مقالات

مدارج النور

 

عقيلة آل حريز

عندما نكون كائنات قدرية، فإن آمالنا ستتعلق ببياض السماء ..

حينها تولد قرارات منحوتة في خاصرة الزمن .. ووحدها هذه القرارات هي من ستصوغ لنا المرور في معابرها ..

الى السيدة خديجة بنت خويلد

زوج الرسول الاولى ورفيقته في الدعوة

*****************

استيقظت من النوم منتشية وهاتف ما كان يشغلها، فحلم الشمس لازال يراوح خيالها .. هبطت عليها شمس مكة من سمائها .. نور وضوء يشرق ببيتها ليعم كل البيوت حولها ..

حلم جميل لكنه مبهم ويحتاج لمن يفسره، لذا أسرعت الى ابن عمها تسأله عن أمر رؤياها .. تريد أن تتأول الحلم المضيئ .. فللأحلام لغة لا يفهمها غير المتوغلين فيه ..

وهاقد بشرها بأمر كتمته بداخها فقد أوصاها أن تفعل " لو صدق الله رؤياك يا "خديجة" ليدخلن نورُ النبوة دارك، وليفيضنَّ منها نور خاتم الأنبياء " .. أمور جميلة قالها ابن عمها الموحد "ورقة" فتحركت بداخلها أشياء كثيرة مع هذه البشرى، كانت قد أغلقت بوابات قلبها عنها فبدأت تنقشع غيوم الغموض عن ذاكرتها. فورقة عنده علمٌ من الكتاب وأخباره ..

سألته عما يعرفه عن خاتم الأنبياء وصفاته، فكان يجيبها في هدوء العارفين فاختزنت كل ما ذكره في ذاكرتها كوميض بريق تنتظره، وعاشت على رفرف الأمل وعبير الحلم، متمنية أن تتحقق رؤياها .. فعقلها كان يستوعب كل ما حولها من أحداث بشكل يتفق مع حياتها، وهي المرأة في مجتمع غرائبي متناقض، تبدو في اختلاف هويتها وطبيعتها واعطائها مكانتها .

كانت تسعى لأن ترسم لها طريقاً مختلفة عما كانته النساء في جيلها، و لذا بقيت مصرة على رفض كل من يتقدم لخطبتها من سادات قريش وأحسابها. لأنها كانت تقيس الارتباط بالرجل بقياسات مختلفة عن أي إمرأة، فهي تعلم أنه لا يجاريها أحد في ذكائها، ولا في قدرتها، ولا في حسبها، وجمالها ومالها ..

يحدث أن تفكر المرأة خارج المألوف فتغزل من واقعها أمنية قابلة للتحقيق، يمكن لها أن تفعل هذا، حين لا تجد من يكون كفئا لها، لذا كانت تقيس المتقدمين لخطبتها بمقياس الحُلُم الذي رأته والتفسير الذي سمعته من ابن عمها، فلم تجد الصفات تنطبق على الذين تهافتوا للاقتران بها .. كانت ترد على من يتقدم لخطبتها ردا جميلاً ومهذباً .

هي تدرك كل هذا، كما تدرك أن حياتها لم تكتمل بعد، كان قلبها يرنو إلى حياة زوجية كاملة كأي إمرأة تتوق للعيش في سكينة وسلام، لكن ثمة أمور قدرية تعالجها الأيام .. كانت تحس بقلبها وفطرتها، أن شخصا آخر هو من يستحقها وأن القدر يخبئ لها في جيوبه شيئاً لا تدري ما هو، لكنها تستشعر الطمأنينة تجاهه.. راح هذا الإحساس يمتلك حواسها.. كل ما تعرفه عنه أنه استقر بقلبها ولن تنساه تماما ..

كانت تتساءل هل ستبوح بحكاية عشقها السرية لأحدهم، فتخبره عن سنوات انتظار طويلة يغذيها الأمل .. أثقلها الأمر فاتجهت صوب الكعبة تطوف بها، وكانت بعض النسوة مجتمعات هناك في عيد يثرثرن بالكثير .. راحت تتشاغل عن اسئلتهن بانتظار أمنية علقتها بجدار الكعبة .. أصبحت متيقنة بأنها ستكون وستهبها السماء سحب غيث كثيرة تملأها بالمطر .. سيأتي فارسها بضوء الشمس في ناصيته، فقد تتبعت رحلة النور في آبائه وعلمت أنها ستنال حظها منه حين تقترن به .. ستشم عطره .. وترى ضوء مصباحه .. وتغذي رحلة الإنتظار بوجوده .

ها هو الكاهن اليهودي يمر بقرب النساء وهي معهن حول الكعبة .. يحدثهن بنبوءة قادمة ويوصيهن بأن يفزن بمشاركة الحياة لشاب حسن الخلق كريم الطباع، مر أمامهن للتو في سحر مختلف قرب الكعبة وفي ناصيته نور وضياء يشعان ورثهما من آبائه .. يتشاغل عن الالتفات لهن باستقامته وهدوء مشيته وثبات خطواته .

" يا نساء قريش يوشك أن يبعث فيكن نبي .. فأيكن استطاعت ان تكون فراشاً له فلتفعل"، ويبدو أن نسوة قريش حسبن الكاهن، يهذي فرمته بعضهن بالحصباء، وأخريات بسيل من الشتائم والسباب وطردنه من ذلك المكان ..

أما هي، فطوقت نفسها في هدوء اليقين فخفق قلبها بشدة .. فأعاد الخفقان إلى ذاكرتها رؤياها للشمس وبشارة ابن عمها لها.. فتيقنت بان ما حدث لم يكن من قبيل المصادفة .. فوقفت تتأمل تفاصيل المشهد حيث كانت الاصوات تدين بعضها، تعلو وتنخفض، فتبتسم هي لسحب السماء حين تهبها الاحساس بالطمأنينة ... كان الدعاء يصوغ لها أمنية قريبة .. أصبحت متيقنة بأن السحب الخفيفة المحملة بالخيرات ستمر بها قريباً وستدس في يدها عطراً مختلفا تضوعه الأيام بعبق النبوة ..

وهاهي الايام تمر قريبا منها، فترسله إليها أمينا على تجارتها، ويزداد تعلقها به يوماً فآخر، فله شأن عظيم وأمانة وصدق خولته لوضع حجر الكعبة .

ملك الأمر عليها جوانب روحها وهي المرأة المتوقدة الذهن الرشيدة، الباسطة يديها بالعطايا لكل من قصدها .. قادرة هي على أن تقرر شئونها بنفسها لذا قررت الاقتران به لكي لا تضيع فرصة النور يمر بجبينها، فلطالما كانت تتوق له .. وهذا خادمها "ميسرة" يزيد رصيده عندها ويملأها بأخباره ..

حكاية شوق أخرى عاشتها بانتظاره .. انتظرته أن يبدأها، لكن ضيق ذات اليد منعته من التقدم لخطبتها، وكان هو أيضاً تواقا لها فقد عرف من تكون هذه المرأة وما هي سجاياها، فلطالما اشتهر بيتها بأنه كعبة ومنارة للمساكين يؤمه الناس من كل مكان فلا تخيبهم ظنونهم فيها .

أدرك أنها موحدة مفطورة على التدين والنقاء وكان على يقين بأن أية امرأة سواها لم تكن لتحمل معه ثقل الرسالة التي يحملها بين دفتيه، فقد عرفها مؤمنة دون ان تصرح له بذلك ولكن شمائلها ونقاء سريرتها كانا ينبئآنه بأنها إمرأة نادرة الصفاء والنقاء، لا تتكرر بين النساء الأرض مجتمعات .. كانت في نظره الانثى التي تبذل له من نفسها ومالها، تروح عنه الهموم والأحزان، وتتحمل الصعاب وتصبر، تحب من يحب وتهوى من يهوى لذا أقدمت على الاقتران به وعرضت عليه الزواج من نفسها .

وهاهي تمر الأيام فتكشف لكل منهما صدق ما توسمه أحدهما بالآخر .. هو نال منها ما أرادته له السماء، ولقي عندها الحب والعطف والمؤازة والكوثر .. وهي نالت شرف الدنيا والآخرة والحظوة بحبه وشفاعته .. والنور الذي كانت تتوق له من مدارجه مر بجبينها فلم يغادرها دون ولادة الصديقة فاطمة .

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org