفساد المالي والإداري في أعلى مراحله من كردستان العراق التي سقطت في الحضيض إلى جنوب العراق الذي يعيش بين الحديد والنار ، بينما بغداد الصمود والمجد تحولت إلى ساحة التصفيات الجسدية بين هذا وذاك، إضافة إلى آلاف البؤساء في السجون الأمريكية في عاصمة الرشيد، وما رأيناه في (أبو غريب) بالأمس، وما رأينا اليتامى العراقيين في دور الأيتام بعد ذلك، وما رأينا إذلال الإنسان العراقي بيد الغرباء الذين يتبجحون بالديمقراطية وهم يفتكون بأرواح العراقيين في العاصمة، بعد أن جاؤوا إلينا عبر المحيط الأطلنطي، إلاّ أدلة دامغة تدين المتاجرين بالدماء العراقية الذكية.

 ومن جانب آخر هناك مَن يصفق للصهيونية وعدوانية جورج بوش الذي قتل ملايين العراقيين والمسلمين في الشرق الأوسط. وفي غمرة هذه الأحداث نرى بعض أصحاب العمائم يدافعون عن العنف والقتل والارهاب في عراقنا، ولازال هناك أيضا كُتّاب أصبحوا أمريكيين جمهوريين جدد أكثر من جورج بوش، ويدافعون عن سياسات أمريكا العدوانية في عراقنا. ولا زال هناك مَن يدافع عن نظام صدام حسين البعثي والحركات الارهابية، والشعب العراقي بما فيه كرد العراق في كردستان العراق، أصبح شعبا مهاجرا وفقيرا وذليلا في غمرة قادة عرب وكرد يهربون مليارات الدولات إلى الخارج، دون أي واعز ضمير.

 الوعي لايمنعنا أن نرى كيف أن الرئيس الأمريكي جورج بوش الذي يرقص معه كثير من قادة العرب والمسلمين، وأولمر الصهيوني الذي يصافحه كثير من القادة الفلسطينيين والعرب والكرد أسوء نماذج للديمقراطية الاستبدادية التي تقتل أطفالنا ونساءنا وأهلنا في العراق وفلسطين وأفغانستان والصومال وكثير من بلاد المسلمين، والديمقراطية بريئة منهم. إنهم يستخدمون الديمقراطية سلاحا لاجهاض الديمقراطية وقتل الشعوب. ومقابل ذلك هناك بعض المنظمات الإسلاموية التي تقتل المدنيين في بلادنا بأسم الدين والدين براء منهم.

 

مفاهيم سياسية ينبغي تحديدها لفهم اشكاليات السياسة والعلمنة والأسلمة

 قال الحكيم الصيني كونفوشيوس ينبغي أن نحدد المفاهيم حتى نستطيع أن نتحاور ونتفاهم فيما نبحثه ونعالجه. من هذا المنطلق أجد ضرورة فهم بعض المصطلحات التي يتباين الناس في فهمها. ومن هذه المفاهيم التي تخص بحثنا هي:

 

السياسة من وجهة نظر بعض المفكرين العلمانيين

  السياسة تعني: "فن العمل في حدود الممكن" أو "فن إدارة شؤون الحكم" أو "علم الدولة" أو "فراسة تنظيم الجماعة" أو "دراسة مذهب الدولة ومذهب القانون" أو "دراسة الدولة ودراسة السلطة التي هي مظهرها". وعليه فالعلمانيون، وهنا لا أعني العلمانيين الكاريكاتيريين الصراعيين الذين يحاربون الدين كما في بعض دول العالم الثالث، إنما أعني العلمانيين الديمقراطيين كما في العالم الحر، يؤكدون على المجتمع المدني باعتبار أن العلمانية تحمي الدين من تدخل الدولة وسيطرتها عليه، وتحمي الدولة من تدخل الدين وسيطرته عليها، وتعطي الحق للجميع في التعبير عن الرأي في إطار القانون بعيدا عن العنف. فالسياسي الألماني هلموت كول، قبل بضعة سنين، كان مستشارا لألمانيا الأتحادية ستة عشر عاما وهو يمثل الحزب المسيحي الألماني الموحد CDU الذي حاز على غالبية الأصوات في الانتخابات أنذاك، إلى أن حل محله شرودر زعيم SPD في الانتخابات اللاحقة. وكذلك في السويد اليوم حيث الحزب الديمقراطي المسيحي السويدي، وله 24 مقعدا في البرلمان السويدي الحالي منذ انتخابات عام 2006 ويشارك في الحكومة السويدية أيضا. وهذا الحزب لايدعو الى ربط الدين بالدولة، إنما يمارس السياسة ويعمل من أجل تسهيل فهم الأفكار المبنية على الأخلاق الدينية، في حالة السويد، النصرانية، ويؤيد الديمقراطية بشكل لايعادي الدين، وبعيدا عن التعصب الديني. إذن ينبغي هنا فصل الدين عن الدولة في دولة مدنية، وهذا الفصل لايمنع أحد من ممارسة العمل السياسي في حدود القانون، والحق في ممارسة الإرادة الحرة بعيدا عن العنف.

 

السياسة من وجهة نظر بعض الفقهاء المسلمين

السياسة "تعني إدارة شؤون الرعايا". ومن هذا المنطلق يعتبر هؤلاء حكم الرسول محمد عليه وعلى آله الصلاة والسلام حكم سياسي مدني منذ البداية باعتباره كان رئيس الدولة الإسلامية لإدارة شؤون الرعايا المتواجدين في دار الإسلام من مسلمين وذميين. وباعتبار أن الخلفاء الراشدين كانوا يتبعون سنة الرسول عليه وعلى آله الصلاة والسلام، وأن القرآن دستور الدولة، وهو ينظم شؤون الدين والدنيا، ودولة الخلافة الراشدية كانت سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وفكرية بالمعنى الكبير للكلمة، وليست دولة دينية للمسلمين فحسب. واستنادا إلى هذه المعطيات النظرية الاسلامية، فإنه ينبغي فصل الدين عن الدولة حيث يحمي كل واحد الآخر بعدم إلغاء أحد للآخر، ولكن لايمكن فصل السياسة عن الدين، خاصة إذا اعتبرنا بأن السياسة تدخل اليوم في شؤون الحياة الإنسانية. فإذا ما إنفصلت السياسة عن الدين، طبقا لهذا التفسير، يعني إجهاض الدين، وجعله "مسألة شخصية". وقد أجاد الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري في معرض رده على بعض الصحف الفلسطينية التي طلبت منه، وهو الشاعر الكبير، عدم تعاطي السياسة. قال: ماذا يعني عدم تعاطي السياسة، والسياسة أصبحت اليوم جزء من الحياة اليومية؟ عدم تعاطي السياسة يعني حمار. ثم قال: "نعم ... والآن، وعلى ذكر فلسطين وقصائدي الحلوة والمدوية، تشتمني مجلات فلسطينية، لأنني لا أدين بزعامات مزيفة، أدين بالشعب الفلسطيني المضطهد المظلوم". (الجواهري، في مقابلة أجرتها معه مجلة الموقف العربي، في 8 يونيو 1992).

 وعليه إذا ماسلمنا بعدم قدرة أي فرد أو جماعة إدارة شؤون الرعايا بدون تكتل أو تجمع سياسي منظم، فإنه ينبغي للمسلمين أيضا، كما للعلمانيين من مسلمين وغير مسلمين تنظيم أنفسهم في حزب سياسي له منهاجه ونظامه الداخلي في حدود القانون، بعيدا عن ممارسة العنف.

 

السياسة وعلم السياسة وفن السياسة

 هنا أجد من المهم الإشارة إلى التمييز بين السياسة وعلم السياسة وفن السياسة، لأضع النقاط على الحروف في معالجة اشكالية تسييس الإسلام وعلمنة المجتمع في دائرة العنف بالعراق.

 أرجع إلى مفاهيم أستاذي الليبرالي هشام الشاوي الذي درّسني العلوم السياسية بكلية القانون والسياسة - جامعة بغداد فيما يتعلق بالسياسة، وهو يعَرفها كما يلي:

"هي القيام على الجماعة بما يصلحها في حدود مفاهيمها الأخلاقية، إنها الممارسة الفعلية لمسؤولية عامة، رسمية أو غير رسمية، تنبثق من صميم حياة الجماعة ككل وتهتم بشؤونها المتجسدة في الدولة والحكومة والقانون" (هشام الشاوي، مقدمة في علم السياسة، مكتبة المدائن، 1970 ، ص 5).

 

ويعَرف علم السياسة بالشكل التالي:

"إخضاع الممارسة الفعلية (المسؤولية العامة المعنية بالدولة والحكومة والقانون وأصولها وتصورها وتنظيمها وعلاقاتها ومبادئها النظرية) للأستقراء العلمي بملاحظته الموضوعية وتحليله المنطقي وإستنتاجاته المستندة إلى ذلك، وتصنيف جميع ذلك في كل موحد من المعرفة العلمية والموضوعية ودراسته والبحث فيه". (المصدر نفسه، ص 6).

 ويعرف فن السياسة بأنه: "مجموعة من القواعد العامة والأساليب في السلوك السياسي التي تضمن حين تطبق، الكفاءة الضرورية في ظل الأفراد والمسؤولين والمؤسسات السياسية".(نفسه،ص 7).

 

الإسلام والإسلاموية والعلمانية والعلمانوية

 وهنا ينبغي التمييز بين مفهومي الأسلام والإسلاموية والعلمانية والعلمانوية:

 الإسلام عقيدة مبنية على ثلاثة أفكار أساسية: التوحيد والعدل والشورى.

 يقول الدكتور عدنان علي رضا الخوئي أن التوحيد هو الحقيقة الكبرى في الكون، وهو الحق الذي قامت عليه السموات والأرض، وهو محور الرسالات كلها، وكانت هذه الحقيقة محور رسالة محمد عليه وعلى آله الصلاة والسلام، وجاء القرآن وجاءت السنة الشريفة لتعالج هذه القضية الكبرى. (ينظر: الخوئي، التوحيد وواقعنا المعاصر، ط2، دار الخوئي للنشر، 1993، ص17-18 ).

 ويقول الشيخ عبد المجيد الزنداني في تفسيره لعلم التوحيد مايلي: "هو علم يبحث في إثبات العقائد الدينية بالأدلة اليقينية العقلية والنقلية التي تزيل كل شك ...". (الزنداني، كتاب التوحيد، ج1، ط2، دار السلام، القاهرة 1989،ص5).

 وعليه فأهم بحوث التوحيد هو توحيد الله سبحانه وتعالى. أما العدل فأساس الحكم. يقول الله تعالى: ((وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل)) (سورة النساء، 58).

 وأكد الشيخ رشيد رضا، تلميذ الشيخ محمد عبده، أن الاسلام ينطوي على أمرين: "القول بالتوحيد، والشورى في شؤون الدولة. وقد حاول الحكام المستبدون حمل المسلمين على تناسي الثاني بتشجيعهم على التخلي عن الأول". (رشيد رضا، المنار والأزهر، عدد 9 (1906-1907) ، ص357 وما بعدها).

 ينبغي أيضا أن اشير هنا إلى الشيخ الليبرالي الكلاسيكي المتنور محمد عبده في قوله "إنه ليس في الإسلام سلطة دينية، سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير عن الشر ...". (محمد عمارة، الإمام محمد عبده مجدد الدنيا بتجديد الدين، ط2، دار الشروق، 1988، ص93).

 وقال الشيخ عبده أن الأمة قد انحطت لسبب معين وهو:

 "أن الذين حافظوا على عناصر الإيمان الجوهرية قد اخذوا يفقدون روح التوازن ويتناسون الفرق بين الجوهري وغير الجوهري، فراحوا ينظرون إلى التنظيمات التفصيلية للمجتمع الإسلامي الأول كما لو كانت من قواعد الإيمان يقتضي لهم طاعتها طاعة ثابتة عمياء. وهذا نوع من التطرف في التمسك بمظاهر الشريعة". (محمد عبده ، نقلا عن البرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، ط2، دار النهار، 1977، ص185).

 أما الإسلاموية فتعني، تمييزا عن الاسلام، الاستخدام المتطرف جدا إلى درجة الغلو للعقيدة الأسلامية في النظرية والممارسة، ولا سيما الممارسة السياسية. وعليه ينبغي عدم الربط بين العمل الحزبي الاسلاموي الذي قد لا يمثل الاسلام الحنيف دائما كعقيدة، عندما يجعل المتحزبون الاسلامويون من الاسلام غطاء للتحزب الاسلاموي من أجل الوصول إلى السلطة بالعنف، في حين أن السلطة في الاسلام الحنيف وسيلة وليس غاية، وسيلة لتثبيت فكرة التوحيد وتحقيق العدالة. أما وأن تكون السلطة غاية بحد ذاتها، فليس من الاسلام بشىء. لأن جعل السلطة غاية يجعل من الاسلام سلاحا لقهر الآخرين، والاسلام لم يأت لقهر العباد إنما لتثبيت الفكرة العظيمة وهي وحدانية الله تعالى وتحقيق العدل والمساواة والعدالة السياسية والاجتماعية القائمة على الشورى.

 

أما العلمانية فيقول الدكتور صلاح نيوف أن:

"العلمانية التي علينا المطالبة بها تضم جانبين أساسيين : الأول يتعلق بتنظيم" المدينة" وهي العلمانية السياسية ، والثاني يرتفع و يرتقي بإدراك وتصور الحياة. الدولة العلمانية، هي تلك التي تحقق فصلا فعليا وحقيقيا بين الفضاء العام و مؤسساته (التي هي إرث مشترك)، وبين المؤسسات الدينية " كنيسة، جامع...الخ" ومعها القناعات الدينية أو الفلسفية المختلفة (التي تعود للفضاء الخاص للمواطن) إنه الشيء الوحيد الذي يضمن المساواة بين المواطنين مهما كانت قناعتهم كما يضمن نزاهة وتجرد السلطة. إنه الضمان الوحيد لحرية كاملة في الاعتقاد والإيمان، و حرية في التفكير... وفي الدين أيضا ... في الواقع هناك استحالة مطلقة لقيام أية ديمقراطية من غير علمانية سياسية وهذا المتطلب هو مشترك بين جميع الديمقراطيين كانوا ليبراليين، مسيحيين، إسلاميين أو إسرائيليين. ضمن هذا المعنى، العلمانية ليست فريقا صغيرا sous-groupe في المجتمع سيتفق على " الاعتراف " بفريق آخر، بل إنها مبدأ لتنظيم الأشياء العامة المؤسسة على رؤية كلية شمولية للمجتمع. ولكن بمعنى آخر، نفس الكلمة " العلمانية " تنظر ليس فقط إلى متطلب يتعلق بالتجرد و النزاهة أو إلى استقلالية كاملة للسلطات العامة تجاه القناعات الدينية أو الفلسفية، ولكن أيضا مفهوم للحياة حيث الأسس المكونة لحياتنا (الدولة و المجتمع) ليست طائفية بل هي غريبة عن كل مرجعية سماوية، ما فوق طبيعية surnaturelle أو متعالية. هذا المعنى الثاني هو في نفس الوقت أكثر اتساعا (حيث أنه يتضمن أكثر من متطلب "سهل" للفصل بين الدين والدولة).إنه ضمن هذا المفهوم هنا، نحن نستطيع أن نستخدم المصطلح "علمانية"عندما نعرّف"بفتح الراء" أو يتم تعريفنا بشكل فردي individuel. (ينظر: الدكتور صلاح نيوف، مقال نحو فهم للعلمانية، ج1، رابط حزب الحداثة والديمقراطية السورية).

 أما مصطلح العلمانوية فيقابل مصطلح الاسلاموية، أي تصغيرا للعلمانية، ويعتبر هو الأخر استخدام متطرف للعلمانية برفض الدين ومحاربته وإلغاء حقه في العمل التنظيمي بغض النظر عن التزامه بالقانون وعدم ممارسة العنف. وعليه فالعلمانوية، تمييزا عن العلمانية الديمقراطية، لاتمثل المجتمع المدني، إنما تمثل التطرف الدنيوي المعادي للدين في حياة الانسان والمجتمع، وتدخل حدود الانحراف العقائدي والاستبداد ورفض العقائد السماوية.

 

آراء في قبول وعدم قبول الأحزاب الدينية في الإسلام

 مع قناعتي بحق الجميع في التنظيم علمانيا كان أو دينيا، فإنني شخصيا أحبذ عدم تحول الإسلام إلى أحزاب سياسية دنيوية تصبح عملا سلطويا من أجل السلطة الدنيوية، وتُشَرزم الاسلام وتفَرقه إلى فرق متناحرة لايصب في صالح الإسلام الحنيف الذي هو دين الله ((ورضيت لكم الإسلام دينا)) (سورة المائدة، 3)، ((إن الدين عند الله الإسلام)) (سورة آل عمران، 19). وهو دين وحدانية الله تعالى ودين العدل والمساواة والشورى. وعليه فالسلطة الدنيوية في الإسلام ليست غاية أبدا إنما وسيلة في المنهاج الاسلامي.

 وهناك أراء مماثلة بهذا الصدد أشير إلى بعضها. ومن هؤلاء الشيخ الشهيد حسن البنا مؤسس الأخوان المسلمين الذي أسس الجماعة كدعوة للإصلاح وليس كحزب سياسي، وقال:

"وكل ما يستتبعه هذا النظام الحزبي، من تنابز وتقاطع، وتدابر وبغضاء يمقته الإسلام أشد المقت، ويحذر منه في كثير من الأحاديث والآيات. وتفصيل ذلك يطول وكل حضراتكم به عليم ... وفرّق أيها الإخوان بين الحزبية التي شعارها الخلاف والانقسام في الرأي والوجهة العامة وفي كل ما يتفرع منها، وبين حرية الآراء التي يبيحها الإسلام ويحض عليها، وبين تمحيص الأمور وبحث الشؤون والاختلاف فيما يعرض تحريا للحق، حتى إذا وضح نزل على حكمه الجميع، سواء كان ذلك إتباعا للأغلبية أو للإجماع، فلا تظهر الأمة إلاّ مجتمعة، ولا يرى القادة إلاّ متفقين. أيها الإخوان لقد آن الأوان أن ترتفع الأصوات بالقضاء على نظام الحزبية في مصر، وأن يستبدل به نظام تجتمع به الكلمة وتتوحد به جهود الأمة حول منهاج إسلامي صالح تتوافر على وضعه وانفاذه القوى والجهود". (رسالة الإمام حسن البنا في مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين في محرم 1358هـ) .

وأكد حسن البنا:

"ان الفارق بعيد بين الحزبية والسياسة. وقد يجتمعان وقد يفترقان. فقد يكون الرجل سياسيا بكل ما في الكلمة من معان وهو لا يصل بحزب ولا يمت اليه، وقد يكون حزبيا ولا يدري من أمر السياسة شيئا ، وقد يجتمع بينهما." (المصدر نفسه).

 وشدد السيد محمد مهدي شمس الدين الزعيم الروحي للشيعة ورئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان بصدد دخول الحركات الإسلامية في السياسة ما يلي:

"على عدم جواز دخول الحركات الإسلامية الأصولية في لعبة السياسة والسلطة، وبالتالي عدم لجوئها إلى العنف كتعبير عن معارضتها لأي سبب من الأسباب، مشددا على أن إستراتيجية الصهيونية، وأدوات النظام العالمي الجديد هي زرع التفرقة والإقتتال في العالم الإسلامي". (مجلة الوطن العربي ، العدد 1029 ، 22 نوفمبر 1996 ، ص4).

وقال أيضا:

"لا ينبغي لها (للحركات الإسلامية) أن تجعل الوصول الى السلطة السياسية أو المشاركة بالسلطة السياسية من أهدافها. وأثبتت التجارب في هذه المرحلة صحة رؤيتنا فيما نعتقد، لعل هناك مَن يخالفنا الراي لكنني أستعرض التجربة الجزائرية وآثارها، أستعرض التجربة الأردنية وآثارها، أستعرض تجارب أخرى لم تصل بعد ولكنها تحملت تكاليف كبيرة " . (الوطن العربي ، المصدر نفسه ، ص 5)

 وقال بوضوح اكثر هذه الحقيقة:

"العنف ممنوع كوسيلة للتعبير عن المعارضة السياسية. نصحتُ قيادة (حزب الله)، بعدم دخول الانتخابات. أحذر من استخدام الحركات الإسلامية بشكل خفي من قبل قوى شريرة . ما يجري في الجزائر لايخدم الإسلام في شئ ، بل تحول الى عصبية قاتلة " . (الوطن العربي، المصدر نفسه، ص5-7.)

أرجع الى فقهاء السنة مرة اخرى، وتحديدا أحد كبار الأئمة الشيخ محمد متولي الشعراوي المتوفي عام 1998، الإمام والشاعر والمفكر المجدد الذي إحتجت عليه اسرائيل، وقالت عنه امريكا "أسكتوا الشعراوي"، عمل مع الإخوان المسلمين، ثم ترك العمل الحزبي بعد أن إطلع على خفايا العمل السياسي الاسلامي المتحزب، فأنكره وقال:

 "حين أجد شخصا يقول : أنا عايز أحكم علشان أطبق الإسلام، أقول له أنت كذاب !!! قل أنا أريد أن أُحكَم بالإسلام أصدقك !!! لكن أنك تحكم أنتَ بالإسلام ، لا ، لا تنفعني !!! ولهذا فأنا أقول وأنادي بأنه أريد أن أُحكَم بالإسلام ، لماذا ؟ لأن الذي يريد أن يتهافت على حكم دولة، نعرف أنه يريد خيرها لنفسه".

 (محمود فوزي، الشيخ الشعراوي من القرية الى القمة، مقابلة مع الشعراوي، ط6، دار المعارف، القاهرة، ص 78).

 وقال أيضا في معرض جوابه على سؤال: هل توافق على عمل علماء الدين بالسياسة الآن ؟ قال:

 "لا أوافق على هذا الآن. لأن السياسة غير الدين الآن، ولكن عندما يكون الدين هو السياسة وتكون السياسة هي الدين تبقى قضية أخرى". (المصدر نفسه).

 وسُئِل هل يمكن أن تقوم أحزاب على أساس ديني ؟ أجاب : " أنا لا أقبل كلمة أحزاب سياسية على أساس ديني. فالسياسة صراع فكري بشري ضد فكر بشري آخر. أما الدين فهو خضوع فكر بشري لفكر سماوي، والفرق بطبيعة الحال كبير ولا يحتاج الى شرح أو ايضاح". (الشيخ الشعراوي من القرية الى القمة، المصدر السابق، ص 44 ). 

 يتبع: القسم الثاني

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org