مقالات

تزورنا الملائكة ...

عقيلة آل حريز

بعض الناس حين تلتقي بهم وتحدثهم تشعر بأنهم يمنحونك إحساسا مختلف، يبثون بداخلك الكثير من الطاقات الايجابية .. يشعروك بالحبور، بالسعادة، بالرضا، وبأن العالم ضيق وصغير .. ضئيل ولا شيء به يستحق أن تبتئس لأجله، وربما يداهمك إحساس بشيء من التفاهة حين تُحمل الأمور أكثر من قدرها، وتود أن يطول بك اللقاء معهم ويتواصل الحديث بلا أمد فهم نوافذ لأمكنة ضيقة نسكنها نحن .

 كنت أهمس لنفسي وأنا أوقع في دفتر حضور صباح الثلاثاء الماضي، بأن هذا اليوم سيكون يوماً مختلف، فعادة أنا على موعد مع تواريخ متشابهة الأرقام، وبالفعل التقيت "أنغام"  وكانت حصيلة نهاري ذاك اليوم، أو بالأحرى دفعة أخرى زودتني بطاقتها الإيجابية وبهرتني بصمودها وقوة إيمانها، لم أشعر بأنها شخص عادي ألتقيه وأتقاطع معه ضمن نطاق عمل فحسب، وينتهي الأمر بيننا ثم تحجب الصورة وينقطع الصوت، لقد بقيت بروحها وشخصيتها تزورني كملاك وتستحوذ على اهتمامي كتجربة مثيرة تستحق التوقف عندها طويلاً، حتى وإن غاب شخصها عن ناظري .

 فهذه السيدة جاءتنا موفدة من جمعية السرطان كموظفة جديدة تمثل الجمعية لدعم هؤلاء المرضى بالمستشفى، وأثناء الحديث معها والتعريف بالجمعية واهتماماتها وأنشطتها المختلفة، فاجأتنا بأنها مصابة بنفس المرض، وأنها لازالت تواصل عزمها في الحياة وقادرة على التعامل معه رغم كل شيء مر بها ونالها منه ... وبهذا فهي الأقرب لفهم المصابين به والأكثر دراية بنفسيات وظروف أصحابه من غيرها ..

 الأكثر غرابة في الأمر أنها تتعامل معه بمنطق المنتصر لا المهزوم، وتنظر له كما تنظر لمرض آخر مزمن كالضغط والسكر، فثقافتها فيه عالية جداً، وتقبلها لوجوده معها أمر مدهش، ولعل التجربة خدمتها في قبوله، كما أن التهيؤ النفسي له، ورصيد عالٍ من الدعم النفسي والأسري تحتفظ به وتخزنه بداخلها كان عاملاً مهما في هذا، إضافة لقوة إيمان وتجربة حياتية مرت بها صقلتها ومنحتها قدرة التوقف عن الدهشة التي تشل حركتنا عادة حين تسوء الأمور . 

 و"أنغام" بتجربتها مع المرض الذي استمر معها لثلاث سنوات وربما أكثر، وكان يصارعها أحياناً فتصرعه أحياناً أخرى، فيشتد حيناً وتقهره بقوة إرادتها وثبات يقينها حيناً آخر، ومن خلال كلماتها عنه تدرك أنه كلما ارتفع بها كلما هبطت به وحجمته رغم توحشه معها، بدا لي الأمر وكأنها وإياه في حرب تدرك أنها منتصرة فيها بيقنها وعزمها، فهي تؤول أمورها دوماً إلى خير  رغم انتكاسات مرت بها، وبالرغم من انتظارها لجراحة أخرى ستجريها قريباً إلا أنها بدأت تستلم عملها وتؤديه بثقة وراحة منطلقة بلا توقف .. فمن مبسمها تدرك كيف يمكن للمرء أن يعجن من يقينه ثبات وحركة دائمة وحالة رضا طبيعية يستخلصها لنفسه وسط موج عالٍ وبحر متلاطم يقع فيه فجأة بلا حسابات مسبقة !.

 حقيقة بهرتني وجعلتني أتأملها صامتة مندهشة من ثباتها، فصرت أكيدة أننا نلتقي بأشخاص كالملائكة يبثونا الدفء والأمان والإحساس بالطمأنينة والنقاء، حين نشعر بأن الحياة  مهملة وأنه لا شيء فيها مثير للجدل، وأنها في حقيقة الأمر مجردة من إشكالات كثيرة فبالرغم من ألم البعض فإنهم قادرون على الانتصار عليه ومقاومته بل ويمكنهم احتضان الآخرين كذلك واحتواء معاناتهم أيضا وتهدئتهم كما تقتضيه طبيعة عملها الحالي، وللحقيقة أجد إنه أمر جداً مثير ..

 ترى ما هي أهم الأشياء في حياة الناس، الصحة، الأولاد، أو المال، أو لعلها كل هذه الأمور مجتمعة، وباختلاف ترتيباتهم عند الناس حسب منطقهم واهتماماتهم، يجيء تسلسلها كأولويات، وقد يفتتنوا فيها ... هي تدرك هذا تماماً وتؤمن به لذا فقد أعطت لنفسها الراحة حين تغاضت عن الألم وتوقفت عن الاعتراض .

 حين نلتقي بأشخاص مثلها، نعود نتساءل، أكنا نحن اللذين نمتلك كل شيء بحاجة لمرور أشخاص كالملائكة تقترب منا وتزورنا وهي تبتسم لتشغلنا بمنطقها عن توافه نلتقطها فتعيق تواصلنا مع الحياة ؟، إنها رسل ربنا ترسل لنا نورها بين الفينة والفينة لنفهم أن علينا أن نتوقف عن بعض القهر الذي نمارسه على أنفسنا أو على الآخرين حتى وإن ساءت الأمور ولم نجد لها من حل .

بصراحة صرت أدين لها بشيء من الهدوء النفسي الذي ساكنني بعد لقائي بها، و كلما تذكرتها ابتسم فأشعر أنها طاقة مختلفة، إنسانة استطاعت خلق نفسيتها بمنطق التقبل والإيمان، فصاغتها من جديد رغم مراحل معاناة طويلة مرت بها أهلكتها،لكنها أعطتها مساحة حرة للانطلاق والتفاؤل، تنقصنا نحن الأصحاء !! 

كم نحن بحاجة لزيارة "أنغام" ولأمثالها، لا لنواسيهم بل ليواسونا، فنعيد صياغة أنفسنا معهم من جديد، فأمام هؤلاء تظهر قزامتنا الحقيقية ومستوى الضعف والحيرة وحجم الخلل بداخلنا .. نعم بحاجة نحن لهم لنقهر معهم الخوف، المرض، الألم،الوجع والفقد، فهم قادرون على أن يساوون حد الدهشة بداخلنا كداخلهم، فيرتقون .. يرتقون، يرتقون إلى علو ....

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com