مقالات

التنمية البشرية..أساس التطور .. لب الحضارة

 

عدنان بهية – مركز البحوث

 والدراسات / معهد أكد الثقافي

تطوَّرَ مفهوم التنمية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، فلم يعُد منصبّاً، على نموِّ الاقتصاد الذي يُقاس بمعدَّل الدخل القوميّ؛ وإنَّما تحوَّل هذا المفهوم إلى تنمية الإنسان ذاته، بحيث أصبح الإنسان غاية التنمية ووسيلتها في آنٍ واحد. فى سنة 1990، أطلق البرنامجُ الإنمائيُّ للأُمم المتّحدة سلسلة تقاريره السنويّة عن التنمية البشريّة. وتستخدِم هذه التقارير دليلاً لقياس هذا النوع من التنمية في الدول الأعضاء في المنظَّمة الأُممية يُسمى “دليل التنمية البشرية”. ويقابل هذا الدليل “دليل الفقر البشري”. يتضمَّن كلُّ تقرير سنويّ مقترحات نظريّة وعمليّة لتحقيق التنمية، وحلولاً للمشاكل التي تعيق ذلك .

يعتمد “دليل التنمية البشرية” للأُمم المتحدة على ثلاثة مؤشِّرات أساسيّة، هي:

1- تمتُّع المواطنين بصحّة جيِّدة وحياة مديدة، ويُقاس هذا المؤشِّر بمعدّل العمر المتوقَّع للفرد.

2- انتشار المعرفة، الذي يُقاس بمستوى التعليم ، ومعدلات الالتحاق في التعليم الابتدائيّ والثانويّ والعالي.

3- مستوى المعيشة اللائق بالكرامة البشريّة، ويُقاس بمعدل الدخل الفرديّ وقوّته الشرائيّة التي تؤمِّن احتياجات الإنسان.

فالتنمية البشريّة لا تتوقّف عند الناحية الاقتصاديّة، وإنّما تمتد إلى النواحي السياسيّة والاجتماعيّة. فإذا توفرت حاجات الإنسان الأساسيّة من سكن وطعام وتعليم وخدمات صحيّة وثقافيّة وترفيهيّة، يُقال إنّها حقّقت الرفاه الاجتماعيّ، وإلا فتوصَم بالحرمان والفقر والتخلّف. ومظاهر التخلف كثيرة أهمّها انخفاض معدل الدخل الفرديّ، والتفاوت الحادّ في توزيع الثروة، ضعف البنى التحتيّة، نقص الخدمات ، ضعف الأداء المهنيّ، تفشِّى الفساد في الإدارة، وضعف تطبيق القوانين.

وينتهي كلُّ تقرير سنويّ من تقارير التنمية البشريّة بقائمة تُرتِّب الدول الأعضاء طبقاً لقيمة دليل التنمية البشرية في كل منها، حيث تحظى أكثر الدول تنميةً بالرقم 1 وتليها الأقل تنمية. تُقسَّم الدول الأعضاء فى الأمم المتحدة حسب هذا السلم إلى ثلاث مجموعات:

أ- مجموعة البلدان ذات التنمية البشريّة العالية، وتبلغ قيمة دليل التنمية البشرية فيها 0،800 أو أكثر.

ب- مجموعة البلدان ذات التنمية البشرية المتوسطة، ويتراوح دليل التنمية البشرية فيها بين 0،500 و 0،800.

ج- البلدان ذات التنمية البشرية المتدنية، ويكون دليل التنمية البشرية فيها أقل من 0،500.

وكما هو متوقَّع، فإنَّ معظم الدول العربية تحتلّ مراُتب متأخِّرة في السُّلَّم.

فمن مجموع 177 دولة تمّ تصنيفها في تقرير التنمية البشرية 2007/ 2008، نجد على سبيل المثال ما يلي: اليمن "153"، السودان "147"، موريتانيا "137"، جزر القمر "129"، المغرب "112"، مصر "112"، سوريا "108"، الجزائر "104".

في نفس الوقت يوجد عدد من الأقطار التي كانت أفقر من البلاد العربيّة في الخمسينيّات والستينيّات من القرن الماضي، استطاعت أن تحقِّق التنمية البشريّة خلال خمس وعشرين أو خمسين سنة". ومن هذه الدول اليابان، وفنلندة، وسنغافورة، وماليزيا، وكوريا، وتايوان. والآن هناك دول آسيويّة أُخرى فى طريقها لتحقيق التنمية البشريّة مثل الصين والهند وتركيا وإيران.

لقد كانت كوريا تُصنَّف في أوائل الستينيّات بوصفها واحدة من ثلاث أفقر دول آسيويّة. أمّا اليوم فتُعدّ كوريا تاسع أغنى دولة في العالم، مع العلم أنّها لا تمتلك أية ثروات طبيعية يعتدّ بها اقتصادياً، وأنها تعانى كثافة سكانيّة مُعيقة. أمّا فنلندة فقد كانت مستعمرة روسية بائسة حتى سنة 1917، وكانت فى الخمسينيات بلداً زراعيّاً فقيراً لا يمتلك حتّى الأراضي اللازمة للزراعة، لأنّ معظم مساحة البلاد مغطّاة بالغابات والبحيرات؛ فصارت، خلال السنوات الأخيرة، تحتلُّ أحياناً المرتبة الأولى في تقارير التنمية البشريّة.

عام 1992، كتب السيد كويفستو رئيس الجمهوريّة الفنلنديّة مقال تحدَّث فيه عن أسرار نجاح بلاده في تحقيق التنمية والتقدّم، بحيث تحوّلت من دولة فقيرة جداً في الخمسينيّات من القرن الماضي إلى دولة ما بعد صناعية في الثمانينيّات. ولقد حصر أسرار النجاح الذي نالته بلاده في ثلاثة هي: “ مستوىً رفيعٌ من التربية والتعليم، استخدام التكنولوجيا المتطورة في العمل والإنتاج، والالتزام بالديمقراطيّة منهجاً وسلوكاً.”

أما بالنسبة لكوريا، ففي أثناء اجتماع اللجنة الدائمة للعلوم والتكنولوجيا التابعة لمنظمة المؤتمر الإسلاميّ، الذي انعقد في إسلام آباد عام 1985، فروى الرئيس الباكستانيّ طُرفةً مفادها أنّه أثناء زيارته الرسميّة إلى سيؤول سنة 1984، سألَ رئيسَ جمهورية كوريا عن سرّ نجاح التنمية في كوريا. أجاب الرئيس الكوريّ مازحاً : لقد أخذنا خطط التنمية الخمسيّة التي وضعتموها في باكستان وطبّقناها في كوريا. وبعد أن ضحك الرئيسان، قال الرئيس الكوريّ بإخلاص وبساطة: إنّ لوصفة التنمية ثلاثة متطلَّبات:

1- ديمقراطيّة حقيقيّة تُطلِق طاقات الشعب الخلاقة.

2- نظام تعليميّ حديث و شامل،” لقد جمعنا المناهج القديمة ورميناها في البحر”.

3- الأخذ بآخر مُعطَيات العِلم والتكنولوجيا في الإنتاج والخدمات.

"ومن المفارقات الطريفة أنّ الرئيس الكوريّ يُخبِر الجنرال ضياء الحق عن ضرورة الديمقراطيّة في التنمية، مع أنّ الجنرال قام بانقلابٍ عسكريّ سنة 1976 ضد حكومة رئيس الوزراء الباكستاني ذو الفقار على بوتو المُنتخَب ديمقراطياً، وأودعه السجن ثم أعدمه بتهمة الابتعاد عن الديمقراطية.

أنّ مغزى مزاح الرئيس الكوريّ هو ضرورة توفُّر الإرادة المُخلِصة الحقيقيّة لدى النخبة الحاكمة في إيجاد مجتمع المعرفة القادر على إحداث التغيير، والتطوير، والحداثة.

هل بلادنا مستعدةّ لتقبّل الحداثة التي تتمخّض عنها دولة المؤسَّسات وحقوق الإنسان؟ هل بلادنا عاجزة عن إيجاد مجتمع المعرفة ! أم نحن لم نستوفِ الشروط بعد؟!.

الحداثة ومجتمع المعرفة تتطلبان إشاعة التعليم وتعميمه، وإطلاق الحريات خاصّة حرّيّة الرأي وحرية التعبير للدخول في عصر التنوير الذي يُعدّ شرطاً من شروط الحداثة.

المجتمع العربيّ و نحن جزء منه ما زال جاهلاً ،إذ يوجد فيه مائة مليون أمي ويُحرَم من الدخول إلى المدرسة ربع الأطفال الذين هم في سنّ التمدرُس.

وفي العراق ما زالت بعض النخب السياسية تضع خطوطاً حمراء على الكلام عن أي موضوعٍ بحرِّية، وعلى الكلام عن الحرِّيّة ذاتها. كما أنًّها تنظر إلى المواطنة بمنظار الانتماء العرقيّ أو الدينيّ أو المذهبيّ أو العشائري، وتفهم الإخلاص على أنَّه إخلاص الفرد للحاكم لا إخلاصه لوطنه أو دولته أو عمله أو أهله. على حين أنّ الحداثة تنظر إلى المواطنة بوصفها انتماءً فكرياً وقانونياً للدولة، وأنّ إخلاص الفرد وولاءه ينبغي أن يكونا أوّلاً وأخيراً للدولة التي يعيش فيها، والأُمّة التي ينتمي إليها؛ وأنّ الدولة العصريّة ترى في المواطنين أعضاء متساويين، يتمتّعون جميعاً بحقوق الإنسان بما في ذلك الحقوق الطبيعيّة والمدنيّة والسياسيّة والاقتصاديّة؛ التي يجب أن تضمنها الدولة لهم.

سؤال ؟ أي عنصر من عناصر الوصفة الثلاثية للتنمية البشرية ينبغي البدء بها: الديمقراطيّة، أم التعليم، أم معطيات العلم والتكنولوجيا ؟

يميل كثير من الباحثين إلى أنّ الديمقراطيّة هي الخطوة الأساسيّة نحو التنمية البشريّة، لأنّ الأخذ بالديمقراطيّة يقود إلى تعميم التعليم لفائدة جميع أبناء الشعب، وتحقيق المساواة بين المواطنين سواء أكانوا في المُدن أو القرى، وإلى التناوب في الحكم ما يسمح بتجديد الدماء والأفكار والتصوُّرات...إلخ. أما موقف تقارير التنمية البشريّة للأمم المتحدة، فيُستشَفّ منها إمكان تفعيل العناصر الثلاثة معاً في آنٍ واحد.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org