مقالات

وقفات مع الشعر والشاعرية – 3 –
 

ضياء العابدي

تلتفُ قصائد الشاعر وتدور حول المرأة التي تُطل من ثنايا هذه القصائد مؤقتةً عابرة، لا يمكنها الإقامة أو الغوص عميقاً في حياة رجل مهموم بها، توّاق للإكتمال بحرائقها وأنهارها. إن المرأة في مجموعات الشعراء، كثيراً ما تنطفيء في منتصف المشهد لتذهب بعيداً، حيث يدفعها الشاعر إلى أقاصي ذاكرته متوّجةً بحماقاتها أو رجالها أو برودتها.

ولكن رغم كل ما يُقال من مثيل هذا القول تظل المرأة مصباً لعواطف الذات الكاتبة.

لقد ظلت المرأة مصدر إلهام لقرائح العديد من الشعراء والأُدباء على امتداد العصور وفي كل أصقاع الأرض حتى أقترن أسم كل من النساء بالشاعر الملهمة له:

عفراء – عروة بن حزام، ليلى العامرية – قيس بن الملّوح، بثينة – جميل، مي – ذي الرِمّة، ورد – ديك الجن، ولادة بنت المُستكفي – أبن زيدون.

وإذا كان العرب قد تميّزوا من بين الأمم بأنهم أمة عشقٍ وشغفٍ بالغين، فلم يكن ذلك من قبيل المصادفة أو الهبة الإلهية المجانية. بل ثمرة تلك الجغرافية القاسية التي تقاسمها الجفاف والرمل ودم الثأر المُتجدد التي حوّلت المرأة إلى أمنية مُشتهاة وواحة يتيمة العشب والماء وسط خراب العالم وبؤسه، على أن المرأة المعشوقة والمُلهمة لم تكن طبعة عربية خالصة، بل يكفي أن نستعرض الأدب والفن العالميين لنرى نساء كثيرات وقد تحوّلن إلى نار دائمة الاشتعال في مُخيّلات الكُتاب والفنانين:

بياتريس – الكاتب الإيطالي دانتي ألجيري، كريستيانا – الفيلسوف الألماني جوتيه، ناتالا – بوشكين، مُنّور – التُركي ناظم حكمت، إلسا – شاعر أسبانيا العظيم أراغون شاعر الحب والسياسة.

وإذا كان من المفهوم والطبيعي أن تؤدي نسبية الجمال الأرضي ومحدوديته إلى أن تنحصر تبعات الحب والإلهام في ثُنائيات قليلة وشديدة التميّز والفرادة، فإن ما يتعدى المُتوّقع والعادي هو أن تتحول امرأة بمفردها إلى مُلهمةٍ لعصرٍ كامل وأن تُهدد بالأرق والإفتتان عشرات من الكُتاب والشعراء والقادة والسياسيين كما حدث مع الكاتبة اللبنانية " ميّ زيادة " في الثُلث الأول من القرن الفائت.

إن المرأ ليحار وهو يستعرض حياة هذه المرأة النادرة وأدبها وسيرتها وفي سٍرٍّ تلك الفتنة التي لم يفلت من شباكها أحد، وذلك الحضور الطاغي الذي ترك العشرات من الكُتاب والعباقرة الأفذاذ يتمرغون لاهثين للحصول على رضى أو ابتسامة أو رفة هدب من امرأة واحدة.

حيث كانت تعقد في صالونها الأدبي مؤتمر أسبوعي في كل يوم ثلاثاء يضمُ العديد من الأعلام في الفكر والسياسة والأدب أمثال:

ولي الدين يكن، أحمد لُطفي السيد، شبلي الشميل، طه حسين، إسماعيل صبري، عباس محمود العقّاد، مصطفى صادق الرافعي، سليمان البُستاني وأحمد شوقي.

وأشتهر إسماعيل صبري ببيتيه الشهيرين:

روحي على بعضِ دورِ الحيِّ هائمةٌ كظاميْ الطيـرِ توّاقـاً إلى المـاءِ

إن لـم أُمتّـع بميَّ ناظـري غـداً لا كان صُبحكَ يا يـوم الثـلاثـاءِ

إن جلَّ من ذُكر اسمه في هذه المقالة قد وقعوا في هوى ميّ ونظموا فيها القصائد والأشعار ودبجّوا رسائل العشق المُؤثرة وخاصةً العقّاد وولي الدين ومصطفى صادق الرافعي. ولكنها في النهاية لم تحظَّ بواحدٍ منهم.

وفي الختام يحضرُني كلام للشاعر نزار قباني بهذا الخصوص عندما يتكلم عن حبيباته في فصل من فصول كتابه ( قصتي مع الشعر ) يحمل عنوان ( حبيباتي ):

" قد يتصوّر القاريء بآني سأعرض له في هذا الفصل قائمة مفهرسة حسب الأحرف الأبجدية بأسماء حبيباتي، ولكني لم أعشق في حياتي سوى أربعة وأظن أنه رقم متواضع أمام سنوات عمري الطويلة، تلك التي أهدتني مصحفاً ذهبياً، وتلك التي ربطت كلبها بمؤخرة سيارتي عندما عزمتُ على الرحيل، وتلك التي أهدتني تلفونا أزرق حتى تصبح الكلمات عبر الهاتف زرقاء، ... لا أستطيع أن أبوح بأسمائهن لأنكم تعرفون السبب، فحين حدثتْ مخاطبات غرامية بين الكاتب عباس محمود العقّاد والكاتبة اللبنانية ميّ زيادة، لاكتهما ألسن الصحافة حتى تعقّدَ العقّاد ودخلت ميّ مستشفى الأمراض العصبية " .
 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org