مقالات

وقفات مع الشعر والشاعرية – 6 –
 

ضياء العابدي

ونحن نتحدث عما أنجزه السيّاب للشعر العربي، ننسى أحياناً أننا نقف على أرضٍ لم يدلنا عليها غيره، وحين نستذكر منجزاته الحقيقة وصلتها بالعصر فأننا نكاد ننسى ثانيةً أننا نُطل، ومعنا الشعر العربي الحديث كله، على هواء وعصر جديدين ما كان لنا أن نُلامسها لولا تلك الفجوة التي أحدثها السيّاب وزملائه في جدار التقليد. ويبدو لي أن القصيدة العربية الحديثة، لا تزال، في الأعم الأغلب تتحرك في الفضاء نفسه الذي رسمه لها السيّاب ورفاقه من الروّاد.

لم تعدْ (وفيقة) صديقة طفولته، محض فتاة ريفية أحبها الشاعر في طفولته أو صباه، كذلك ( جيكور ) قريته ونهرها النحيل (بويب) لا مجرد مكانين فحسب، بل صار عنصرين أسطوريين مشحونين بدلالة زمانية كبيرة، لقد تحوّلت هذه المسمّيات عبر جهد شعري متواصل إلى شخصيات أسطورية مُعبرة.

هكذا حرر السيّاب (وفيقة) و(جيكور) و(بويب) من قيود الزمان والمكان وشحنهما بروح أسطورية متأججة وجعل منها رموز حرة شاملة لا يفيد منها وحده هو بل الشعراء والآخرون أيضاً.

كان شعر السيّاب في صلته بتراثه وعصره معاً، يمثل نقطة تماس متوترة بين الماضي والحاضر، فهو شاعر يستمد بعض عناصر حداثته من أُسس كلاسيكية متينة، والسيّاب حين حاول التجديد في كتابة القصيدة الحديثة فأنه كان قد جرّب القصيدة الكلاسيكية قبل ذلك وعانى مما فيها من ضيق وجمال ووعورة معاً.

كان يتحدث عن فضاءٍ شعري جديد يتسع لروحه بعد أن ضاقت بالأقفاص الذهبية والآبار القديمة.

لقد كان شعر السيّاب ازدهاراً جديداً لشجرةٍ مُمُعنةٍ في القِدم. كان شعره مزيجاً من الضوء والطين، والدم والمطر، والمعاول والأشرعة.

وكان موته مشهداً آخر من مشاهد الخصب والموت الأسطوري، ولم يكن تشييعه إلا قصيدة أخرى من قصائده المُجرّحة: سماء مكفهرة يُشققها الرعد والمطر، وجنازة باكية، ومُشيّعون لا يتجاوز عددهم أصابع اليد.

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@brob.org