مقالات

وصلة السماء

عقيلة آل حريز

ضمن مسيرة الإنسان في الحياة وحين يحمل بعض الأفكار والمبادئ الخاصة فلابد أن يكون مواجها لبعض التحديات أو المعوقات، ورغم أن العراقيل والصعاب تتكالب عليه دفعة واحدة إلا أن ثمة جوائز أو منح تهبها السماء في وقت الشدة لتكافئه بشيء من الراحة يواصل بها مسيرته ويكمل خطواته بثقة أكبر وتعتبر هذه الجوائز بمثابة المحطة والاستراحة التي يقف عندها الإنسان المؤمن ليواصل مشواره في الحياة.

إذ لو كانت الحياة جافة قاسية أغلب الوقت لما استطاع أي إنسان مواصلة العيش فيها، ففي مثل الظروف العصيبة التي يمر بها المرء عادة تنساب رحمات إلهية تحيط به، لعله لا يدرك مغزاها الحقيقي، لكن كلما اشتدت المحنة وزاد اليقين كلما استلهم منها رحمة الله به فشعر براحة أكبر تغمره وتدفعه للأمام.

البعض يعتبرها ضريبة المبدأ وضريبة التقدم والنجاح، فلا طعم للأهداف دون أن يبذل المرء في سبيلها جزء من كيانه وراحته، ولا نجاح يتأتى بدون خسائر، لكن حين تخنق النفوس وتزداد الأزمات يبدأ القلب يتعلق بالسماء ويبدأ نور اليقين يوسع الضيق و يمد ضياءه عبر طريق كانت مظلمة ليعبرها في زمن يحتاج منه لقوة الصبر.

وهذا ما حصل تماماً في حياة النبي حين كان يدعو لرسالة السماء ووسط فوضى الظروف الجاهلية وغوغاء المعاندات القبلية وضجيجها، وحين كانت المقاطعات العنيفة على أوجها من قريش ومع شدة حصارها الذي فرضته عليهم، فقد ولدت فاطمة عليها السلام كنبع الكوثر البارد لتغسل قلب النبي وخديجة ولتكون رحمة إلهية تقطع أشواط الشقاء بنصر تعطيه السماء لهما فتغير بولادتها ألوان الوحشة وتميط ثقله عنهما.

 ولدت فاطمة لتكون بهجة يحتفي بها النبي وزوجه وكل المحبين، ليصلي لربه برضا ويركع بفخر وليعلن للعالم أجمع أن السماء تتدخل بجوائز وعطايا لنصرة رسلها، رسلها الذين لا تشترط فيهم أن يكونوا أنبياء أو ملائكة تتنزل من السماء بقدر ما هم يحملون رسالة أياً كانت بسيطة تدعوا لتعاليم السماء من دين وأخلاق وتعاملات مختلفة. 

نعم، جاءت فاطمة وكان الكون يمر في حياة الرسول وابتسامتها العذبة تضيء في وجهه فيشرق نوره بنورها، كان يضاحكها فلا يزعجه دوي ريح الجهل في الخارج، وكان يصنع من نورها مصباح يعبر به الأركان المعتمة فيطلع ليبلغ السماء ويصلي، فحين تدخل فاطمة محراب العبادة تزداد الأركان صلابة وتقوى، كان محمد وخديجة في محراب الرسالة وكان علي معهما والآن فاطمة تزهر وتضيء تشاركهم الصلاة فتدور الأفلاك حول نورها لتسلب الألباب. 

من قال أن : ' السماء لا تكافئنا إلا بعد عبور درب الشوك بمسافات متواصلة لنهلك '، هي تفعل، لكنها تعطينا فسح وسط هذا الشوك نريح فيها أبداننا المجهدة ونستعيد أنفاسنا المثقلة بالهموم، ونتزود منها بطاقات جديدة لنكمل ما بدأناه، فالمرء عادة ومع قسوة ما يجري من حوله يستشعر وجود رحمة من حوله تدفعه للأمام. إنها تمنحنا حساً محورياً يكون فيه سُر الكون، حيث تشعر أن كل شيء يدور في فلكك ويكون منبثقاً منك، يأخذك خطوة بعيدةَ لترى الحقيقة بجلاء تستقبل بوجهك الإعصار بتحد تعرف إلى أين تسير حدوده.

 لم تكن فاطمة خارج حلقة الصراع فهي ترسل نفس العبق الطازج ولم تكن خارج المعركة، كانت تعرف حدود الكفر ورغبته في الانقضاض، ترقب نوايا الهجوم وتدرك حجم الطاقة وحدودها، لذا استطاعت فاطمة أن تلمس  جراح النبي وتضمدها له وتغسل همه بابتسامتها العذبة فتكون له أماً ' أم أبيها'.

ركضت تزيل القذارة عن رأسه وسعت نحو قريش توبخهم حين القوا بها على رسول الله وهو يصلي إمعانا منهم في الاستهزاء والعناد، إنها ما تزال صغيرة حين جاهدة الكفار بأنفاسها الواثقة وبومضة طفولية متحدية تقدح في عيونهم التقريع العنيف الذي أدخل الرعب في قلوبهم، لكن لإيمانها قوة تتصل بالسماء فهي وصلة للرسالة المحمدية.  

وعلى مفترق الطريق غادر الرسول فبقيت فاطمة بحسرات الرحيل تنعاه بجوار قبر يسكنه حزنه عليها ويملأه ضجيجها على رحيله، قبر تراه بنظرة عميقة وترسم عليه ذكريات تستحضر المرافئ والمواكب التي تقف من بعده متأرجحة بلا غاية ولا هدف حقيقي غير بسط النفوذ والسلطة تعمد إلى فرط عقد طويل من النور أفنى عمره كله لينظمه حول جيد أمة لتزدان به وسط باقي الأمم، وتكون شاهدة على أيديهم حين تمتد إليه بجرأة وقحة لتفرط نظمه وتنثرها فيتلقاها المتكالبون على السلطة بوقاحة تضلل الأُمة التي جاهد أبوها لينظمها وأفنى عمره لتكون.

فأي وصلة للبعث كانت فاطمة ممتدة فانقطعت بعد وفاة والدها وتآكل عمرها ما بين هدير الريح، وحرقة الشمس وغزارة المطر، وسوء المصير وصمت التاريخ، وتجاهله وعجزه عن الإجابة كيف توفيت الزهراء وأين هو قبرها ؟؟؟.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com