مقالات

  

قرطبة الظاهر

  

الفلسفة الاغريقية في السياسةو الدولة ج 5

 

بوليتايا / الكتاب الخامس وحتى السابع: متناقضات (Paradoxan) المدينة الافضل

يتم في الكتاب الرابع وضع مخطط للمدينة الافضل. وصل الحال في هذا المخطط إلى أن وضع المدينة الافضل هو مجرد رأي مطروح قدمه أفلاطون بدون ذكر أسباب عميقة لتأسيس المدينة الافضل. في كتابه الخامس وحتى السابع يقوم أفلاطون بأيضاح ما يدور في فكره حول كيفية وصول الانسان من الرأي إلى تكوين الفكرة ثم إلى المعرفة. والرأي يحمله من لا يملك المعرفة كما أوضح ذلك في كتابه الرابع. وقد ذكرت في الحلقة الاولى بأن الفكرة هي مجموعة من شروط لأمكانية الادراك والتفاهم. والفكرة لا تولد بل انها موجودة في وعي الانسان وبحاجة إلى بللورة من خلال تذكّرها حسب معتقد أفلاطون. الوصول إليها هو مفتاح اللغز في الكتاب الخامس وحتى السابع. كيف يصل الانسان إلى الفكرة كي يطبقها في تنظيم المدينة؟ كيف تتوحد الروح البشرية مع طابع المدينة ونظامها السياسي بدون تزييف أو تحريف للمعطيات؟ الصورة وما وراء الصورة، الفيزياء ، أي الروح البشرية ، وما وراءها ، أي المدينة هي محور الكتب الثلاثة الخامس وحتى السابع. أفلاطون يطرح السؤال: "ما هو طابع المدينة الافضل؟" إنه يطالبُ بالمساواة بين الرجل والمرأة، بالمِلكية الاجتماعية، وبحكم الفلاسفة. تُعتبر هذه المطاليبُ متناقضات (Para doxan) في طرح أفلاطون. هل كان هذا الفيلسوف ينوي الاعداد لثورة ثقافية (cultural revolution)؟ هل يستهدف أفلاطون تغيير نظرة المجتمع اليه عبر طرح هكذا متناقضات أم انه يداعب العقول الضيقة التي انقضّت على الفكر والعقلانية والمعرفة من أجل إيقاظها من نومها العميق في مدينة أثينا الديمقراطية من جديد؟ لنتمعن في هذه المتناقضات الثلاثة:

1.    المساواة بين الرجل والمرأة

أي نظام في ذلك الزمان يجرؤ على طرح مطلبٍ كهذا خاصةً وأنَّ المرأة في أثينا كانت معزولة عن الحياة السياسية العامة تماما؟ فمكان المرأة في المجتمع الاغريقي كان البيت وتربية الاولاد أما مكان الرجل ففي المدينة. لكن أفلاطون، رجل الوحدة، يؤكدُ على أنْ لا فرقَ بين الرجل والمرأة في مهاراتهما، في قوتهما وفي فكرهما. لذا لا يستبعد أفلاطون توظيف المرأة في دوائر حكومية أو توكيلها بمهام عامة أخرى، بل اكثر من ذلك انه يطالب بأن تكون النساء ملكات فيلسوفات في المدينة الافضل. لكل من المرأة والرجل نفس الحقوق في التربية البدنية والفكرية في المدينة الافضل لذلك فعلى كلا الطرفين الالتزام بواجباتهما. من واجبات المرأة ايضا الدفاع عن مدينتها والتدريب على حمل السلاح والمشاركة في الحروب والغزوات. أفلاطون يطالب بمشاركة المرأة في جميع مجالات الحياة العامة دون أي استثناء. من المعروف في ذلك الزمان أن نساء سبارتا كنَّ يرتدين ملابس مُثيرة للجدل في أوساط المجتمع الاثيني وكنَّ ايضا يشاركن الرجال في التدريبات الرياضية من اجل تقوية قوامهن البدني. لكن نساء سبارتا لا يشاركن الرجال في الحروب ولا يتدربن على حمل السلاح. لم يخلُ ذهن أفلاطون، بالرغم من مطالبته بتحرير المرأة من الانماط السائدة في المجتمع الاثيني .. لم يخلُ من نقده للنساء :"النساء يفضلن العيش في ظلمات البيوت." بما يعني أنهن لا يرغبن المشاركةَ في الحياة العامة. كما يذكر أفلاطون في آخر اعماله (Timaios) عن المرأة بأنها:"عقوبة لحياة محكوم عليها بالفشل." من خلال هذا الطرح يبدو لنا أن أفلاطون لا يطالب بأحترام المرأة من خلال مساواتها بالحقوق والواجبات مع الرجل بل ينظر إليها كرجل عاقبته الحياة وأخرجته بهيئة إمرأة! ويتضح لنا ايضا أنَّ في مدينة أفلاطون لا يصنع كل من الرجل والمرأة ما يختص به وما يمتاز به على حدة بل كلاهما أي الرجل والمرأة يملكان نفس الاختصاص وينتجان نفس الانتاج. الهدف من ذلك هو تحقيق الوحدة بين الروح والمدينة. يجب على الكل ان يتوحد مع المدينة من خلال قدرته ومهارته الانتاجية وليس نصف المجتمع. الكل عليه ان يخدم مدينته ويشارك في إزدهارها وتقدمها. يؤكد لنا هذا الطرح بأن أفلاطون لم يطالب بتحرر المرأة من القيود والاعراف الاجتماعية السائدة في أثينا بل أنه يستهدف فقط تطبيق نظرية الوحدة وربط المرأة بالدولة. لذلك لم يطالب أفلاطون بحقوق المرأة بل بإستقطاب المرأة وإرغامها على التقيد بواجبات إضافية فضلاً عن واجباتها المنزلية.

2.    المِلكية الاجتماعية (النظام الشيوعي)

إنها طفرة فكرية نوعية في ذلك الزمان من فيلسوف يعيش في مجتمع يؤمن بالتفرقة بين الحياة العامة والخاصة ويعزز من مكانة الرجال في السياسة. أفلاطون لا يطالب بالملكية الاجتماعية من كل طبقات مجتمع مدينته بل فقط من طبقتي المدافعين والفلاسفة. لا يحق لهؤلاء التملك. كل ما يملكوه هو ملك للجميع حتى نساؤهم واطفالهم! لا يحق لهم العيش في بيوت معزولة بل في مُجمّعات سكنية. أفلاطون يمحو الحياة الخاصة من قاموس الطبقة الارستقراطية. هل يعي حقا ما يطرح؟ أم أنه يستهزئ من محيطه التقليدي؟ لقد قام الكاتب المسرحي أريستوفانيس بتقديم مسرحيته الكوميدية تحت عنوان:"الجمعية الوطنية النسائية" يبين فيها مطالبة النساء بتأسيس نظام الملكية الاجتماعية بشكل متطرف. لكنه ينتقد هذا النظام بشكل ساخر من خلال إقرار النساء في الجمعية الوطنية على إختيار الرجال الطاعنين في السن للزواج أولا قبل الشباب. بلا شك لقد استقطب أفلاطون بعضا من وقائع هذه المسرحية التي عرضت قبل بوليتايا كي يعكس أفكارها على مدينته ليس أستهزاء بالواقع المتشتت والفوضى العارمة في جمعية أثينا الوطنية بل التركيز على نظرية الوحدة. المِلكية الاجتماعية توحّدُ الحياةَ العامة والخاصة في مكان واحد من اجل المنفعة الذاتية والعامة على حد سواء. النساء والاطفال هم ملك للجميع. فتعددية الازواج مباحةٌ في مدينة أفلاطون لكنَّ النساءَ والاطفالَ يعيشون معزولين عن الرجال. بذلك تصبح العلاقة بين المرأة والرجل مقصورة فقط على ممارسة الجنس من أجل الانجاب. في حال ولادة طفل لا يجوز التعرف على والده الشرعي و على والدته ويتم عزله فورا عنهما. كل الاطفال هم أبناء وبنات الجميع والكل له الحق والمسؤولية في تربيتهم. بذلك يتحول المخلوق البشري إلى مؤسسة حيوية أو بالاحرى إلى مُرّكب بشريٍّ مصنوع في حقل للاختبارات. إذ أن واجب المرأة والرجل هو ليس تكوين الاسرة بل تكوين كائن المدينة البشري يُقدّمُ قرباناً للمدينة . يقارن أفلاطون تربية البشر بتربية الدواجن والكلاب. أفلاطون يحدد أعمار خصوبة الرجال ما بين 25 إلى 55 سنة والنساء ما بين 20 وحتى 40 سنة. والمرأة لها الحرية في القبول بحملها أو إسقاط الجنين. يروم أفلاطون من هذا الفكر أن يزيل فكرة الاستحواذ على الملكية العامة او ملكية الدولة من قبل الطبقات العليا. بينما يُتيح للطبقة الدنيا من مجتمع مدينته وهي طبقة المُغذّين حرية الحياة. لا يجوز للفلاسفة الملوك أن يتمتعوا بالسلطة والجاه والمال بل كل ما يملكونه هو ملك للجميع. لكن من يملك موارد الانتاج؟ في الانظمة الشيوعية تُعتبرُ كل موارد الانتاج هي ملك للدولة المركزية. في مدينة أفلاطون يبقى السوق حرّاً والاقتصاد مخصخصا. لكن ماذا لو تغيرت المستويات المادية للبشر؟ هل ستقام ثورة ضد الطبقات العليا؟ أفلاطون يستبعد هذا الأمر ويؤكد على أن الثورات الكبرى تبدأ داخل الانسان. إذ انه يستهدف تقديم طرح قيمي اكثر من كونه سياسياً او حتى أيديولوجياً شيوعياً. وإذا ما طبقنا بعضا من هذا الطرح بشكل قيمي على واقعنا السياسي في العراق فبإمكاننا طرح الأسئلة الآتية: "هل يحق للمسؤولين الكبار في الحكومة الحصول والاستحواذ على موارد الدولة من مرتبات وإمتيازات بهذا الشكل المفرط؟ هل يحق لهم التلاعب بموادر الدولة الطبيعية دون توزيعها على عموم الشعب بطريقة عادلة؟" هذا هو هدف أفلاطون من طرح هكذا متناقضات ألا وهو الدعوة إلى التأمل وإعادة النظر في الفكر النمطي الخاطئ.

 3.    حكم الفلاسفة

يُعدُّ حكمُ الفلاسفة من أكبر المتناقضات في مدينة أفلاطون ألا وهو توحيد السلطة مع العقلانية في نظرية الملوك الفلاسفة. يقول أفلاطون: "  طالما لا يصبحُ الفلاسفةُ ملوكاً في المدن طالما لا يتقنُ هؤلاء الملوك وأصحاب السلطة الحاليون الفلسفة بعمق وبصدق..وأنا اعني هنا طالما لا تتوحد سلطة الدولة مع الفلسفة.. لعمري لن تكون هناك راحة للدول من كل هذا السوء ولن تكون هناك راحة للبشرية قاطبة..". لقد أعاد أفلاطون هذه الجمل تسع مرات في مجمل بوليتايا. وبلا شك تكون هذه الجمل أكبر المتناقضات إذ أن من غير المعقول أن يصبح أصحاب السلطة الطامعون بالجاه والمال والنفوذ فلاسفةً يحكمون بعقلانية وحكمة رفيعة! إمّا أنهم لا يستطيعون التفكير والتأمل أو أنهم لا يجيدون التصرف السياسي بالشكل الصحيح. وخير دليل على ذلك هو سياسيونا الحاليون في العراق الغارقون في مأزق تشكيل الحكومة: من الصعب جدا أن يصبحَ هؤلاء فلاسفة بين ليلة وضحاها. هنا يضع أفلاطون الفكرة، الشروط لامكانية التفاهم: أولا، إنه يطالب بشخصية معينة من البشر وبصفات معينة لحكم الدولة. في حال حكم الخيّرين للدولة فإن سياستهم ستكون خيّرة. بهذا تُصبحُ سياسةُ أفلاطون مرتكزة على صفة الانسان في إختيار الموارد البشرية المناسبة. ثانيا، إنه يضع كل ثقته بسلطة أو قوة العلم. "السياسة تتعلق بالتعليم الصحيح للحكام..". يقصد أفلاطون تعليم إدارة الحكم نظريا وتطبيقيا. على الفلاسفة أن يحظوا بخبرة عملية قبل تسلمهم مقاليد السلطة والحكومة وعليهم أن يكونوا بين السن 35 و 50 سنة من عمرهم. من يملك فقط الخبرة النظرية لا يحق له أن يكون حاكما لانه يُعدُّ فيلسوفا مزوَرّاً ومثله مثل السفسطائيين الذين يقومون بإفساد الشباب أو يحاولون التلاعب في عقول الناس من أجل التحكّم بهم بديماغوغية. بينما يكونُ الفلاسفةُ الأصلاء محبين للمعرفة وللحكمة ويعملون بجدارة وشطارة حسب معتقد أفلاطون. يوضّحُ تعليمَ الفلاسفة بالشكل الصحيح بثلاثة أمثلة:

أ- الشمس: يقارن أفلاطون الفكرة الصائبة بالشمس، الفيزياء الطبيعية والميتافيزياء البشرية. الشمس تسطع بكل وضوح للجميع وهي مصدر النمو والبقاء للمخلوقات على وجه الارض. مثلها مثل الفكرة الصائبة. إنها  تغدو واضحة وضوح الشمس كمقوِّم للادراك والوعي في الروح البشرية. يجيب سقراط على سؤال كلاوكون، شقيق أفلاطون الذي يسأله عن موقع الفكرة الصائبة في الروح البشرية فيقول "مكانها ما - وراء الذات". يجيبهُ شقيقُ كلاوكون ، أفلاطون ، صارخا:" يا له من تفوّقٍ إلهيّ". يتضح لنا بأنَّ كلَّ إدراكٍ ووعيٍّ صائبٍ وصحيح موقعه في العقل البشري. إذْ أنَّ كلَّ الافكار تظهر من "ما – وراء" الذات البشرية من خلال أستذكارنا لها. ويقول أفلاطون:"الفكرة هي مجموع الميزات التي تتصف بها الاشياء فالعدالةُ ، على سبيل المثال ، هي الميزة التي تجتمع فيها كل تلك التصرفات التي نصفها بالعادلة". والفيلسوف يكون حاكما عادلا عندما تجتمع في ذاته كل ميزات الطبقات الاخرى أي الحكمة والشجاعة والرزانة وتنعكسُ هذه الميزات على تصرفاته في إدراة زمام أمور مدينته كي تظهر واقعاً أمام الاخرين على أنها صفات حكيمة وشجاعة ورزينة للملك الفيلسوف. 

ب- الخطوط: يأتي بعد الشمس مثلٌ أخرُ لتعليم الفلاسفة وهو الخطوط. يقسّمُ أفلاطون الجدول المرفَق إلى اربعة أجزاء يُمثّلُ كلُّ جزء عتبة من المعرفة والادراك ويضع لكل عتبة صفة من صفات الطبقات الاجتماعية في مدينته. ثم يقوم بتقسيم مجسمه إلى عالمين: عالم الظاهر والواقع وعالم الممكن والباطن (أنظر الرسم الايضاحي).

في كلا العالمين توجد عتبات من المعرفة والادراك تتقدم واحدة على الاخرى صعودا. ففي عالم الظاهر يتقدم الايمان على الاعتقاد وفي عالم الباطن تتقدم العقلانية على العقل أو الادراك. أسمى واعلى علامات التقدم هي العقلانية. يتخذ أفلاطون نسبة 2:1 ما بين العالمين لان ما موجود في الذات البشرية هو اكبر من العالم الظاهر حسب معتقده. تبقى هذه الصورة من فكر أفلاطون خالدة حتى القرن الثامن عشر حيث أستعملها الفيلسوف عمانويل كانت في كتابه "نقد العقلانية الخالصة" بصيغة مشابهة حيث استعمل الاوصاف حسب الترتيب صعودا: الحسية، العقل ثم العقلانية. إعتبر الفيلسوف كانت أن ظاهرة الروح المعنوية (phenomenology of spirit) تبدأ باليقين الحسي في الباطن ثم تتحول إلى إدراك كي تستمر إلى العقل ثم إلى العقلانية وتستقر في نهاية المطاف في الروح المعنوية.

ج- المغارة: يجسد هذا المثال قمة الفلسفة الافلاطونية في بوليتايا. إنه مثال لقوة الادراك والوعي او العجز. يطرح أفلاطون من خلال هذا المثال السؤال الأتي: هل يمكن أن تكون المعرفة تطبيقية كما هي نظرية؟ هل تملك المعرفة ذاتها القوة والسلطة على الانسان وتتحكم في ذاته اي في عقلانيته؟ في هذا المثال تتحول عتبات المعرفة من مثال الخطوط إلى محطات حياتية. الطريق للمعرفة يتحول إلى صعود من أعماق المغارة إلى سطح الارض، من المغارة إلى الفضاء ، من العالم الخيالي إلى الحقيقة والواقع, من الضبابية إلى الشفافية.

في هذه المغارة يعاودنا مثال العتبات الاربع للمعرفة. العتبة الاولى توضح لنا حال سجناء مكبلين جالسين جميعا في مغارة مظلمة. إنهم لا يرون الضوء إلا من خلال شعلة من النار. كما أنّهم لا يُبصِرون من خلال ضوء النار المشتعلة إلا ظلال أشياء على حائط المغارة تتنقلُ من مكان إلى أخر. هذه العتبة هي عتبة الاعتقاد. إنهم لا يرون من ينقلها لكنهم يسمعون أصوات بشر وضوضاء تحرك الاشياء ويرون ظلالها على حائط المغارة وهي في حركة. المغارة هي عالم هؤلاء المكبلين السجناء. يقوم واحدٌ من السجناء بتحرير نفسه. يُحرّكُ هذا السجينُ المتحرر أنظاره. في بداية الامر يشعر بالالم في عينيه عندما ينظر الى النار المشتعلة. يتمعّنُ شيئا فشيئا  في الاشياء التي تم تحريكها ويتعرف عليها، إنها حيوانات، واشياء مختلفة الاحجام ومجسمات إصطناعية ونباتات. أدرك السجين المتحرر أنه عندما كان مكبلا كان يشاهد فقط ظلال هذه الاشياء على حائط المغارة. الان اصبح يراها بأحجامها الحقيقية ويستطيع لمسها. إنه ادرك الحقيقة عندما شاهدها وتلمّسها. هذه العتبة هي عتبة التحرر. يدخل المتحرر الان عتبة الايمان. أصبح يؤمن بوجود الاشياء التي كانت مجرد ظلالٍ أو صورٍ يتخيلها. يحاول المتحرر الان الصعود إلى الاعلى. لكنه يُجرُّ بقوّة إلى الاعلى. أصبح الان في الفضاء الشاسع، في العالم الخارجي. تؤلم اشعة الشمس عينيه ويكاد لا يرى شيئا من محيطه. لكنَّ عينيه تتعودان شيئا فشيئا على الضوء الطبيعي. في بداية الامر يرى من جديد الاشجار والشمس ومحيطه معكوس على سطح بركة من الماء كالمرآة. إنه تخطّى عتبة الادراك او العقل. وأخيرا يرفع رأسه كي يبصر الشمس. الشمس هي رمز للفكرة الخيرة، الحسنة، الجيدة والنافعة التي نستذكرها من داخل ذواتنا. إنها ضوءُ اليقين وإستبصار الحقيقة وإظهارها بكل شفافية ووضوح ، إنها العتبة العليا وهي العقلانية. يعود أفلاطون من خلال ذكره للشمس إلى مثال الشمس الاول. من يرى الشمس يحس بالسعادة الداخلية لكونه أدرك، وأيقن، وعرف الحقيقة. بعدما ادرك المتحرر الحقيقة وايقنها قفل عائدا إلى المغارة من جديد كي يُخبرَ زملاءَه المكبلين عمّا شاهد وادرك وايقنَ. إنه يعود إلى الظلام بعد أن بارحَ الضوءَ. العائدُ هذا ينظر إلى ظلال الاشياء من جديد لكنه لا يفهمها كما يجيد فهمها الان زملاؤه المكبلون الذين اصبحوا خبراء في معرفة ظلال الاشياء المتحركة. يقصُّ المتحرر على زملائه ما شاهده في الفضاء الخارجي ويفاجأ بإستهزاء المكبلين بقولهم: "لا فائدة من الصعود إلى الاعلى ومعرفة كل هذه الامور بل بالعكس ، فمن يحاول التحرر من هذه القيود أو يفكر بالهرب يتوجب قتله." ينتاب المتحررَ الخوفُ والقلق لانه يشعر بأنَّ حياته أصبحت في خطر.

تأملات في مثال المغارة:

 يذكّرُنا مثالُ المغارة في بداية الامر بما ذكرناه في مطلع هذا البحث عن واقعة أنظار الاخرين. النظرة الرقيبة تجبرنا على أن نتمسك بالقوانين والضوابط، إنها العدالة ذاتها. في هذا المثال تتحول النظرة من الرأي إلى المعرفة، من التصور والخيال إلى الحقيقة والواقع، من العالم الحسي إلى العالم اللمسي. أفلاطون يوضح أنَّ هذا التغيّر أو التحوّل للنظرة هو أمر مؤلم للانسان لكنه في نفس الوقت مهم ومصيري. المعرفة والعلم ، حسبَ رسالة أفلاطون في مثال المغارة ،هما من يجعلا الانسان إنسانيا فعلا وليس نظريا فقط. الذات والعقلانية تتوحدان في ثنائي مثال المغارة وتصلان لأعلى قمة في فلسفة الفكرة والفكر لأفلاطون. فما وراء الذات هي الفكرة الجيدة، الحسنة، الصائبة والسامية. لقد انتهت فلسفة اللا نهاية (apory) لسقراط. أصبح لكل شي في المغارة نهاية. الفكرة الجيدة هي التي تبني المدينة وتدفع لازدهارها وسعادة أهلها. العقلانية في الوحدة الثنائية ما بين الفكر والروح البشرية هي الحجر الاساس للمدينة العادلة والمثلى والافضل. كل ما يمارسُ الانسانُ في المدينة من حِرَفٍ وصنائع وسياسة ما هي إلا صور عكسية للذات وللعقلانية. مثال المغارة يروي عن التسلق إلى القمة، إلى الامتياز، إلى المعرفة. أفلاطون يؤكد بأنْ ليس هناك مَنْ يستطيع الارتقاء إلى القمة إلا الفلاسفة. لكنَّ السؤالَ المُحيّرَ في هذا المثال هو: من يحررُ الفيلسوفَ من قيوده؟ هل الآلهة أم المعلمون؟ أم الثائرون ضد العبودية؟ السؤال الاخر هو: ما علاقة العنف في هذا المثال؟ المتحرر يُجرُّ بالقوة إلى الاعلى وأثناء عودته تتعرض حياته للخطر. بلا شك يذكرنا أفلاطون مرة أخرى بمصير سقراط، الرجل الذي كسب المعرفة والحقيقة وعندما أراد أن يكونَ مُعلِّماً توعوياً أصبحت حياتُهُ في خطر وتمّت محاكمته بالقوة كي يفارق الحياة مظلوما.  يُحذّرُنا أفلاطون بأنَّ كلَّ حاكمٍ جليلٍ وكفوء وعادل وصادق ستكون حياته معرضة دائما للمخاطر من قبل الجهلاء والطامعين في السلطة والنفوذ والمال. وإذا ما راجعنا تأريخ العراق الحديث لوجدنا العديد من الامثلة التي تضعُ أمامنا من جديد مثال مغارة أفلاطون. اليومَ نسألُ: لماذا تمت تصفية العديد من  الكفاءات داخل العراق بهذه الوحشية؟ لماذا يُقتلُ أو يُبعدُ أصحابُ العلم والمعرفة في العراق اليوم؟ لماذا تُحاربُ الصحافةُ الحرّة في العراق وتتم تصفية الصحافيين الذين يكتبون وينطقون الحقيقة؟ الفلاسفة يعودون إلى عالم الغيب، إلى الظلام، إلى المغارة، معرّضين حياتهم للمخاطر من أجل بناء الانسانية ومن أجل الحفاظ على رباط الوحدة الروحية البشرية مع مدينتهم. الوحدةُ تلعبُ مرةً أخرى دورأ أساساً في فكر أفلاطون. عودة الفلاسفة تعني الارتباط المعنوي والروحي والفكري بالمدينة وسكانها. الروح والفكر والفضاء وكل الكون والمدينة هي قوّةٌ واحدةٌ مركزها العقلانية والفكرة الجيدة. هذه هي أكبر المتناقضات...

   

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org