مقالات

الفكر العربي من الفكر الزراعي إلى الفكر العلمي

 

عزيز العرباوي/ كاتب مغربي

 عندما نتفكر في الخريطة الثقافية والفكرية العربية خلال مدة زمنية طويلة امتدت لأكثر من قرن من الزمن، فسنجد أنها - هذه الخريطة - تميزت بالنزعة الفلاحية والزراعية . وتغل الفكر الزراعي بعد فشل المحاولات المتكررة للانطلاق في خلق فكر صناعي وعلمي متقدم يكون بديلا عن الفكر الزراعي، وعندما نلقي نظرة نقدية على وضعنا الفكري عامة من خلال الممارسة الفكرية خلال هذه المرحلة التاريخية من حياتنا فإننا سندرك مدى ضعفنا وعدم قدرتنا على الخروج من مرحلة الثورة الزراعية التي دامت لآلاف السنين من دون أن نتقدم فيها أكثر، واستبدالها بثورة علمية وصناعية كبرى قادرة على إخراجنا من ضعفنا وتموقعنا في الصفوف الأخيرة مع باقي الأمم الأخرى .

ذلك وضع يترتب عليه إخلالنا بالدور الذي يمكن أن يكون على عاتقنا ويمكن لنا أن نؤديه في المجتمع العالمي الصغير لتكييف الواقع والمستقبل وجعله بوابة كبيرة لنا لإنقاذ العالم من ثورة علمية بدأت تأخذ طريقها إلى الانهيار والخروج على القيم الإنسانية التي تدعو إلى اعتماد العلم في السلم والازدهار والتقدم وليس في الخروب والدمار والخراب . وبالتالي، يصبح المستقبل أكثر إشراقا مما هو عليه الخاضر الآن .

مفتاح هذه القيادة في نظرنا هو خلق تصور فكري للمستقبل العربي يعي خطورة الوضع العربي الراهن أولا، قبل أن ينطلق في إيجاد الدواء الحقيقي لداء فقدان القدرة على التفكير الحر وعدم تمييعه أو جعله متطرفا إلى حدود الانغلاق . ولذلك فهدفنا هو تحديد المراحل الكبرى للانطلاق نحو الأهداف المرسومة سلفا وتحديد القدرة على التأثير والتفاعل بين الحركات الفكرية والثقافية والعلمية في العالم العربي وتوجهاتها الأساسية .

إن الواقع الفعلي الذي يدعونا إلى تنبيه، إذا ما وضعناه على عاتقنا وفعلنا المستحيل لتحقيق الحد الأدنى منه، فسوف نجعل منه ذلك الأمل الذي كان يلوح لنا فيما قبل عند كل بادرة جبارة وعظيمة لرسم واقع عربي  قوي مشمول بتعاطف الجماهير العربية ومدفوع بإرادة شعوبها التواقة إلى إصلاح واقعها وتغيير قدرها الذي صار قدرا لعينا كلما توغلنا في المستقبل . وسوف نظهر حينها بمظهر لائق بأمتنا التي كان اختيارها لتكون أفضل أمة أخرجت للناس، ليس لجمال أهلها أو للمعجزات التي قد يدعيها الأغبياء منها، ولكن لأنها أمة السلام والحب والعلم والإتقان . أمة كانت مهدا للحضارات وخافظة لها من الضياع والتلف ما استطاعت .

لماذا ظل العقل العربي عقلا زراعيا بالدرجة الأولى بعيدا عن العلمية والصناعية في تركيبته المعرفية والإبداعية وقيمه المجتمعية، واجتهاداته الفكرية، وحتى في نظرياته الاقتصادية والسياسية ...؟ ومما جعل عملية الخروج بالفكر العربي  والعقل العربي من المنطقة المتخلفة للفكر العالمي أمرا مستحيلا، وليس عيبا أن تتبنى العقلية العربية الفكر الزراعي والدفع به إلى الأمام وخلق ثورة زراعية متميزة تفوز على الثورة الغربية الزراعية التي عمرت كثيرا من السنين قبل أن تتمكن من الوصول إلى بر الأمان وتحقيق الاكتفاء الذاتي والفائض الإنتاجي بكميات مهولة، ولكن ما يعاب على ثورتنا الزراعية في عالمنا العربي أنها مازالت تعتمد في أساليبها الوسائل التقليدية عوض البحث عن التحديث والعصرنة للتعاطي مع الزراعة...

إن عملية تجديد العقل العربي تتطلب الابتعاد عن ثقافة الأرقام والاجتهاد في تحسين الرتبة والدرجة بين أمم العالم، ولا يمكننا هنا، أن نستبعد هذا الأمر، ولكننا نقول بأن الرهان على هذا الأمر يجعلنا نضيع وقتا وفرصا كثيرة في البحث عن الطرق والسبل لتحسين رتبنا بينما العالم الآخر يجتهد في البحث والعلم والاكتشافات دون وضع مسألة الترتيب بعين الاعتبار أمام عينيه . وما زلنا على هذه الحالة منذ عقود لم نبرح مكاننا ورتبتنا المتأخرة وكأننا جامدين ننتظر من يقودنا ويحركنا من جمودنا هذا .

ويبدو أن اختلاف الآراء حول الطرق التي يمكننا أن نسلكها لتجديد العقل العربي والنهوض به، وإخراجه من بوتقة الفكر الزراعي التقليدي الذي سيطر عليه مدة عظيمة من الزمن، يجعل بعض هذه الآراء في موقع الندية والخلاف، وبالتالي القضاء على أي مبادرة قيمة للانطلاق إلى الأمام .

وبرغم افتقاد العقل العربي للرؤية الإبداعية في العلم فإننا نرى أنه قد حاول من قبل لبلورة هذه الفكرة ودافع عن كل ما يمت بصلة إليها من كل المواقع، وعمل المستحيل للدخول في غمارها، لكن الواقع كان أصلب منه ومن كل محاولاته، فالوسائل كانت نادرة بشكل مخيف، والمعارضة الشديدة التي كرستها الإمبيالية الغربية والصهيونية للحئول دون تقدم العقل العربي وانتفاضته كانت قادرة على لجم أي محاولة للتقدم، والمعرفة العلمية المنطلق الأساسي لإبداع الجديد كانت في ملكية الآخرين من الغرب والآسيان يحتكرونها ويطلبون الكثير من أجل منحها لنا ...وفي كل الحالات فقد كانت كل الأبواب موصدة أمام العقل العربي ليتحرر من سجنه الفكري والثقافي .

إننا في الواقع أمام عالم جديد يقدر العلم ويبحث عن الوسائل الكفيلة بتطوره وتقدمه، ولا نستبعد مسألة تخريب الفكر العلمي بإخراجه عن المسار العظيم الذي يتحتم عليه سلوكه والسير فيه للتقدم بالبشرية . وليس  المهم هنا من العقل العربي أن يتطور في هذا الاتجاه، بل سلوك طريق البحث العلمي السليم والقادر على إنقاذ البشرية من الدمار والخراب والخروج عن القيم الإنسانية والخلقية التي يكرسها العقل الغربي في بحثه اليوم...فاكتشاف الطاقة النووية شيء عظيم إذا استخدمت في المجال السلمي، ولكنها ستصبح مدمرة للبشرية إذا ما تم توظيفها عسكريا، واستنساخ البشر اكتشاف علمي باهر وإذا ما اعتمد في غير محله فإنه سيؤدي إلى كارثة إنسانية لا محالة، وغير هذه الاكتشافات العلمية التي أبهرت العالم وكانت في خدمته، وكثيرا ما عانى منها سواء في استخدامها السيء كالصناعة الحربية والكيميائية أو في نتائجها الكارثية على البيئة والطبيعة ..

ويصبح العقل العربي وتجديده على المستوى النظري والفعلي ضرورة لا بد منها . فعلى كل غيور على العقل العربي  أن يكون في مستوى المسؤولية، وفي أقصى المراحل الأولى للفعل الصحيح والصائب نحو ثورة علمية عربية تغير  من رؤية باقي الأمم إلينا .....

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org