مقالات

الكلبة

خلدون جاويد

"الكلبة مشروع فيلم يبحث عن كاتب او كاتبة سيناريو تحمل في قلبها ذرة من وفاء الكلاب !!!!! "

كنت قد تقافزتُ معها في الحقول، عندما كانت صغيرة... وكانت تتطلعُ لي بعينين ظامئتين الى الحب، فكنتُ احملها على قلبي واحس بنبض الدم في شرايينها فوق صدري، وبعد حين اعود وانزلها على الشاطئ الذي نصله بعد مسافة من اراض ٍ خضراء نجتازها ركضا، وتكون مسجلتي على ظهري اذ اسمع اغاني الفرح الدافق واطير في الهواء معها وكأننا فراشتان او عاشقان. كنا على اية حال روحين... نركض وبعد ان نتعب اجلسها في الظل فالشمس حارقة.

 كانت كلبة عجيبة شعرها اسود لكن قامتها تبدو بالوان مختلفة فهي كأنما ترتدي في كل يوم ثوبا بلون. كانت عيناها مثل قاربين او لوزتين او هلالين. وجفناها مجرورين بالكحل. كانت امرأة اكثر من كونها كلبة... اتخيل وجه حبيبتي معها... كانت تأكل من يدي قطعا من لحم غال ٍ الثمن اجلبه لها... وتشرب ماءا من زجاجة اشتريها خصيصا لأسقيها... واحيانا كنت افتح لها المسجلة لاسمعها شريطا خاصا بها فيه اصوات ذكورية من جنسها...بعضها راقص ! ولذا انهض لأهتز على الانغام وتهتز هي معي واعلـّمها ان تقف على قدميها وترفع يديها الى الأعلى مثلما احاول ان اقلد شكلها الكلبي في حركة يديّ الى الأمام فتقلدني وادنو منها وامس رأسها اثناء الرقص بعظم وركي على جانب رأسها فتقلدني دافعة عظم حوضها على ركبتي... وتتصاعد الموسيقى فتبدأ ترقص بشكل غريب تذهلني بجماليات حركتها...اجلس على الارض بل استلقي واتطلع لها... تبدو مثل امرأة ذات شعر طويل وعينين لوزيتين كقاربين او هلالين... وبعد ان نلعب شتى الألعاب الاخرى والكوميديات الساخرة من بعضنا البعض، نغفو وبعدها نفيق ومن ثم نعود عند الغروب...

 وكانت هذه هي حياتنا لسنوات طويلة... لولا ان القدر قد اضطهدني وجعلني اغادر مكان سكناي... فبكيت اذ اسلمت الدار الى احد اصدقائي قائلا له : قضت الحياة ان اهرب فورا والأ فان امرا ً بالقبض علي ّ وتصفيَتي سينفذ ضدي كما اخبرني بعض الاصدقاء سرا... وهذه الكلبة هي امانة...

 بكيت لوداعها.. وراحت كلبتي الوفية تدور حولي بحركات هستيرية... وبدت مرة اخرى مثل امرأة، وعيناها القاتلتان كانتا نجمتين في افق عمري، ظللت اتأملهما وانا اغفو في كل سنين الهجرة...

 انها تلعب تأكل تشرب تسبح في النهر تجلس محاذاتي على طاولة في مقهى تتجول معي في الحدائق...

 ومرت الأعوام ولكني كنت احلم بها واحلم...واستيقظ باكيا لذكراها حتى اني ذهبت الى الطبيب ذات يوم وشرحت له الحالة : " اني ابكي في المنام وارى كلبة عزيزة علي فارقتها وهي الصديقة الوفية، اني ابكي لها واظن انها تتعذب لأنها تنبح في منامي فاستيقظ مذعورا... صوتها صوتها يوقظني بصراخ مفاجئ..هذا يحدث لعدة مرات وانا على الوسادة ".

 كان وجه الكلبة مثل شبح هاملت الأب يبكي وراء السحاب في الليالي الهادئة في الصيف، او حوريات بحر ناحبة... او حمائم مهاجرة...او فراشات مذعورة في عواصف من نار... وكنت اتقلب على جمر الغضا على سرير ابر ومسامير...

 اعطاني الطبيب دواءا وبعض الأقراص المنومة... ونصحني بأن اعيش مع كلاب اخرى عساها تنسيني وقد جربت كلبا اصفر وآخر ابيض وأسود.. وقمت بذات الممارسات في شتى الحقول في تلك البلدان الغريبة.اطعمت ودللت ورقصت ومشيت في الشوارع مع تلك الكلاب الأ ان النتائج كانت مخيبة... لم اكن سعيدا معهم بل ظلت اصوات الكلبة الوفية تراودني.

 ومرت سنوات طويلة.. واقتضت احوالها الجديدة ان اعود فقد تغير نظام الحكم وتبدل الحال الذي بموجبه رجعت الى المكان ذاته... كان يوم عودتي اجمل يوم في حياتي.

 رحت اهبط من السيارة بالقرب من الحقل اياه الذي رقصنا فيه قبل ردح من الزمن... مررت بالحقول... وبالشاطئ وبجسر من جسور المدينة، ورأيت ملاعبنا هناك... وانطلقت راكضا نحو مكان سكناي وحيث تسكن الكلبة في بيت صديقي الذي ائتمنته عليها وعلى بيتي... وهناك وانا الهث وصلت الى الباب الزرقاء الكبيرة... وقفت هناك منتظرا صديقي بعد ان ضغطت على جرس الباب... جاءت الكلبة ووقفت وراء قضبان الباب وراحت تنبح نباحا قويا وكان صديقي يتقدم من بعيد وهو ينادي عليها بأن تتوقف عن النباح لكنها ظلت تتطلع الي ّ وتنبح وقد حاولت من خلال قضبان في الباب الحديدة الجانبية ان امد يدي لها لأربت على ظهرها الأ انها تقدمت ونهشتني ايما نهشة.. وبالكاد قد سحبت يدي الدامية... وما ان وصل صديقي حتى اخذني معه مرحبا بي...

دخلنا البيت وعقم لي الصديق يدي وشدها بضماد و شكرته وجلست الى مائدة الشاي الاّ ان الكلبة ظلت متبرمة في باحة الدار ضدي. لكن من يفهم ماذا كان يُقصد من صوت قوي واحيانا عصبي واحيانا باك ٍ.

 كنت قد بكيت لذكرى الكلبة الحبيبة الوفية التي لايزال قلبي معها...

 استغرب الصديق ايضا ونهض معي الى الشباك وتطلعنا من هناك فاذا بها تتهستر أكثر، رغم محاولة تهدأة صديقي لها...

 تحدثنا حول امكانية انتقالي الى البيت غدا، وشكرته انه كان الصديق الأمين على الحفاظ على داري..

 ماذا عن الكلبة... قلت في حيرة لا اعرف... قال لي من بعدك انعقدت صداقة رائعة بيننا.. وانا الآخر احبها وهي تحبني.

 الكلبة لم ينقطع نباحها يعلو ويدنو وانا اشكو لصديقي حبي لها وصديقي يعبر عن المشاعر الصداقية الرائعة بينه وبين كلبتي. كلانا يتغزل بها. الزمان مر وعاد زمان آخر جديد وما علي الاّ ان اكون واقعيا...

 في اليوم التالي غادر صديقي... وقد جئت بعفشي منتقلا الى الدار القديمة لابدأ حياة جديدة... وكانت الكلبة على ذات العصبية !.. الأ انني وضعت سماعة على اذني لأغان ٍ مختلفة واحاول من بعيد ان اهدأ من روعها واخفف من غلوائها...

 خرج صاحبي من الباب الرئيسية بعد ان وضع حبلا برقبتها... وودعني وسارا معا... لكن الغريب الغريب والذي لم افهمه ان عيني الكلبة قد حدجتني في اللحظة الأخيرة للفراق بنوع من النظر الأسيف مما ادى بي ان اضع رأسي بين يدي وانتحب بقوة..... صارخا بأعلى صوتي... كلبتي... كلبتي...

 لا الدار ولا العفش ولا السفر ولا المال تعادل علاقة محبة قديمة لكنها للاسف جرى نسيانها او الانتقام منها من قبل الكلبة بطريقتها الخاصة... ظللت مسهدا... ولم انم حتى الفجر اذ غفوت على الكرسي...

 زارني صديقي في اليوم التالي وقد جلب لي بعض الأزهار... شربنا القهوة وتجاذبنا اطراف الحديث عن البيت وبعض الفاتورات المستحقة الدفع من قبلي ومن قبله الخ.. وتطرقنا الى طبيعة سكناه الجديدة... وبصورة عابرة حدثني عن ان الكلبة لم تنم حتى الفجر وربما غفت على الكرسي لساعة واحدة. لقد كانت غير طبيعية...

 في اليوم التالي كنت مرهقا لأني تعرضت الى ارق ٍ مرة اخرى وقضيت اغلب الليل ادور في الممرات وقد حاولت مرارا فلم اقوَ على النوم، ومع ذلك، اي رغم صداعي وانهيار قواي، استفسرت انا عن صديقي مخبرا اياه بأني قد وفرت له اثمان الفاتورات... وسألت بذات الوقت عن الكلبة قال انها كلبة عجيبة... قلت كيف ؟ قال : تدور حتى الصباح في الحجرات والممرات. هل تعتقد انها مستغربة ومنفعلة بسبب المكان الجديد ؟... لا ! اعتقد انها حزينة لأنها كانت تبكي... بل تئن.. ولا يغمض لها جفن... لربما هو فراق البيت... لا أعرف اذا استمرت بعدم النوم فسوف آخذها الى الطبيب.

 مرت ايام على حالتها تلك من دون ان يسعفها الطبيب البيطري بالدواء الشافي...

 ذات صباح اختفت الكلبة... اتصل بي صديقي بالتلفون مذعورا... وبعد يومين وجدت جثتها على طريق الموتورواي.. لقد سلمها سائق شاحنة بضائع افاد بأنها لم تتجنب حركة السير وربما تكون هي التي القت بنفسها على مقدمة العجلة..... لقد قام بإخبار الطوارئ عن حالتها قبل ان تموت... وقد خبروني بذلك، وفق الحلقة البرونزية المعقودة على رقبتها والتي تحمل عنواني.

 ظللت طيلة ايام ارقا لا انام الاّ لماما، صوتها الناحب وذكرياتها كلها كلها مؤذية، فيها الكثير من الصور المؤثرة... كذلك قبرها الذي ازوره، انه ذو منظر

موجع...

 الليلة الفائتة كان صوتها قويا والرقص على اشده في خيالي واغفاءاتي اللحظوية على الكرسي ونباحها القوي... لم اقو َ ان انام... فهناك صور من ماضي العلاقة حيث كنا نلعب في الحقول ونتجول في المدن بينما هناك عضات ونهشات قوية ليدي وقدمي وشروخ تحدثها اظافرها على خدي، هناك انفعالات غير متوقعة لها فهي نائمة في حضني وفجأة هي المنقضة على رقبتي بنهشة دامية... كل هذه الهلوسات هي في احلام يقظتي او اغفاءاتي اللحظوية على كرسي.

 ذهبت الى زجاجة اقراص المنوم لم اجد ولو قرصا واحدا... خرجت لأمشي في الفجر...لأرى قرص الشمس واغفو تحت شجرة امام البحر... بعد حين... تلفنت بالموبايل.. لأحجز موعدا مع الطبيب ومن حسن الصدف انه قال تعال الآن لاعطيك دواءا عاجلا... كنت احس اني كالعجوز ضعفا ولا اقوى على المشي... فاستأجرت تاكسيا الى عيادة الطبيب... دخلت هناك ورأيت مجموعة من المنتظرين في الصالة... هناك جلست على الكرسي وشعرت ببكاء الكلبة وانينها فاسبلت جفوني... وقد غفوت هناك... ورأيت حلما هناك... الكلبة تنتحر ملقية بجسمها على الشاحنة... كان لون الشاحنة اسود...من النوع الضخم جدا... حاول السائق تجنبها... الكلبة التي تشبه امرأة بشعر طويل بل المرأة الاملود ! المرأة انها تحت العجلة... امرأة تصرخ باسمي... انتبهت كانت الممرضة تنادي على دوري للدخول على الطبيب... وجدت نفسي على الرصيف بيدي الدواء واريد أن اعبر لابد ان اعبر لإنقاذها لكن الشاحنات كلها بلون اسود ونساء بذات الشكل وكلاب بذات الشكل وانا احاول ان انقذهن جميعا كلابا ونساء... وكانت الشاحنة تزعق فراملها في رأسي.. تركت الرصيف متطوحا من الاعياء والخوف... وكانت اللوحة سوداء سوداء تنزف من مساماتها الدماء... الدماء الجارية... سلايد اسود يغطي جبيني من تحت مع انعدام الرؤية التام وصوت الكلبة وصراخي في عويل متصاعد بل مضروب بأكثر من هشيم وحطام صاعق..... تلاه ُصمتٌ صمتٌ أبدي.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com