مقالات

فهم آيات القرآن الكريم، يجب أن يرتبط بالشروط الموضوعية في الزمان، والمكان(3)

 محمد الحنفي

5) فما يقتضيه المنطق العلمي الرصين، هو أن فهم زمن مضى، لا ينسحب على زمننا.

فالزمن الماضي هو زمن متخلف بكل المقاييس: الإقتصادية، والإجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية. وتخلفه ينسحب على المستوى المعرفي، والعلمي، والفكري، ومصدر تخلفه: الشروط الموضوعية التي كان يعيشها الناس في ذلك الوقت، وعلى جميع المستويات: الاقتصادية والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، وفي جميع البلدان العربية، وباقي بلدان المسلمين. وتلك الشروط المتخلفة، كانت تعتبر متقدمة بالنسبة إلى ما سبقها، ومتخلفة عما أتى بعدها.
ومن وجهة نظرنا، فالأمر كله يتعلق بتطور التشكيلة العبودية، إلى التشكيلة الإقطاعية، إلى التشكيلة الرأسمالية، في أفق استنفاذ تجددها، إلى التشكيلة الاشتراكية، كمشروع إنساني مجتمعي، تحلم البشرية الكادحة بتحقيقه. وبناء على هذا التمرحل في التشكيلة الاقتصادية ـ الاجتماعية، نجد أن كل مرحلة من مراحل التشكيلات المختلفة، تتخذ طابعا تاريخيا، يجعل منها ظاهرة لا تتكرر، ولكن الأفكار المأخوذة عنها، والقيم الملتصقة بالمسلكيات الفردية، والجماعية، التي تداخل القيم المتطورة، والمتفاعلة مع الواقع، في مختلف المجالات الإقتصادية، والإجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية. واستمرار الأفكار، والقيم، التي تداخل المسلكيات، لا يعني أبدا استمرار الزمن الماضي، في الزمن الحاضر، ولا استرجاعه، ولا إحياءه بعد موات؛ لأن ذلك كله لا يعني إلا شيئا واحدا: وهو أن التاريخ لا يعيد نفسه، بقدر ما يمكن أن نعتبره تجربة، يمكن أن نستفيد منها مما هو ايجابي. ويمكن أن نستنسخها. وكل القيم الإنسانية تعتبر أن الاستنساخ غير مشروع. لأنه لا يتجاوز أن يكون تشويها للأصل، والأصل لا يتجاوز مرحلة بشروطها الموضوعية، التي لا تتكرر، مع الإقرار بان المستنسخ لا يعيش طويلا.
ولذلك نجد أن الفهم الذي كان سائدا للنص الديني، في المرحلة كان المجتمع فيها ينقسم إلى أسياد، وعبيد، كان محكوما بقيم استغلال الأسياد للعبيد، وان الأسياد كانوا يفهمون من القرآن، والسنة، ما يناسب تأبيد سيادتهم. وهذا ما جعلهم ينتفضون ضد بعض الآيات، التي تساوى بين الأسياد، والعبيد، وهو نفسه الذي ألبهم على العبيد الذين اعتنقوا الدين الإسلامي: لينتقموا منهم. والشروط التي كان يعيشها العبيد، هي التي جعلتهم يفهمون من القرآن، ومن السنة، ما يجعلهم يسترجعون إنسانيتهم، التي سلبها الأسياد منهم.
فشروط الأسياد ليست هي شروط العبيد، وفهم الأسياد، ليس هو فهم العبيد.
وعندما تختلف الشروط في المرحلة الإقطاعية، نجد أن انقسام المجتمع إلى إقطاعيين، وأقنان، يؤدي بدوره إلى جعل الإقطاعيين يفهمون من الكتاب، والسنة، ما يساهم في إعطاء الشرعية لاستبدادهم بالواقع الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي، والسياسي، حتى يستمروا في استغلال الأقنان، كما يؤدي إلى جعل الأقنان يلتمسون فهم ما يجعلهم يحصلون على قطعة أرض زراعية، حتى يتحرروا من استقلال الإقطاعيين لهم. وما يفهمه الإقطاعيون، لا يمكن أن يفهمه الأقنان، لاختلاف الشروط الموضوعية لكل منهما؛ لأنه لو اتفق الفهم لزالت العقبات القائمة بين الطبقة المستغلة، التي تتشكل من الإقطاعيين، والطبقة المستغلة التي تتشكل في مثل هذه الحالة من الأقنان. ولأن الإقطاعيين لا يملكون القدرة على تضليل الأقنان، فإنهم يوظفون لهذه الغاية مجموعة من الأشخاص الذين يعملون على تأويل النص الديني بما يخدم مصلحة الإقطاعيين، من خلال التضليل الممارس على الأقنان، حتى يصير ما يصدر عن الإقطاع جزءا لا يتجزأ من الدين، ويقبل الأقنان ذلك، على انه من إرادة الله، وهذا التضليل الذي مورس من قبل الإقطاعيين على الأقنان، هو الذي فرض استمرار سيطرة التخلف لقرون طويلة، ضدا على مصلحة الفلاحين الأقنان، المرتبطين بالأرض.
وهذه التشكيلة الإقطاعية التي دامت قرونا طويلة في أوربا، وما شابهما في البلاد العربية، التي كانت تعرف تقدما يتم كبحه، كلما ظهر انه صار يتناقض مع التشكيلة القائمة، ليستمر ذلك الكبح إلى يومنا هذا، رغم اختلاف الشروط، صارت عقبة كأداء أمام أي شكل من أشكال التقدم والتطور.
وعند قيام الثورة الصناعية التي انتجت دولا رأسمالية قوية، برزت في الواقع طبقتان رئيسيتان: الطبقة البورجوازية المالكة لوسائل الإنتاج، والطبقة العاملة المشغلة لتلك الوسائل، لتظهر بذلك تشكيلة أخرى، هي التشكيلة الاقتصادية / الاجتماعية الرأسمالية، التي قامت على أنقاض التشكيلة الاقتصادية / الاجتماعية الإقطاعية، واستطاعت، بعد بضعة عقود، أن تؤثر في مصير العالم، عن طريق اعتماد القوة، لتعميم نمط إنتاجها، لتصير الطبقات الرئيسية في معظم المجتمعات، هي الطبقة البورجوازية، والطبقة العاملة، وما بينهما. ولكل طبقة مصالحها، وبالتالي: فان الشروط اختلفت، ولا بد أن يصير فهمنا للقرآن، وللسنة، مختلفا أيضا، تبعا لإختلاف الشروط.
فالطبقة البورجوازية، لا يمكنها أن تفهم من النص الديني إلا ما يخدم مصلحتها، التي تدفعها إلى البحث عمن يقوم بأدلجة الدين الإسلامي، لإعطاء الشرعية لاستغلالها للطبقة العاملة، ولسائر الكادحين، في الوقت الذي نجد فيه أن الطبقة العاملة، وسائر الكادحين، يكونون محكومين بشروط أخرى، تقتضي فهما متناسبا معها، حتى يصير الدين الإسلامي، من خلال نصوصه، مصدرا للقيم النبيلة التي تتحقق معها كرامة الإنسان: الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية.
وفي نفس السياق، فالطبقة الوسطى تحاول أن تتلاءم مع الشروط التي تخدم مصلحتها، فتتبنى إما فهم البورجوازية للنصوص الدينية: ( القرآن، والحديث)، وإما فهم الكادحين، وطليعتهم الطبقة العاملة. وإلا، فان هذه الطبقة الوسطى، ستفرز من يتصدى لأدلجة الدين الإسلامي، انطلاقا من توجه سياسي معين، قائم على أدلجة الدين الإسلامي، من أجل العمل على توظيف الدين الإسلامي، انطلاقا من الفهم القائم على تأويل النصوص: إيديولوجيا، وسياسيا، سعيا إلى تأييد الاستبداد القائم، أو للعمل على فرض استبداد بديل.
وهكذا يتبين أن النص الديني: (القرآن، والحديث) ثابت، وأن فهمه متحول، حسب تحولا الشروط الموضوعية التي لها علاقة بالزمان، والمكان، وبالاقتصاد، والاجتماع، والثقافة، والسياسية.
ولذلك، لا يمكننا، ونحن في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، أن نردد نفس فهم القدماء للنص الديني، لأن ذلك يحولنا إلى مجرد مرجعين، ومرددين، بينما يفترض فينا: أننا نعمل على معرفة، متطورة، ومتقدمة، ونعيش أرقى ما وصلت إليه التكنولوجية الحديثة، التي تسرع بعملية التطور الرأسمالي، في أفق استنفاذ تطوره، كما هو حاصل على أرض الواقع، حيث صار يتبين أن الحاجة إلى استسراع قيام تشكيلة اقتصادية، واجتماعية جديدة، تقتضي التحول المتسارعن في فهم النص الديني.
فهل بعد هذا يمكن أن يطالبنا السيد فايز عزيز – من لندن، باعتماد تفسير الأوائل؟
وهل يمكن القول بأن ما كان قائما في الزمن الماضي، سيبقى قائما في عصرنا هذا؟
6) وهذا الاستنتاج الذي وصلنا إليه، يضطرنا إلى القول بضرورة إعادة قراءة النصوص الدينية: (القرآن، والحديث)، على ضوء مستجدات العصر، من أجل تجاوز الفهم المتخلف، الذي يحكم فهم النصوص الدينية، إلى يومنا هذا، وعلى يد مؤدلجي الدين الإسلامي، الذين ينتمي إليهم معظم الأئمة، الذين يستغلون المساجد لنشر أدلجة الدين الإسلامي، بل ويصدرون فتاوى القتل، التي صارت موضة مبطنة من خلال الحزبوسلامي.
فماذا نعني بضرورة إعادة قراءة النصوص الدينية؟
وما المراد بإعادة القراءة تلك؟
وهل يمكن إنتاج معرفة جديدة، بإعادة قراءتنا للنص الديني؟
إننا عندما نرصد القراءات المتداولة للنصوص الدينية، نجد أن معظمها لا يتجاوز أن يكون ترديدا، وترجيعا للقراءات القديمة، التي صارت بدورها نصوصا دينية مقدسة، مع أنها ليست وحيا، بقدر ما هي من إنتاج البشر، وهذا الترجيع، والترديد، لا يمكن أن يكون إلا قالبا تقاس عليه الأفكار، والممارسات البشرية، فما ناسبه كان "إسلاميا"، وما لم يناسبه، خرج عن الدين الإسلامي.
والذين يتمسكون بالقراءة، أو بالقراءات القديمة، يحرصون على إخراج المجتمع وفق قوالب القدماء: اقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا، وسياسيا، على اعتبار أن تلك القراءة هي الدين الإسلامي. والواقع أن التمسك بالقراءة القديمة، يهدف إلى إعطاء الشرعية للممارسة الفكرية، والإيديولوجية، للمتمسكين بالقراءة القديمة. والبحث عن الشرعية لا يعنى إلا تحويل الدين الإسلامي إلى ممارسة إيديولوجية، من منطلق: أن معظم القراءات القديمة، هي قراءات إيديولوجية، لا علاقة لها بالتاريخ، بقدر ما لها علاقة بالأيديولوجية، كتعبير عن المصالح الطبقية.
فالقراءة التاريخية، هي قراءة تستحضر امتلاك آليات القراءة أولا، والانطلاق من الشروط الموضوعية التي يعيشها القارئ، لا من أجل ملاءمة النص الديني مع الواقع، بل من أجل جعل فهم النص الديني منسجما مع الواقع، حتى نجعل النصوص الدينية، بذلك، صالحة لكل زمان، ومكان. وعمل كهذا، لا يعني التنكر للقراءات القديمة، البريئة من الأدلجة الدينية، . بل إن الرجوع إلى مثل هذه القراءات، من اجل الاستئناس بها، ومن اجل إغناء خبرتنا بالنص الديني، يعتبر ضروريا، إذا كان يساعد على ملاءمة فهمنا للنص الديني مع الواقع المتحول، والمتطور. فإذا لم يساعد على ذلك، كانت الأولوية للشروط الموضوعية القائمة. أما القراءة الإيديولوجية، فهي قراءة خارج التاريخ، لأنها لا تشترط امتلاك الآليات، ولا تستحضر الشروط الموضوعية في الواقع، بقدر ما تستحضر المصلحة الطبقية فقط؛ مما يجعل النص الديني، نفسه، في خدمة تلك المصلحة.
ولذلك فالقراءة الأيديولوجية في مرحلة الخلفاء الراشدين، تبقى هي هي، في جميع العصور، رغم هذا الركام الهائل الذي دونه مؤدلجو الدين الإسلامي؛ لأنه ليس إلا ترجيعا، وترديدا للقراءات الأيديولوجية الأولى للشيعة وللسنة، التي تمرست على اعتبار الدين الإسلامي مجرد قوالب شيعية، أو سنية، يجب أن يتقولب معها البشر، حتى يكونوا شيعيين، أو سنيين، على اختلاف توجهاتهم.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org