مقالات

تجليات في الهوية الوطنية العراقية
 

عدنان بهية /مركزالبحوث

والدراسات / معهد أكد الثقافي


"العراق وطن كفى بالله في العلا حاميه ، وبدجلة والفرات يحتضناه ، والوطنية العراقية كتبت بالشرائع والمسلات وعلمت العالم القراءة والكتابة منذ آلاف السنين ، فهي تحتاج ثوب الوطن الواحد بخيوطه التاريخية لتزهووتنمووتحتضن مكونات وألوان تعدديته الجميلة"

يمتد مفهوم الوطنية نحوبعدين ؛أولهما معنوي وثانيهما تاريخي ، وهوبعد يرتقي إلى العلاقة الأزلية بين الذات الإنسانية وانعكاسها في بعدها الإنساني الآخر وفي بعدها المكاني الذي يمكنها من إنتاج الحضارة ، يمكن مقاربة هذا المفهوم نظرياً عبر السعي إلى تلمّس عناصره التي تمنحه مشروعيته كمفهوم للولادة والنمو، وتلمّس السياق الذي يترعرع فيه الإنسان كمفهوم للبقاء والصيرورة والإبداع .

ولعل مسألة تحديد مقومات الهوية الوطنية من أكثر القضايا صعوبة وحساسية لأنها قد تنطوي أحياناَ على إغراءات فكرية ومادية قد تطيح بالبعد الموضوعي والمكاني في تحديد هذه المقومات.

لقد طرحت الماركسية مفهوما ً أُمميا ً للهوية تجسد في شعار" يا عمال العالم اتحدوا" الذي يدعوا إلى وحدة عمال بلاد العالم على أساس طبقي تتجاوز الحدود والمقومات القومية والدينية. كما طرح مفكروالإسلام الأوائل المفهوم الاممي الإسلامي للوطنية الإسلامية والتي تضم كل بلاد الإسلام ، حتى انه تم تأسيس الجامعة الإسلامية من قبل رواد النهضة الإسلامية أيام جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.

الا ان هذا المفهوم اخذ في التضاؤل بعد الاستعمار الأوربي لبلاد العرب، وأصبح مفهوم الوطنية يأخذ منحى آخر ، فظهرت نزعات وطنية في مصر والعراق وسوريا والمغرب العربي تأخذ وتركز على المفهوم الوطني بمعنى تحرير تلك البلدان من قبل أبنائها وبعيدا عن الجامعة الإسلامية والرابطة القومية.

ان تنامي الروح الوطنية جاء نتيجة لعدة أسباب لعل أبرزها فشل المشروع الإسلامي المذهبي في لم شمل الأمة ، وفشل حلم الدولة الإسلامية الذي نادى به الاخوان وحزب التحرير الاسلامي وغيرها . والسبب في ذلك هوإن هذه الشعوب أنتجت سياقات تطور اجتماعي واقتصادي وسياسي مختلفة، فضلا ً عن كون الهوية الإسلامية تجاهلت أيضا ً الاختلافات الفقهية. ففي المغرب ينتشر المذهب المالكي وفي المشرق والخليج العربي يسود المذهب الجعفري فضلا عن بقية المذاهب الاخرى الحنفية والشافعية التي تغطي مساحة جغرافية واسعة من الدولة الاسلامية ،كل هذه الاسباب جعلت حلم الدولة الاسلامية يمر باشكالات كبيرة جدا سارعت بانتهاء مشروع الجامعة الاسلامية . لتجد الامة نفسها امام المشروع القومي العربي المستورد بشكله الهجيني من بعض تجارب الأمم الأوربية الكبيرة ،مما جوبه بالرفض من قبل الكثير من تلك الدول ،ولم يحالفه الحظ في اغلب البلدان العربية ، رغم الشعارات التي رفعها . ولعل من أهم أسباب الفشل القومي إن الواقع التجزيئي للامة الاسلامية كان حقيقة أكبر من أن يتجاهلها القوميون ، كما إن هذه الهوية القومية لا أساس تاريخي واضح المعالم لها ، إذ لم يسبق للعرب أن تكونت لهم دولة عربية بمفهوم سيادي واضح بمعزل عن الإسلام ، فالإسلام هوالذي نشر ثم وحَّدَ العرب.

أما عن الهوية العراقية وامتداداتها التاريخية في بلاد مابين النهرين فالحديث يأخذ مسارين ؛ الأول إن العراقيين عرفوا عبر التاريخ بأنهم أصحاب الحضارة السومرية والاكدية والبابلية وهووجود تاريخي سابق لكل المفاهيم التي ظهرت لاحقاَ ،حتى إن الدولة الإسلامية التي امتدت كثيرا باتجاهات الشرق والغرب ، كانت تنظر إلى أهل العراق نظرة خاصة وتسميهم باسمهم أهل السواد ، وفي الأثر التاريخي الاجتماعي تم تميزهم بطباع ذكرت العديد منها في نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام ، وكثيرا ما ابتدأت خطب أمير المؤمنين( بـــــ ـ يا أهل العراق. ) كما إن هذا الاسم استمر في عهد الدولتين الأموية والعباسية، وخطبة الحجاج مشهورة "يا أهل العراق إني أرى رؤوسا أينعت".

فالهوية العراقية كانت متميزة أصلا وحافظت على استقلاليتها عبر العصور ولم تندمج كثيرا مع بقية المفاهيم ، بل استمرت وتبلورت في العصر الحديث منذ 1921 ، فكانت النقطة الأكثر وضوحا أمام كل المسميات الأخرى ، ومنها محاولات التشتيت ضمن مفهوم القطرية ، التي سببت الكثير من الخسائر والجرائم والآلام التي ارتكبت بحق الشعب العراقي.

تتضمن الهوية الوطنية العراقية كل ما يميز العراقيين فهم شعب متعدد الأعراق والاثنيات والقوميات وتتعدد فيه اللغات، يسكنون عبر تاريخهم في ارض واحدة وتحت نظام مركزي واحد ، إن هذا التنوع فرض نفسه من خلال الفترات الطويلة من التعايش السلمي التي سادت بين العراقيين ، كما فرضت نفسها في حالات الاقتتال ضد الوجود والغزوالأجنبي؛ سلاجقة ، بويهيون، اتراك ،صفويون ،وانكليز.

يذكر المؤرخ العراقي الكبير علي الوردي إن أهل العراق لم يتقاتلوا إلا مع وجود الغزوالأجنبي ، بينما يسود بينهم الوئام في حالات الاستقرار والتحرر وهذا جزء مركب من الهوية العراقية. ان التنوع العرقي والديني" عرب، كرد، تركمان، وأية أقليات صغرى أخرى.وتنوع ديني؛ مسلمون، مسيحيون، إيزيديين، صابئة" ولد نوعا من التسامح لم تعرفه المنطقة مما أضفى إليه جزء مهم من سمات الهوية العراقية. وبالتالي مكنها من الصمود أمام الغزوات عبر تاريخها ضد المعتدين .

حصل بعد 2003 تعرض همجي على هذه الهوية ، منها عمليات مسخ وتشويه وتهميش من قبل جهات تكفيرية وطائفية ، التي أرادت بمجمل عملياتها أن تتآمر على الروح الحية التي يتميز بها المجتمع العراقي ، حتى إنها أسست تجمعات وتكتلات طائفية وأخرى قومية متشددة كانت الغاية منها ضرب الهوية الوطنية العراقية.

العراق وطن كفى بالله في العلا حاميه ، وكفى بدجلة والفرات يحتضناه ويروياه من جباله إلى بحره ، والوطنية العراقية لا تحتاج أقنعة الطوائف والقوميات لتتعلم النطق ،فلقد كتبت في العديد من الشرائع والمسلات وعلمت العالم القراءة والكتابة منذ آلاف السنين ، هي تحتاج ثوب الوطن الواحد المتين بخيوطه التاريخية لتزهووتنمومن جديد ،ولكي تحتضن في ضلالها الوارفة كل المكونات والألوان والتعددية الجميلة.


 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org