مقالات

 

الفصام الثقافي

حيدر قاسم الحجامي –العراق  

هل تعاني النخب الثقافية العربية شيزوفرينيا (انفصام الشخصية ) فعل؟،وهل تعي هذه "النخبة " فعلاً أنها تعيش منذ زمن بعيد في هذه العقدة التي أخذت تنمو دونما إن تجد من يشخصها ويحاول وان يجد لها دواءاً شافياً . وإذا ما كان  المثقف دائماً  هو في طليعة من يقف في صدارة المشهد ويحاول إن يتصدى لمختلف القضايا حتى تلك التي لا تهم شخصه مثلما يقول سارتر في تعريفه  (المثقف..هو الشخص الذي يتدخل في قضية لا علاقة لها بشخصه )فلماذا نلاحظ انسياق معظم هذه الأسماء وراء السلطة والتودد لها ، على إن التودد إلى السلطة ليس سبة إذا ما كانت السلطة  هي سلطة الشعب لا السلطات الدكتاتورية التي ترزح تحت حكمها القرقوشي الشعوب  العربية ، وهي لا تزال تدبج الخطب المغلفة بالكلمات المعسولة لكي تمرر مشاريعها وتغرس جذرها بعيداً في جسد الأمة العربية الخائرة القوى بسبب تلك الأنظمة الجائرة .

إن مهمة استقصاء دور النخب الثقافية ليست بالمهمة اليسيرة بل هي شائكة ومعقدة لدرجة إن لا يمكن لأي باحث إن يحدد تيار واضح أو منهجية ثقافية تتبناها هذه النخب لكي تكون خارطة طريق تقودها إلى طريق الإصلاح الذي هو الحل كما يعتقد الكثير ، لان بدون تفكير جدي  بالإصلاح   فان كل حراك  ثقافي سيكون بمثابة رمي قطرة حبر في بحر متحرك  .

ولكن السؤال الذي مازال معلقاً هل يملك المثقف خطة للإصلاح ؟وهل يؤمن بدوره  ويعرف إن أهم مهامه إصلاح واقع مجتمعه والنهوض به ؟وان وجوده يحتم عليه دور تاريخي في تحديد ملامح التغيير المطلوب والتحدي الذي يواجه مجتمعه ؟أم انه يحصر وجوده وامتداده في خانة الذات فهو يكتب ليرضي ذاته وليذهب الجميع إلى الجحيم ..!! هذا التساؤل ليس بالجديد ولكنه دائم الوجود على طاولة البحث .ولتحديد المسؤولية عن حالة الفصام الثقافي التي أصابت المثقف العربي  لا بد من تحديد عدة  أسباب أساسية لنتمكن من بعد ذلك من تحديد إبعاد هذا الداء ، وأول هذه الأسباب عدم قدرة المثقف الربط بما يفكر به في عالم الأخيلة والتصورات والرؤى مع واقعه مما يجعله منساقاً مع الجماعة التي يعيش معها متخلياً عن أفكاره ويعيش قطيعة مع أفكاره التحررية  أو لا يجرؤ على المواجهة   ( قد يتحدث هذا المثقف عن الحرية، والعصيان، والدور التاريخي للنّخب، لكن ما إن يتعرض لأول اختبار حتى يرسب بعدة امتيازات، والأمثلة لا تحصى... فهو أستاذ جامعي في التاريخ أو علم الاجتماع أو الآداب، تنتهي مهمته عند حدود مهنته، فما إن يعود من الجامعة حتى يلتئم السياق الاجتماعي، باحثا بقوة عن شهادة حسن سير وسلوك، فالتاريخ بالنسبة إليه هو ما غَبَر،والآداب هي مجرد أخيلة لا صلة لها بحياته اليومية، وعلم الاجتماع لا امتداد له في المجتمع ومجمل علائقه المعقدة... )1 هذا ناتج  عن غياب الطبقة الاجتماعية العريضة التي تؤمن بدور المثقف كمصلح ووسيلة ناقلة نحو التطور الاجتماعي والفكري والثقافي  ، وسببه أيضا  السلطة   التي تعيق حركة  الطبقات الاجتماعية بالتشكل والنشوء مما قد يولد  طبقة وسطى تستطيع إن تتفاعل مع مجريات الحياة العربية وفق رؤاها التي تستشفها من خلال تحليليها للخطاب الثقافي والسياسي ومن ثم تحدد مسارات الرأي العام .

ينتج عدم التفاعل مع النخب الثقافية وخطابها ردة فعل لدى المثقف الذي سيجد نفسه في مجتمع  لا يعي ما يريده أو ما يطالب به ، مما يقوده إلى عدم التعويل على إن ما ينتجه سيجد له الأثر في الواقع ، مما جعل السؤال مثار بحث متواصل لدى المثقف نفسه ، هل تكتب النخب للشعب ؟أم للنخب ؟.

وإذا كان المثقف يكتب ليقرأ له المثقف الأخر  يأتي السؤال ،ثم ماذا بعد ذلك ؟.

والسبب الأخر الذي ولد ظاهرة الفصام هو نمو التابو هات والتوسع المستمر لها  ، مما ولد حقول ألغام بوجه أي رحلة نحو البحث والنقاش والتقصي وقراءة التاريخ وتفكيك العلاقات القائمة و طغيان  ظاهرة المسلمات التي أصبحت جزاءا لا يتجزأ من حقائق المجتمع الواقف  عند حدود هذه  المسلمات    ، وهذا  جعل المثقف العربي يقف متأملا ومدققاً وحذراً في أي نص أو فكرة قبل إن يطرحها خوفاً من أي يخترق محرماً وهو لا يشعر  وبعدها سيجد نفسه في أتون دوامة من التهديد والترويع  والتكفير والتخوين وقد يصل الأمر إلى التصفية .

إن نمو الأصوليات المتصاعد في العالم العربي منذ زمن طويل  يطرح سؤال  مفاده الى  متى تظل البداوة وقيم الصحراء تعشش في عقول العرب ورفضهم الأخر وعدم اعترافهم بمكان وقوفهم الحقيقي في درجات سلم التطور والتحضر العالمي (الورم الآخر الذي مني به العقل العربي المسلم فهو ذاك الذي نسميه بإغلاق باب الاجتهاد ونحن بفكرنا اليوم نمشي القهقرى و نعتقد أننا نسير قدما نحو آفاق أكثر انفتاحا وليونة في عالم يتسابق فيه الكل نحو عوالم التكنولوجيا و المعلوماتيات. إغلاقنا لباب الاجتهاد إذن كان إعلانا صريحا للحرب ضد كل ما هو جديد و اعتباره بدعة و مجلبة للفتن، والبطش الذي عانى منه المجددون والمجتهدون في زمن غير بعيد بل وما يزالون كان كفيلا أن يشكل في اللاوعي الإسلامي العربي نوعا من الإرهاب النفسي (2،  حتى وان استخدموا أدوات الحداثة التي استوردوها من الغرب مع" كتلوكات "مصورة تعلمهم طرق استخدامها  كأسلوب بدائي للتعليم  وقد يتوهم الكثير إن الشعوب العربية تعيش مرحلة بناء حضارة مدنية مع أدوات الحداثة التي تستوردها لكن  يرد على هذا بقول المفكر الإيراني علي شريعتي    (إن المجتمعات التي تستورد الحضارة ثم تقوم بتجميعها وتركيبها دون جذور ودون استعداد ودون تغيير للتفكير والفكر ،وبدون إرساء هذه الحضارة على أسس وقواعد ثابتة من أعماق ترابها الثقافي والتاريخي والقومي ، لا تستطيع إن تبني حضارة دائمة ، ليس هذا فحسب ،لكنها تفرط في فرصة إن تكون يوما ذات حضارة )3

إن  الأصولية ليست مرتبطة بالتيار الديني فقط ، لا بل إن حتى التيارات العلمانية واليسارية العربية تعتمد الأصولية كمنهج وتؤمن بصحة كل ما تطرح و إن أفكارها غير قابلة للنقاش أو الرد و لا تؤمن بحق الاختلاف وفي هذا شواهد كثيرة وماثلة وقد تجد إن المثقف اللاديني اشد انغلاقاً وأصولية من الأخر ويؤمن بالقمع ومصادرة الرأي الأخر وهذا سبب أخر يضاف إلى أسباب حالة الفصام الثقافي التي تصيب مثقفنا العربي وتجعله يعيش شيزوفرينيا مستمرة ويعلم أو لا يعلم  .

السبب الثالث هو التغريب الثقافي الذي وجود  البعض نفسه مروجاً له ُ وداعية في مجتمعه ، وهذا الدور الذي يلعبه هذا المثقف العربي على حساب قيمه وهويته  وخصوصيات مجتمعه، مما جعله منساقاً وراء دعوات لا تعبر عن الكامن في ذاته ولا هي من صلب واقعه الذي يعيشه ، بل حاول عبثاً إن يكون موضوعاً  لا ذات ، مقلداً لا مبدعاً   ، ونلحظ تهافت واضح لأغلب المثقفين على العرب على الغرب واستيراد قيمه ومدارسه على علاتها ومع عدم مراعاة خصائصها التي نشأت فيها  ومدى ملائمتها لظروف المجتمع الذي يراد لها إن تغرس فيه، ظنناً منهم إن كل ما يأتي من الغرب هو الحضارة و الثقافة وهو قابل للتطبيق  ، لذا فان مثل هذه الدعوات كانت غريبة على المثقف ذاته قبل مجتمعه ، وهو ما يجعل المثقف يغرد خارج السرب، إن انسياق الكثير من المثقفين وراء مشروع تغيير طوبائي هو نوع من الفصام الذي يعبرون عنه بوعي وبدونه ، لشعورهم بعقدة نقص تجاه الغرب لان الأخير نحج الى حد بعيد في تكريس نفسه مركزاً فاعلاً والشرق طرفاً جامداً ، إن التحول الى ببغاء لشخص المثقف تجعل منه غير قادر على نطق حتى ما يراد منهُ قوله لذا تجد كتاباتهم خفيفة الوزن (ومن المؤاخذات الأخرى على كتابات الليبرالية العربية الجديدة الاستسهال وخفة الوزن والخلو من العمق الفكري وارتكاز معظم كتاباتهم على شتم الجماهير والاستخفاف بمشاعرها، وتحكم فوبيا الإسلام السياسي بأخلاقية تناولهم لقضايا الأمة)4

إن حالة الفصام التي يعانيها المثقف العربي مركبة ومعقدة تحتاج الى من يفككها ومن ثم يبدأ بعلاجها ، فمع كل ما تدعيه بعض هذه النخب من تحرر ودعوة للحداثة  نلاحظ انسياقها وراء امبرطوريات المال التي تغدق عليها الهبات والعطايا ، لا لوعي تلك الإمبراطوريات لحجم تأثير هذه الأسماء أو عظيم قدرها لدى الشعوب قدر ما هي محاولة للتزين وإضفاء ملامح الرعاية للفكر والثقافة ، إن ما يدعيه البعض  من قيم إنسانية لا ينسجم مع لهاثهم وراء المكرمات السخية التي توزعها الأنظمة العربية الجائرة ، أو التطوع للدفاع عنها وتلميع صورتها وليس أدل على مثل هذا الموقف في الحالة العراقية التي عرت الكثير من الأسماء التي انساقت ترقص على جراحات شعب أدمته الحروب ، غير مستكثرين ولا مستنكرين لما يلاقيه شعب يعاني الموت والجوع في إن واحد .

وأي حالة أدل على هذا الفصام حين ينبري مثقف عربي في الدفاع عن احد أعمدة الفكر التكفيري (هكذا، مثلاً، نقرأ أدونيس ينتقد الهياكلَ “الثابتةَ” والأصولياتِ العربيةَ انتقادًا استشراقيّاً مليئًا بالعموميات والأحادية (على طريقة رافاييل پاتاي أحيانًا)، لكنّه يكرِّس كتابًا كاملاً، اختارَ نصوصَه وقَدَّم له هو والدكتورة خالدة سعيد، في “فكر الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهّاب،” وذلك ضِمْنَ سلسلة “ديوان النهضة: دراسات ونصوص تمثِّل رؤيةً جديدةً للنهضة العربية” (بيروت: دار العلم للملايين، 1983)5. وهكذا تَحَوَّل أحدُ عتاة الفكر الجامد والثابت، وعلى يد أحدِ رموزِ الحداثة، إلى أحد روّاد النهضة العربية!)5 طبعاً اقتبس من مقال سماح إدريس الذي يحمل هذه المفارقات العجيبة والتي تجعل المرء يتأمل كثيراً بؤس الحالة التي وصلت إليها هذه النخب !!!.

 اليس من المفارقة إن تكتشف الطبقات التي ينبغي إن يتكشف عيوبها المثقف  ويدلها الى مواطن ضعفها ، تكتشف هي  عمق الأزمة التي يعيشها المثقف وهو يتشظى الى نصفين متنافرين يجمع بينها جسد . 

 

هوامش

 1-المثقفون الثلاثة –خيري منصور – القدس العربي

2-شيزوفرينيا العقل العربي أم الغربي –أسماء غريب

3-علي شريعتي – المثقف ومسؤوليته في المجتمع ص36

4- صورة المثقف الملتزم –صلاح حسن  الموسوي –موقع الجنوب

5- سماح إدريس -افتتاحية مجلة الآداب العدد (5-6 ، 2007)

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org