مقالات

أرباح وخسائر

عقيلة آل حريز

تبدو الحياة أوسع من مجرد تجربة نخوضها فنخرج منها منتصرين أو منهزمين...  حين لا ندخل في تجربة ما يبدو من المستحيل أن نتعلم، إذ كيف نتعلم ونحن لا نملك مادة خام تؤهلنا لصنع رصيد كامل من المعرفة، لكن ماذا عن ما تخلفه لنا التجارب ومدى إسهامها الفعلي في تحقيق الأرباح أو الخسائر لنا، هل علينا أن نخوضها كلها فتحسب نتائجها من رصيدنا الشخصي، سلباً أو إيجابا..  وهل نحن مضطرون لخوض كل التجارب لنتمكن من فهمها، ليس بالضرورة هذا وإن كان البعض لا يحسن لإفادة من تجارب الآخر، لكن ثمة معايشات يمكنها أن تساعدنا وإن قدمنا في سبيل الوصول لها بعض الخسائر.

لا أحد بالطبع يمكنه أن يجزم بإمكانية النجاح ونسبة الفشل في أي مشروع يخوضه، بعض الناس ترى أن التقدم أمر ضروري لصناعة حياة أكثر شمولية وأكثر عمقاً، والبعض الآخر يعتبر أن التوجه لدخول خطوة جديدة مغامر قد تكون محسوبة وقد لا يحسب لها صاحبها حساب فيقع فيما لا يحمد عقباه.

أقوال مختلفة وإن بدت متضاربة لكنها تعبر عن واقع تجربة يعيشها الناس وتؤكد أن الحياة كلها بربحها وخسارتها تجربة مثيرة تستحق المغامرة، هناك من يرى أن المغامرة عصب الحياة ولولا الإقدام لما كان هناك تقدم يذكر في حياة الناس، فلا أحد بطبيعة الحال يعرف ماذا يخبئ له الغيب لكن البعض يعالج الأمور بمنطق التحدي فنحن من نصنع النجاح إن كرسنا جهدنا فيه ونحن من نحدد هوية الأمور، فهي صناعة يصنعها صاحبها أولاً وأخيراً، بعض هذه الأقوال صحيحة وبعضها لا يمكن أن يدخل في إطار عدم الصحة، لأنها في النهاية نتاج تجارب نسبية تختلف بحسب اختلاف الأشخاص وإمكانياتهم وبحسب الظروف البيئية التي يعيشونها ومدى ما يواجهونه فيها وما يمكنه احتماله والاستفادة منه غالباً.

 

لكن الأكيد أن الإنسان قادر على خوض جمع التجارب وإن تفاوتت قدراته في احتمالها وبالنسبة لأمورنا العامة سواء الاجتماعية أو المادية أو حتى العاطفية فنحن نتأنى عادة وندرس خلفياتها لنستشف من خلالها مدى إمكانية تحقيق النجاح من عدمه فيها.

هناك من يرى أن المقياس في خوض التجارب والمغامرات ليس النجاح أو الفشل بحد ذاته معللاً الأمر بأن عصب الحياة هو الاستمرارية في خوض التجارب كتجارب تثري المرء وتضيف له الكثير، بينما يواجهه فريق آخر بالقول أنه لا فائدة من تعريض المرء لتجارب عدة فقط من أجل التجربة كتجربة وبالتالي ترك نتائجها تتأرجح في سقف حياته بلا هدف، قد نوافقه في هذه الرؤية بنسبة ما.. لكن حساب الأرباح والخسائر أمر غير مؤكد تماماً لكون هذه الحسابات خاضعة لغيبيات وظروف طارئة ليس من السهل التحكم فيها وبالتالي قياسها بنسبة مؤكدة.

 

ولا يجوز أن نحكم على إنسان بالفشل من خلال خوضه لتجربة تنبأنا له مسبقاً بفشلها من منطلق حكمنا الشخصي بقدر ما يحكم هو على نفسه بمجرد أننا وجدنا أن تجربته لا ترضينا، إما لكونها ركيكة أو هشة ولا فائدة منها بينما يخرج هو أكثر نضجاً وأقدر على استيعاب الحياة ومشاكلها رغم فشله في تحقيق نسبة النجاح فيها، كل هذا من وجهة نظرنا نحن طبعاً.

 

ترى كم في الحياة من تجارب تحمل أرباح أو خسائر، وإن أحصينا حسابها فعلياً هل يمكن أن نستقطع نسبتها من معدل عمرنا الزمني.. وإن فعلنا هذا، من يمكنه أن يحدد وجهتها لنا ؟.

الحقيقة الأكيدة في كل ما قيل أن حساب نسبة الخسائر والأرباح أمر غير مؤكد تماماً، فمن يمكنه أن يحسب نتاج بعض التجارب المؤلمة في حياتنا ومن يمكنه أن يحصيها، وعادة الناس تفضل أن لا تخوض التجربة المُرة وإن خرجت منها برصيد جديد يضاف لها، لأن مرارة التجربة تبقى طويلاً بداخلها وتستقطع جزء من كيانها رغم أنها في المحصل النهائي تعد ربحاً آخر يضاف لرصيد التجربة الإنسانية التي سيمتلكها أخيراً، لكن من منا عنده الاستعداد لخوض مثل هذه التجارب وإن منحته رصيد رابح في النهاية.  

 

هناك عبارة دائمة الترديد على ألسنة الناس وتحمل في طياتها نصحاً وحكمة استخلصت من تجربة عميقة تتلخص في كون " المرء لا يتعلم عادة إلا من جرابه " وهذه مقولة صحيحة لكن السؤال هنا هو، هل يسع الجراب لكل هذه التجارب بحلوها ومرها، أو هل يمكنه أن يستوعبها جميعا، وهل في حياة الناس الكثير من المحطات لاستيعاب بعض الصدمات التي تخلفها التجارب الخاسرة من أشخاص وثقوا بهم وائتمنوهم على أنفسهم وتجاربهم.. وماذا إن توقف الإحساس بالتجربة عند حدود معينة كالمرض والجنون والاكتئاب منتهياً بالموت والدمار...

 ماذا عن الناس الذين اعتادوا التعامل مع الآخرين بعفوية وبراءة وشفافية، ماذا عن الجانب الخيّر من حياتنا الذي يتمثل في وجودهم بيننا، ماذا إن خدش ولم يعد صافياً كالسابق واختلت الصور والموازين والنفسيات من يمكنه أن يعوضهم ويعوضنا بهم بعد تجربة مؤذية ومريرة يمرون بها فتفقدهم هويتهم، بل كيف يدعي البعض المصداقية في التعامل وهو في حالة عجز عن الائتمان على تجارب الآخرين الذين منحوه ثقتهم وخاضوا معه تجربتهم...

 

هنا يجدر بنا الوقوف على أرض ثابتة لنعلق نظراتنا فوق شرفات تجارب الآخرين ونفرمل حركتنا ونوجهها لوجهة أفضل، ربما بعض الخسائر تنجينا من الولوج في تجربة عقيمة تستنفذ كل طاقتنا وتستهلكها، قد تكون هذه الخسائر كبيرة لكنها على أية حال أفضل من أن تكون طويلة الأمد أو لصيقة بجيد حياتنا نظل نلعنها باقي عمرنا  ليس زمناً فحسب بل أزماناً ودهوراً طويلة.

 

يبقى الحديث عن التجارب بأرباحها وخسائرها حديث متشعب للغاية، لكن الإنسان عادة مهما اتسعت لديه حقول التجربة وتعددت مصادرها يفضل أن يخوض بعضها أو جلها بنفسه فهو يستوعب بمعايشة التجربة أكثر بكثير مما يستوعبه بمعرفة الآخرين وعليه أن يوطن نفسه لتحمل حساب الأرباح والخسائر فيها، فالنتائج التي يحصل عليها في النهاية هي حصيلته التي اكتسبها من خلال المعايشة، ومهما كانت هذه النتائج مريرة فهي تمثل إضافة له فليس عليه أن يستاء منها لأنه حتما سيعرف كيف يتداركها مستقبلاً  وإن دفع ثمنها من نفسه غالياً.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com