مقالات

 البشرية بين تسويق الحياة والموت...!

د. مراد الصوادقي

وكأنها تنادي العالم بأسره قالت:

  "أوقفوا مصانع السلاح التي تنتج أدوات قتل البشر"

  "لماذا تسوقون الموت ولا تسوقون الحياة"

  "سّوقوا الحياة فأنها تدر أرباحا أكثر من تجارة السلاح"

"لماذا تنفق البشرية أكثر من ثلثي ميزانياتها في مجالات التدريب على قتل البشر"

أفكار وتساؤلات نثرتها بوجهي فجأة وأصابتني بحيرة وذهول, فغاب عني الجواب ورحلت تساؤلاتها تتجول في أرشيف أعماقي. ومضت تعدد فوائد الاهتمام بالحياة وتصدير وسائل استثمارها إلى الآخرين وكيف تدر ربحا أوفر من التجارة بالسلاح الذي أغرق الأرض بالدماء والعويل والأحزان. وأعطت مثلا على كيف أن الاهتمام بمحاربة الجهل سيساهم بزيادة مصنوعات المعرفة والإقبال على شرائها مما يحقق تفاعلا تجاريا مفيدا بين البلدان ويسهم بقوة وفعالية في إشاعة الأمن والسلام.

قلت لها: البشرية  ومنذ زمن بعيد تحسب أن الحروب تدر ربحا أوفر وأسرع من أي تجارة أخرى. فقد كان البشر يغزو بعضه البعض ويستحوذ على ممتلكات البشر المهزوم. وقد بدأت محنة الغارات البشرية والحروب وتطورت وما عاد من السهل النظر للحياة من غير الحروب والمآسي الناجمة عنها , والتي يتم النظر إليها على أنها النصر والقوة والسؤدد. الحروب أصبحت التجارة الأولى وأصل تنمية وتقوية الاقتصاد في العالم, وهذه هي النظرية الأساسية التي يتم بموجبها التسويغ لأية دولة القيام بحرب ضد أخرى, لأن الحرب في عرفها ربح كبير وليست خسارة كبيرة, وأن الحروب من ضرورات التطور البشري وانتقال الإنسان من مرحلة إلى أخرى أكثر تقدما منها, فالتطورات الكبرى التي قامت على وجه الأرض, مولودة من رحم الحروب البشرية.

قالت: إنه المفهوم المنحرف الذي درجت عليه البشرية وما عرفت لها مخرجا منه. إنه الوهم الذي عصف بالأجيال الأرضية على مدى الزمان.

قلت: إنها الحرب مثل الموت فهل بإمكانك أن تفصلي الحياة عن الموت. الحرب هي تعبيراتنا اللاواعية للسيطرة على الموت الذي نقف جميعا أمامه بلا خيار سوى الاستسلام. ولهذا فالحروب هي الهرب من الموت إلى الموت.

قالت وكأنها تتجاهل جوابي: الملايين من الأموال تُحرق كل يوم  من أجل الحروب والخراب والقتل والدمار. فلماذا لا نبذلها في حربنا على الجهل والمرض والجوع والخوف والشك ؟ أليست هذه ساحة حرب مفيدة وتستحق كل البذل والعطاء , وليست هذه الحروب الدامية التي تقتل أحسن ما فينا وتقضي على أبهى ما عندنا وتزيد من الجهل والفقر والجوع والمرض؟

إنها حرب وأكبر من حرب فلماذا لا نختار حربنا الحقيقية  ونحن نحارب الحياة بإسم الحياة؟

إن شركات السلاح هي التي تصنع الحروب الأرضية لتسويق بضاعتها. وأنها تستخدم كل الوسائل من أجل ترويجها وإشاعة ثقافة العدوان والكراهية لكي تحقق أعظم الأرباح على حساب الأبرياء, ولها الدور الأعظم في تخريب السلام الأرضي واستثمار المشاكل بين الناس , عبر أبواقها التي تغذيها بالملايين السهلة لكي تجد أسواقا لإنتاجها. فالحروب يتم هندستها وفقا للأسلحة المنتجة, وقبل الحروب يتم تفكيك المجتمعات وبناؤها وفقا لمرامي الحرب المطلوبة ونوعها. فلكل شركة سلاح حرب لاستعراض فعالية أسلحتها المختلفة.

قلت: أية شركة سيصيبها الكساد من غير أسواق تستهلك منتجاتها

قالت: البشرية مدمنة على الحروب وسفك الدماء ولا يمكنها أن تشفى من هذه العلة , وهي بحاجة إلى تأهيل نفسي وفكري وعقائدي لكي تخرج من نفق الصراع المظلم , الذي أزهق أرواح الناس بالجملة وعلى نوبات مختلفة.

قلت: لقد عوضت الحروب في وقتنا الحاضر عن الأوبئة التي كانت تقتل البشر بالملايين. توهمنا بأننا قد قضينا على الأمراض السارية والمعدية لكننا طورنا وسائل الفتك ببعضنا البعض. إنها إرادة الأرض وليست إرادة البشر. الأرض تسمح لنا أن نبقى وفقا لمنهجها في الدوران والبقاء ومن غير إرادتها لا يمكن للحياة أن تتواصل. فالموضوع معقد وشائك والحياة ماضية رغم كل الويلات.

قالت: هذا كلام فلسفة ومحض خيال.

قلت: أنظري كيف نشوه الحقائق ولا نريد أن نراها كما هي بل كما نريدها أن تظهر أمام أعيننا.

قالت: إنها ليست كذلك. اللغز المحير الذي يجب أن نكتشف بعض غموضه, هو لماذا نسعى إلى الحرب ونحسبها بطولة ونصرا وفيها كل الدمار والخراب والسوء. هل وجدت حربا نظيفة بلا أوجاع وأحزان وجرائم يقشعر لها جسد الأرض؟

لماذا لا ننهض بوجه الفقر والجهل بل نساهم في تنميته؟

لماذا لا ننهض بوجه الجوع ونساهم في إرضاء الحاجات الأساسية للملايين المعذبة في الأرض؟

لماذا نبتهج بمعاناة الآخرين وننسى أنهم مثلنا؟

تساؤلات علينا أن نطرحها على أنفسنا وأن نجد الأجوبة الصحيحة وليس التبرير الذي يعني تكريسها وتعقيدها وتطويرها واعتبارها واقع حال مطلوب ولا بد منه.

أصبحت أمامها بلا قدرة على الجواب الصائب ورأيتني أجنح إلى الجدال من خلال توهمي بالمعرفة , وأحسب أني أدري وما أنا إلا جاهل قاصر في حضرتها,  التي تبدو قد تبصرت بهذا الشأن البشري العسير. وعندما سألتها عن عملها قالت أنها داعية من دعاة حقوق البشر على الأرض القاسية التي تدور بنا ولا تتعب.

فودعتها وأنا أتأمل تساؤلاتها وأبحث عن وسيلة تمكننا من رؤية الحقائق وليس الأوهام والتصورات والتهيؤات الكاذبة النكراء التي تعتمل بوجودنا وتتسبب لنا بالويلات.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org